متاحف في بلادي

صرح ثقافي جديد في بسكنتا
إعداد: جان دارك أبي ياغي

يحمل إسم «المعلم» عبداللـه غانم ويسهر على تراثه

تخليدًا لذكرى كبير في الشعر والأدب والفكر، ولتعزيز الحركة الثقافية في مسقط رأسه وفي الوطن، قررت مؤسسة عبدالله غانم إنشاء متحف ومركز ثقافي ومكتبة باسمه.
في بسكنتا جارة صنين، جبل الشعراء والأدباء إرتفع الصرح الثقافي الجديد، ومن أهدافه السهر على تراث المعلم وإحياؤه ونشره. «الجيش» زارت الصرح...
توقفنا أمام المنزل الذي ولد فيه عبدالله غانم، وهو يقع على طرف ريفي جميل من أطراف بسكنتا، غير بعيد عن مركز المؤسسة.
في هذا المنزل الذي يرشح الشعر من حجارته، فتح الشاعر عينيه على نور الحياة وأغلقهما على نور الموت. وفيه أخذت شجرة الأدب تعلو وتتفرّع، فكانت الأغصان لبنانية المنبت، عربية الهوى، وإنسانية النزوع.


عبدالله غانم (1895- 1959)
ولد عبدالله بن جرجس عبدالله غانم، في بلدة بسكنتا العام 1895، وتوفي فيها العام 1959. عاش، على غرار أهل الريف، طفولة من مميزاتها السكينة، والبهاء، والكفاف، والوعر، والهواجس، والأحلام. تلقّى تعليمه الابتدائي والتكميلي في مدارس بسكنتا، والثانوي في مدارس قرنة شهوان. إنصرف بعدها إلى التحصيل الذاتي في العلوم الإنسانية وعلوم اللغتين العربية والفرنسية وآدابهما، إضافة إلى لغات أخرى (الإنكليزية والإسبانية والسريانية)، وعلم الأساطير.
 عمل معلمّاً للغة والآداب العربية في مدارس بلدته وفي مدرسة المونسنيور حبيقة في بسكنتا، ومارس الكتابة في الصحف تحت إسم مستعار (العندليب).  أصدر جريدة  «صنين» (1929) وهي لبنانية أسبوعية جامعة، عنيت بالمجتمع والأدب والسياسة والاقتصاد. بعد ذلك أصدر مجلة «الدهر» (1937) وهي شهرية اهتمّت بالرواية والأساطير والأدب والاجتماع، كذلك  عمل رئيسًا لـ«لجنة مياه صنين» لسنوات، واهتم بشؤون وطنه وقضايا أمته في مقالاته وافتتاحياته الأسبوعية في جريدة «صنين».

 

على سفح صنين
تعلّق عبدالله غانم بطبيعة بسكنتا الخلابة واستوحى منها شعره، فكتب قصائده على سفح جبل صنين أو على تلة ضهر الحصين المطلة على الوادي السحيق، وغنى قصائده مطربـون كبار في طليعتهم فيروز (دقّت على صدري وقالت لي فتحوا... من ديوان «العندليب»)، ووديع الصافي.
 من أبرز دواوينه: «فوق الضباب» (مطولـة تتألـف مـن تسعـة أناشيـد، فـي كـل نشيـد عشر رباعيات)، «ضباب» (قصائد وجدانية تأملية ووطنية)، «الرؤى» (من شعر المناسبات)، «العندليب» باللهجة اللبنانية. له قصائد منشورة في مجلات عصره:  «شعر»، «الحكمة»، «مواقف»، وفي صحف  المهجر.
 له مسرحية نثرية بعنوان «شيطان البرج» (1930) تتخللها مقاطع وأبيـات شعريـة،  وأخـرى فولكلوريـة بالعاميـة اللبنانيـة (نتيجة الحلــم)،  وثالثــة مخطوطــة (شيرين)  وهي نثرية تتخللها مقاطع من الشعر الفصيح.  كذلك له مجموعة من الروايات والقصص منها: «أساطير»، صدر نصفه الأول في مجلة «الدهر» (1938)، ونصفه الثاني في الأعمال الكاملة، «جبل النساك»، قصة طويلة (1946)، «بعد الخطيئة»، قصص (1955)، «دبق عصافير»، مجموعة قصصية، «راهبة وسمسارة»، مجموعة قصصية. أصدر كتابين في النقد الأدبي: «الحضارة الأدبية» و«كتابات من صنين»، وله مؤلف مدرسي بعنوان «الكتاب الجديد» للمرحلة الابتدائية.  
نــال عبدالله غانـــم جوائـــز مــن إذاعــة لنــدن وإذاعـــات عربيــة، وأقيمــت بعــد وفاتــه احتفالات تكريمية وتأبينيــة تناولــت سيرتــه وأعمالــه، وأعــدت عنــه دراســات علميــة نـال أصحابهـا درجـة الدكتـوراه.

