- En
- Fr
- عربي
العوافي يا وطن
إبني أنطوني يريد التطوّع في الجيش، عبارة بادرتني بها موظفة البنك عندما سألتني عن وظيفتي فيما كانت تنجز معاملة خاصة بي.
للوهلة الأولى خطر ببالي أنّ أنطوني الذي يريد التطوع في الجيش يعاني كالكثيرين من الشباب البطالة وقد سدت في وجهه أبواب الرزق. لكنّ نسبة الحماسة في نبرة صوتها جعلتني أُعيد النظر في انطباعي الأول. سألتها وماذا يفعل أنطوني حاليًا؟ أخبرتني أنّه طالب، يتابع السنة الثالثة من دراسته الجامعية في اختصاص التربية البدنية. ولماذا يريد التطوع في الجيش في هذه الظروف؟ أعتقد أن اختصاصه يخوّله إيجاد عمل آخر...
أجابت: هو يعشق حياة الجيش، جارنا ضابط في أحد الأفواج الخاصة، وهو يحبه جدًا وينظر إليه كمثالٍ أعلى. حلمه أن يدخل الكلية الحربية لكن الأمر صعب حاليًا كما علمنا، لذلك يفكّر في التطوّع كجنديٍ على أن يتابع دراسته. في الجيش يراعون ظروف العسكريين الذين يتابعون تعليمهم كما أخبرنا جارنا الضابط، صحيح، أليس كذلك؟
صحيح، قلت لها، وسألتها: وأنت ما رأيك؟ هل تشجعينه على التطوع في ظل هذه الأوضاع؟
قالت: الأوضاع لن تستمر على ما هي عليه، والأزمة لن تدوم إلى الأبد. أنا أنظر إلى المستقبل بتفاؤلٍ وثقة، من جهة أخرى لا أريد لأولادي أن يهاجروا.
وأضافت: عندما نتحدث أنا وأنطوني وأرى اندفاعه لارتداء بزة الجيش، أشعر أنني أمام رجل واثق من خيارته، لا أمام شاب متهوّر. هو يسأل عن كل التفاصيل، يُدرك أنّ راتب العسكري لا يكفي لقضاء سهرة بالنسبة لشاب في عمره، لكنّه يُدرك أن الضمانات التي تقدمها المؤسسة العسكرية أيضًا لا تتوافر في أي قطاع آخر، وأهم من كل ذلك أنّه يريد أن ينتسب إلى هذه المؤسسة.
«انشالله خير، الله يحميه ويوفقه»، قلت لها، فردت بابتسامةٍ مشعّة قائلة: «الله يحمي كل الشباب ويحمي هالبلد».
أنطوني ليس حالة فريدة من نوعها، ثمة الآلاف مثله يتقدّمون بطلبات تطوّع في الجيش، وقد فاق عدد هذه الطلبات في الآونة الأخيرة الـ٢٥ ألفًا. نعم، بينما يشكو القطاع العام برمته من هجرة الكفاءات والنخب بنسبٍ مريعة، ويُضرب عن العمل من بقي فيه تحت وطأة الأزمة الساحقة وانهيار قيمة الرواتب، يُقبل الآلاف من الشباب على المؤسسة العسكرية متمنين الانضواء في صفوفها.
هؤلاء يمثلون شريحة تسير بعكس المتوقع، وهي شريحة ينبغي أن يسترعي وجودها الانتباه. فمن جهة يظهر الإقبال على التطوع كواحدٍ من نتائج اليأس من وجود فرص عمل أفضل تؤمّن ضمانات أساسية أبرزها الطبابة. لكن هذا العامل لا يشكل السبب الوحيد والحاسم لخيار الالتحاق بالجيش، فإلى جانبه وقبله وبعده، تأتي جملة عوامل لا بد من استكشافها والبناء عليها.
أولًا: ينبغي أن نتوقف عند أداء الجيش في هذه المرحلة الصعبة وما له من انعكاسات على صعيد العسكريين خصوصًا واللبنانيين عمومًا. فقد أثبتت المؤسسة لعناصرها وللجميع أنّها مهما تردت الأوضاع لن تترك أبنائها يواجهون مصيرهم وهم عراة من مقومات الرعاية والحماية الأساسية. وهي استطاعت تجاوز الصعوبات الهائلة، وإيجاد الحلول التي تحفظ للعسكريين وعائلاتهم مقومات العيش بكرامةٍ، وإن حرموا الترف، فهو أصلًا خارج حساباتهم، حتى في أيام الخير والبحبوحة. وبذلك قدّمت هذه المؤسسة نموذجًا للإدارة العامة الناجحة القادرة على التكيّف مع الظروف ومواجهتها بمرونةٍ وذكاء.
ثانيًا: عززت المؤسسة العسكرية صورتها المشرقة بفضل صمودها ونهوضها ليس بمهماتها التقليدية فقط، وإنما بالمزيد من المهمات الصعبة التي فرضتها الظروف الطارئة. وهذه الصورة المجللة بالاحترام والتقدير والثقة، تؤدي دورًا مهمًا في جذب الكفاءات إلى صفوفها. فالعسكري يُدرك ويشعر كل لحظة بالرصيد الذي تمنحه إياه بزته، يكفي أنّه في وجدان الناس «وطن».
ثالثًا: يكشف اندفاع الآلاف إلى التطوّع في الجيش أنّ ثمة شبابًا ما زالوا يراهنون على نهوض الدولة في لبنان، وهذا ليس بتفصيلٍ، وإنما عامل مهم ينبغي العمل على تعزيزه. فهل من خيار سوى نهوض الدولة لنهوض لبنان؟ وهل من نموذج مشرق للدولة فيه سوى الجيش؟
«الجيش دولتنا» يقول أحدهم، لكن القائل ليس وحيدًا بالطبع، فالقول هنا تعبير عن وجدان جماعي. وجدان تتمثل إحدى انعكاساته بهذا الفيض من الطلبات التي ترد يوميًا إلى اليرزة بهدف الانتماء إلى مؤسسة تحتضن الوطن.
بورك شبابنا الذي ما زال مؤمنًا ببلده، بورك من حسم أمره واختار وطنه.
العوافي يا جيشنا
العوافي يا وطن