في الذاكرة

صبوحة لبنان وشحرورة الفن والفرح
إعداد: تريز منصور


«شمسك لن تغيب»
هي شحرورة الغناء وصباح الجمال والحياة. حياتها لم تكن سهلة على الأرجح. خلف ضحكتها وإشراقتها كم اختبأت أسرار وأحزان من يعرف؟ ومن يجزم؟ ما يسهل الجزم بأمره أن هذه المرأة وصلت إلى الدنيا مزوّدة وصيّة: أنشري الفرح والفرح والفرح... نفّذت الوصيّة بحذافيرها مستخدمة مزايا عديدة أعطاها إياها الخالق: حنجرة ذهبية قارب أداؤها الإعجاز في «كرّة الأوف»، جمال، رقّة، طيبة قلب وتواضع نادرين.

 

التي لا شبيه لها ولا مثيل
صباح التي رحلت، لا شبيه لها ولا مثيل، «وحدها تستحق عرس الوداع في قلب الفرح الذي تلاقى فيه الناس...»، على ما كتب رئيس تحرير «السفير» طلال سلمان.
فجر الأربعاء 26 تشرين الثاني 2014 غابت شمس الشحرورة صباح، في مقرّ إقامتها في فندق برازيليا في منطقة الحازمية عن عمر يناهز 87 عامًا. لم يكن دفنها تقليديًا نهار الأحد في 30 تشرين الثاني، بل كان عرسًا، حيث اجتمع محبّوها لينفّذوا وصيّتها، ليفرحوا ويحتفلوا معها برحلتها الأخيرة إلى أحبائها الذين سبقوها. وفي ذلك اليوم عادت «الصبوحة» إلى ضيعتها بدادون، عادت لتقبّل تراب الأرض التي شهدت طفولتها وفترة صباها، تلك الأرض التي أنبتت إلى العالم صبيّة شقيّة تحوّلت إلى رمز من رموز لبنان، «صباحه» التي لا تغيب ولن تغيب مدى الدهر.

 

تنفيذًا لوصيّتها!
منذ أن أُعلن أن «الصبوحة» غادرت هذا العالم الى «دنيا الحق»، بدأت التحضيرات لتنظيم وداع يليق بمن أعطت الفن ولبنان الكثير الكثير.
صوت «الصبوحة» صدح يوم وداعها في سماء بيروت، حيث عزفت موسيقى الجيش مجموعة من أغانيها التي تسكن الذاكرة وفي طليعتها «تسلم يا عسكر لبنان».
قرب كاتدرائيّة مار جرجس للموارنة في وسط بيروت، احتشد الناس منذ الصباح الباكر، لبسوا الأحمر وأعلام لبنان، وصفقوا وردّدوا أغانيها، حملوا الورود وصورها، منفّذين وصيتها.
حرص كثيرون على المجيء للمشاركة في وداعها الأخير من سياسيين وفنانين وإعلاميين لبنانيين وعرب، وواكب اللبنانيون والعرب وقائع وداعها التي بثّت مباشرة على الهواء.
خرجت الشحرورة في رحلتها الأخيرة برداء صمّمه بسام نعمة وفاء «لأيقونة الموضى» وانطلق نعشها الذي لفّ بالعلم اللبناني من فندق برازيليا في الحازمية، على وقع الدبكة وأغنية «تعلى وتتعمّر يا دار». توقّف الموكب عدّة مرّات على حواجز محبّة نصبها الناس على الطرقات ليودّعوا شحرورتهم الغالية، قبل أن يصل إلى كاتدرائيّة مار جرجس، حيث احتفل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بالصلاة لراحة نفسها، وتحدّث في عظته عن «الصبوحة» التي تركت إرثًا كبيرًا للبنان والعالم، معتبرًا أن غصنين من أغصان أرزة لبنان قد انكسرا هما صباح وسعيد عقل.

 

انطلاقة الشحرورة
ولدت جانيت جرجي فغالي المعروفة بصباح، في بلدة بدادون في 10 تشرين الثاني من العام 1927 وهي الثالثة بين إخوتها. إرتبط إسمها بغناء المواويل والميجانا والعتابا والأغنيات البلدية الفولكلورية، ومن ثم الأغنية المصرية، وفي سجلّها أكثر من ثلاثة آلاف أغنية لكبار الملحنين مثل محمد عبد الوهاب وزكي ناصيف والأخوين رحباني وتوفيق الباشا وبليغ حمدي وجمال سلامة وسواهم.
استطاعت الشحرورة أن تفتن العالم العربي بخفّة ظلها وبجمالها، إضافة إلى موهبتها.
في سن الرابعة عشرة، نالت شهرة محلية، ولفتت انتباه المنتجة السينمائية اللبنانية الأصل آسيا داغر التي كانت تعمل في القاهرة، فأوعزت إلى وكيلها في لبنان قيصر يونس لعقد اتفاق مع صباح حول ثلاثة أفلام دفعة واحدة، وكان الإتفاق بأن تتقاضى 150 جنيهًا مصريًا عن الفيلم الأول ويرتفع السعر تدريجًًا.

