- En
- Fr
- عربي
لقاء
اعتبر رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي شارل عربيد أنّ الوضع القائم اليوم هو وضع استثنائي لم يشهد لبنان مثيلًا له في الماضي، ويتطلّب مقاربات استثنائية. ورأى أنّ المطلوب اليوم هو المحافظة على المؤسسات، إسقاط منظومة الفساد، وليس إسقاط الجمهورية. وأسف إلى أنّ المجلس الاقتصادي الاجتماعي مغيّب من قبل السلطة، وهي غير مستعدة للاستماع إلى مؤسسة صاحبة اختصاص، دورها استشاري غير مُلزم، ولكنّه وازن. وللخروج من الأزمة، دعا إلى فتح النقاش حول اللامركزية الإدارية وهي الوسيلة الناجعة لخلق فرص عمل، وللإنماء والابتعاد عن مركزية السلطة، ولمصالحة الناس مع مبدأ الدولة، وبناء الإدارة السليمة.
كلام الأستاذ شارل عربيد جاء في لقاء مع مجلة «الجيش».
• كيف تقيّمون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد حاليًا، وما هي السبل التي تتيح معالجتها بالسرعة الممكنة؟
- إنّ الوضع القائم اليوم هو وضع استثنائي لم يشهد لبنان مثيلًا له في الماضي ولا حتى في أحلك الظروف التي مرّ بها منذ بداية العام ١٩٧٥ ولغاية اليوم، وهو يتطلّب مقاربات استثنائية. أما ما هو الواقع اليوم؟ يمكن القول إنّه توقّف كلّي عن التبادل الاقتصادي وتوقّف كلي عن الخدمات وشلل كامل على مستويات الإنتاج كلها... كل هذا نتيجة حالة اعتراضية كبيرة وتاريخية، أسبابها تراكمية تعود إلى تراجع الوضع الاقتصادي واستسهال فرض ضرائب من قبل القوى السياسية، ما أدّى إلى هذا الانفجار الاجتماعي. صحيح أنّ للاحتجاجات مطالب في السياسة، لكنّ أساسها يعود إلى انفجار اجتماعي عبّر عنه الشعب اللبناني بطريقةٍ حضارية وضمن الضوابط المقبولة. يجب أن نعترف بأنّ الناس الذين نزلوا إلى الشارع هم أناس طيّبون ومطالبهم محقة. وقد أدّت القوى الأمنية وعلى رأسها الجيش اللبناني دورًا أساسيًا في استيعاب الحَراك ورعايته. مع الإشارة إلى أنّ المؤسسة العسكرية من المؤسسات الضامنة ليس فقط للاستقرار الأمني إنّما أيضًا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي.
من جهة أخرى، إنّ توقّف القطاع المصرفي عن العمل ووضع صيغ وضوابط وأساليب جديدة لم يعرفها الاقتصاد من قبل، أثّر سلبًا على الأوضاع. فهل يتحمّل الاقتصاد اللبناني هذه الإجراءات؟ إنّ المطلوب حاليًا هو إدارة الأزمة، ولا مجال لذلك من دون حكومة مهمتها إعادة بناء الثقة والجسور بين الشعب والسلطة. وعلى ضـوء التغيرات الحاصلة، أدعو كل القـوى السياسيـة أن تأخذ ما يحصـل ليـس فقـط مـن منظـار مطلبـي، إنما من باب صـراع الأجيـال واختـلاف الرؤيـة. أيضًا يجب أن نعترف أنّ الجيل الذي يتظاهر في الطرقات هو الجيل الرقمي، هو الجيل الذي تختلف نظرته للمستقبل عن نظرة القوى السياسية. لا يكفي أن تستمع السلطة السياسية إلى مطالبهم، بل عليها أن تتفهّم تركيبة المنظومة الجديدة في العالم. على التقليد السياسي أن يُعيد النظر في سلوكياته وأساليب عمله. إنّ المطلوب الآن وسريعًا تشكيل حكومة توحي بالثقة، قادرة على ضبط الأمور، وتدير الأزمة في الوقت الحاضر Crisis Management، من أجل امتصاص الوقع الأساسي للتراكمات القديمة التي نحن فيها، وهي ليست نتيجة الحَراك بل العكس هو الصحيح. إنّ المطلوب اليوم هو المحافظة على المؤسسات، إسقاط منظومة الفساد، وليس إسقاط الجمهورية. لذا، المسار طويل ويتطلّب من الجميع حكمة، وثقة، وتواضعًا، وإنتاجًا، وإدارة للأزمة، والأهم استخلاص العِبَر من التغيرات. وإلاّ، لا سمح الله، نحن ذاهبون إلى الفوضى والانفجار الاجتماعي، وإلى موجة هجرة لا تتحمّلها التركيبة المجتمعية قد تؤدي إلى تغيير وجه لبنان الديموغرافي.