 

اسم على مسمّى
وصلت جانيت فغالي إلى مصر برفقة والدها، وفي مقهى في شارع فؤاد الأول، ولد اسمها الفني صباح، الذي أطلقه عليها الشاعر صالح جودت، لأن وجهها كان مشرقًاًّ كنور الصباح. وتردّد أن آسيا نشرت صورة لجانيت في مجلة «الصباح المصرية» طالبة إلى القراء اختيار اسم فني للوجه السينمائي الجديد، فكان إجماع على صباح.
أحضرت آسيا داغر كبار الملحنين للاستماع الى جانيت وإبداء رأيهم بصوتها، فكان إجماع على أن صوتها غير مكتمل المعالم، إلا أن المخرج هنري بركات وجدها صالحة للتمثيل السينمائي نظرًا إلى خفة ظلّها.
في العام 1943 ظهرت صباح مع أنور وجدي في فيلمها الأول «القلب له واحد» الذي أخرجه هنري بركات، وغنّت فيه أغنيات من ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد.
بعد ذلك اتجهت إلى الأغاني الخفيفة التي تلحّن وتؤدى بسرعة ويسمعها الناس وينسونها بسرعة، وسماها بعض النقاد في ذلك العهد «مطربة السندويش». نجحت في هذا اللون لكنها انصرفت عنه بعد فترة وأطلّت بالأغاني التي لحّنها لها كمال الطويل، وكشفت قدرات صوتها. منذ ذلك الحين بدأت تتحوّل إلى مطربة بعدما كانت أقرب إلى المونولوجيست.

 

بين الفن والأمومة
صعد إسم صباح في الغناء وفي السينما وعلى المسرح وحققت نجومية كبيرة، وخلال ثلاثة عقود من الزمن تجمّع في جعبتها الفنية 83 فيلمًا بين مصري ولبناني، و27 مسرحية لبنانية أبرزها «موسم العزّ» و«دواليب الهوا» للأخوين رحباني و«القلعة» و«الشلال» لروميو لحود، ونحو 4000 أغنية.
وقفت صباح على مسرح الأولمبيا في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية، وذلك في منتصف سبعينيات القرن العشرين، كما وقفت على مسارح عالمية أخرى، منها دار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا، وقاعة ألبرت هول في لندن، ومسارح في نيويورك ولاس فيغاس.
اشتهرت صباح بكثرة زيجاتها، إذ وصل عدد أزواجها إلى تسعة وهم: نجيب شماس (والد ابنها الدكتور صباح شماس)، خالد بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، أنور منسي (والد ابنتها هويدا)، أحمد فراج، رشدي أباظة، يوسف شعبان، النائب يوسف حمود، وسيم طبارة، فادي لبنان.

 

ملكة الأناقة
المعروف عن صباح حبّها للجمال وللأزياء. كانت تقول «أتمنى إذا خسرت ثروتي، أن لا أخسر جمالي وأناقتي». وتحاكي فساتين صباح تاريخًا حافلًا طبع مسيرتها الفنية والوطنية من مهرجانات بعلبك إلى بيت الدين، ودير القمر، والأرز.

والفضل بذلك يعود إلى المصمّم اللبناني وليم الخوري الذي رافقها لأكثر من 40 عامًا، أعطته خلالها كامل الثقة في اختيار التصاميم والألوان التي تليق بها. وقد صمّم لها أكثر من 360 فستانًا، عرض 55 منها في معرض دبي الدولي 2010 للمقتنيات القديمة، حيث لاقت اقبالًا كثيفًا، لكنه رفض أن يبيع أي قطعة منها، معتبرًا أنها من أهم الأيقونات التراثية.

 

نهاية الرحلة
الشهرة والأضواء لم تحمِ صباح من الحزن والإنكسار، لكنها حافظت دائمًا على إشراقتها وحبها للحياة.
قضت «الصبوحة» سنواتها الأخيرة في فندق «برازيليا» في الحازمية، ورافقتها في هذه الفترة إبنة شقيقتها المخرجة اللبنانية كلودا عقل. وكانت عقل أوّل من نعى الشحرورة عبر صفحة الفايسبوك التي خصصتها لها منذ فترة، ونشرت عبارات تلخّص وصيّتها: «قالتلي قوليلن يحطو دبكة ويرقصو، بدي ياه يوم فرح مش يوم حزن».
رثى صباح سياسيون وفنانون وإعلاميون كثر. ووسط ضوضاء الكلام برزت عبارة «شمسك ما بتغيب» مذيّلة بتوقيع السيدة فيروز. ثلاث كلمات اختصرت الكلام، وأكدت أن الصبوحة باقية في وجدان الناس، ما بقيت «أوف» الفرح و«يا ليل» الطرب و«آه» الشجن الآخذ إلى النشوة، تسحبهم إليها مسحورين...»، وفق طلال سلمان.