• ما هو المطلوب لتجنيب لبنان هذا الانفجار؟
- تتطلّب هذه المرحلة الانتقالية إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المتّبعة، ووضع سياسة اجتماعية وميثاق اجتماعي جديد، هذا إلى الأمور التي لها علاقة بحاجات الناس من شبكات الأمان الاجتماعي التي تطال الحماية الاجتماعية، الطبابة، التعليم، السكن، وغيرها. كل ما نسمعه اليوم يقتصر على ميزان المدفوعات، الميزان التجاري، سعر الصرف والنقد... لذا نعود إلى صراع الأجيال وقد ظهر جليًا اليوم. من هنا على القوى السياسية أن تُجمع على خطاب ونمط عمل مختلفَين لمواكبة الأجيال الجديدة. فقضية محاربة الفساد واسترداد الأموال هي مطلب الجميع إن في الشارع أو خارجه. وهذا يتطلّب آليات وقرارات وقوانين وورشة تشريعية لمواكبة هذه المسألة، وقد شاركنا في إعداد دراسات تُساعد في جزء كبير منها على ذلك.
أما العنوان الأهم اليوم، فهو محاربة مستويات الفقر في لبنان وهي عالية جدًا، وبالتالي تؤدي إلى تغيير وجهه المجتمعي. لذا يجب إعادة بناء الطبقة المتوسطة المفقودة، وهذا يستلزم ظروفًا معينة وسنين من العمل. أهم وسيلة لمحاربة الفقر هي من خلال التعليم.
• برأيكم هل نحن أمام فرصة جدية لإصلاح الأوضاع وقيام دولة الرعاية والعدالة الاجتماعية؟
- الفرصة الجدية هي في إعادة التفكير بمنظومةٍ جديدة مختلفة عن القديمة التي لم تنجح. لنعترف بذلك.
أما قيام دولة الرعاية والعدالة الاجتماعية فلا تكون بإعادة توزيع الخسائر إنّما بتوزيع الأرباح. نتكلم دائمًا عن القوى المنتجة أي العمّال وأصحاب العمل وغيرهم. لكن يوجد فئة من الناس عاطلة عن العمل. فماذا يمكن لهذه الفئة أن تقدّم؟ هم بحاجةٍ إلى رعاية الدولة ومساعدتها، لكنّ النتيجة غير مضمونة أيضًا. فإذا وُجدت النية أو الإرادة يمكن النهوض ولكن بأسلوبٍ مغاير ومقاربة جديدة.
• هل تشعر أنّ الجميع واعون لمستوى الأزمة؟
- نعم ولكن بنِسَب متفاوتة. لذا أدعو الجميع إلى الوعي الوطني، وإلى القراءة في الكتاب نفسه. مع الأسف، ما زالت القوى السياسية في بعض الأحيان، في مرمى تسجيل النقاط وإثارة الحساسيات مع إغفال الشق الاجتماعي. لا يقتصر لبنان على القوى السياسية، ولا نفع له من دون المجتمع اللبناني. هناك إعادة خلط لأوراقٍ كبيرة علينا أن نستخلص العِبَر منها، مع إعادة التأكيد أنّ الجيل الحاضر هو الجيل الرقمي الجديد. على الجميع أن يستمع إلى صوت الناس، أن يتواضع، ويقرر المشاركة طوعًا في الذهاب إلى مرحلة جديدة ستكون صعبة وطويلة ومؤلمة. هذا ما حذّرنا منه في السنوات السابقة، ولكن مع الأسف، صار واقعًا اليوم.
ما يفيد في هذه المرحلة بدلاً من العودة إلى الوراء، هو وضع سياسات اجتماعية سريعة لحلّ موضوع المصارف التي عطّلت الدورة الاقتصادية ما أدّى إلى التوقّف عن الدفع. يجب الاستماع الفوري إلى مطالب الناس لإعادة الدورة الاقتصادية. هنا أستشهد بما كتبته وقد أصبح شعارًا: «نحن جئنا من زمن الرأي السائد، إلى زمن الرأي العام». للتوضيح، إنّ الرأي السائد هو ما يقوله عامة الناس، أما الرأي العام فهو الذي يحاسب ويضغط ويدقّق، وهذا ما يجب أن نتعوّد عليه.
• لكنّ الشارع لا يعطي السلطة فرصة للخروج من المأزق!
- من الطبيعي أن تكون ردّة فعل الشارع سلبية وهذه من أساليب الثورات في العالم، لذا يجب أن نعقلن الشارع. أنا شخصيًا أستمع بدقةٍ إلى ما يقوله الشارع، وقد تفاجأت كثيرًا بأداء الشباب والصبايا إلى دور المرأة في هذه الانتفاضة والمشهدية التي أظهرتها والتي لا يمكن تجاهلها. يبقى السؤال الأهم في هذه المشهدية: هل لبنان ما قبل ١٧ تشرين الأول هو نفسه ما بعده؟ الجواب: طبعًا كلا. من هنا يأتي دور المجلس الاقتصادي.
• ما هو الدور الذي يمكن للمجلس الاقتصادي – الاجتماعي أن يؤدّيه في هذه الفترة الحرجة من تاريخ لبنان؟ وما هي العقبات التي حالت دون ممارسة دوره سابقًا؟
- منذ إعادة إحياء المجلس الاقتصادي الاجتماعي من حوالى السنتين وهو مغيّب من قبل السلطة، بحكم التركيبة السياسية الحاكمة وغير المستعدة للاستماع إلى مؤسسة صاحبة اختصاص. صحيح أنّ دورنا الاستشاري غير مُلزم، ولكنّه وازن.
في هوية المجلس، هو مجلس ميثاقي، تمثيلي، استشاري، ومستقل. هو همزة الوصل بين صوت الناس والسلطة التنفيذية خصوصًا في الشق الاجتماعي. لقد أبدينا الرأي أكثر من مرة حتى ولو لم يُطلب منّا ذلك. لا يجوز أن نواصل توصيف الماضي من دون إيجاد حلول، ويجب أن نفتح باب النقاش الكبير Le Grand Debat.
إنّ هدفي الشخصي هو أن يصبح المجلس الاقتصادي مجلس الشراكة المواطنية La Participation Citoyenne كما هي الحال في فرنسا. كما أطمح إلى أن يصبح مجلس المجتمع المدني. هذا النقاش كنّا قد بدأناه من حوالى ٨ أشهر وليس وليد الساعة، لأنّ المجلس الاقتصادي هو المكان الصحيح للمجتمع المدني (نَفَس المواطنة) للتعبير عن أفكاره وهواجسه ومشاريعه.
• ما هي الخطوات التي قام بها المجلس منذ بدء الانتفاضة؟
- لقد قمت بمبادرةٍ شخصية من دون تكليف من أحد، وتواصلت مع مجموعة كبيرة من رموز الحَراك الذين أعرفهم من قبل، وبعد استبيانٍ قمت به حول سؤالين هما: ما هي مطالب الثورة؟ وما هي آليات العمل؟ جمعت الردود التي وصلتني وقد نتج عنها مجموعة مطالب تتلخّص بالآتي:
أولًا، تشكيل حكومة مستقلة مع صلاحيات استثنائية.
ثانيًا، انتخابات نيابية مبكّرة وفق قانون حديث.
ثالثًا، محاربة الفساد واسترداد المال العام وفق القوانين التي لها علاقة بهذا الموضوع.
رابعًا، بدء العمل في بناء الدولة المدنية.
خامسًا، إيجاد سياسة اجتماعية تُضاف إلى شبكات الأمان التي تحدثنا عنها.
هذه النقاط الخمس هي المسار الصحيح على أن تتم وفق روزنامة واضحة ومعلنة، وتكون آليات تنفيذها عبر المؤسسات ومن خلال القوانين.
• ما هي التدابير والإجراءات العملية التي يمكن للدولة أن تتخذها لإرساء الثقة والمباشرة في إصلاحات جذرية؟
- البدء فورًا بالإصغاء أكثر إلى صوت الناس، ولو أنّ مجموعة الحَراك لا تمثل كل فئات المجتمع اللبناني، وهم لا يدّعون ذلك، من ثم التواضع والابتعاد عن تسجيل النقاط في السياسة في الوقت الحاضر من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه على كل الأصعدة، رعاية الواقع الاجتماعي الصعب جدًا، والتفكير بالصيغة المناسبة للخروج من الأزمة. ما هو الحلّ؟ جوابي الشخصي، وليس كرئيسٍ للمجلس الاقتصادي - الاجتماعي، هو الذهاب فورًا من خلال هذه التجربة إلى فتح النقاش الجدِّي حول اللامركزية فهي الوسيلة الناجعة لخلق فرص عمل، وللإنماء والابتعاد عن مركزية السلطة، ولمصالحة الناس مـع مبدأ الدولــة، وبناء الإدارة السليمة.
أتمنى أن تنعكس الخَضّة التي نشهدها اليوم، والواقع الذي نعيشه، إيجابًا على حرية إبداء الرأي وتغيير النمط، ولكن الأهم أن نسلك طريق اللامركزية.
في الختام، أحيّي زمـلائي في المجلس الذين يبذلون جهودًا جبارة ويعطون من وقتهـم وخبرتهم خصوصًـا على صعيد عمل اللجان. كما أودّ أن أذكّر أنّ هيئة المكتب والأعضاء في المجلس لا يتقاضون رواتب ولا حتى بدل حضور، إنّما عملهم تطوّعي محض. مع الإشارة إلى أنّ المجلس من المؤسسات التي لا تصرف من موازنتها إلا الثلث.