 

في المركز
فـي منطقـة الحصيـن التي كانت مسرحًا من مسارح خيال الشاعــر، وفي مواجهة الجبال المحيطـة ببسكنتــا، وأمام الوادي السحيق المتجّه صوب البحر، تقوم المؤسسة بطوابقها الأربعة، وبهندستهـــا الجامعة بين الحداثـــة والأصالــــــة، بانتظـــار أن تصبـــح علامـــة مميــزة من علامــــات نهضتنــا، ونقطة من نقاط السياحة الثقافيــة.
عنـــد المدخـــل، يستقبلــك ظـــل «المعلـــم» عبدالله غانم جالســًا وبقربـه كتــاب وفــي يـــــده «عصـا العندليب». تمثاله الصخـــري المصنـــوع مـــن حجـــر «التفتـا» (TEFTA) ابتدعـه إزميل الإخوة عسّاف.
أمـام التمثــال، توقّفنـا مليًا مـــع نجلــه الشاعــــر والفيلســـــوف روبيــر غانـــم وابنـــه الفنــان ميشــال غانــم اللذيــن رافقانـــــا في الجولة. شكــــل التمثــــال مستوحــــى مـــــن «وكــر العندليب»، التجويف الهندسي الطبيعي بين صخرين، الواقع على قمـــة جبــل صغيــر (ضهــر الحصيــن) والمطلّ علـــى مناظـــر نــادرة وساحــرة، وهو قريـــب من مركـــز المؤسســـة، حيث كان شاعـــر «العندليب» يختلي للنظـــم. وقـــد حفـــر علـــى قاعدتـــه:
جئت هذا الوجود فردًا ولمَّا
سرتُ عنهُ أمسيتُ كلَّ الوجودِ

 

وفي المتحف
نودِّع الشاعر في الخارج ونتواعد في الداخل. أمينة سرّ المؤسسة لورين البلعه كانت بانتظارنا. نبدأ الجولة من طابق المتحف حيث كتبه وقلمه وأوراقه وأدواته وحبر قصائده وأحلامه...
لوحات من شعره تزيّن جدران المكان:
أنا مِن لبنان من جار السماءْ
من بحورِ الشعر من وزنِ الغناءْ
من بهاءٍ، من صفاءٍ، من رجاءْ
أنا منهُ  لستُ من طينٍ وماءْ
هذه الكلمات غنّتها في منتصف الخمسينات المطربة زكية حمدان (والدة الموسيقار عبد الرحمن الباشا)، وهي منشورة في ديوان «ضباب».
على جدار آخر، قصيدة أخرى بعنوان «تبارك الأدب» (من كتاب «الرؤى») ألقيت في منتصف الخمسينيات إثر فوزه بالجائزة الأولى التي نظّمتها محطة الـ BBC البريطانية في أوتيل النورماندي - بيروت، بين شعراء العالم العربي في حضور رؤساء جمهورية وشخصيات أدبية وسياسية.
يقول مطلعها:
تبارك الأدبْ
يا أيُّها العربْ
مِن صلةٍ بها
توحَّدَ النَّسَبْ
والشاسِعُ اقتربْ
لوحــة أخرى فوتــوغرافية اشتهـر فيها عبدالله غانم وهو في ريعان الشباب (يوم كان عمره 30 عامًا)، تزيّن غلاف كتابه «العندليب».
وسام الأرز الوطني يتوّج نضاله في الأدب والشعر منحه إياه فخامة الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب بعد وفاته العام 1961.
ننتقل إلى خزانة زجاجية حيث مخطوطات بخط يده منها ديوان « فوق الضباب»، قصيدة كتبت على سند إيجار، وصفحة من مخطوطة «العندليب».
في الخزانة نفسها رسالة إعجاب برواية «جبل النساك» من صديقه عبد الخالق محفوظ من الهرمل، ورسالة أخرى تعود إلى العام 1955 من ميخائيل نعيمه إلى المعلم عبدالله غانم يوم كان رئيس لجنة مياه صنين، يطلب فيها منه أن يوعز إلى نواطير المياه بري حديقته... شهادة نهاية الدروس محتفظ بها مع العلامات التي حصل عليها فـي كل المواد: «عظيم جدًا، جيد جدًا، وممتاز».
في خزانة أخرى، وضعت أغراضه الشخصية: هويته، بطاقة التعاونية، سبحته الخاصة، عملة لبنانية (من فئة عشرة قروش)، القلم الذي كان يكتب فيه، المحبرة، السيجارة الأخيرة التي لفّها بيديه ولم يستطع تدخينها، عصاه التي أهداه إياها نسيبه قبلان غانم وعرفت بـ«عصا العندليب»، وجرس المدرسة الذي رماه باتجاه تلميذ مشاغب، إلتقطه وهرب به، لكنه أعاده إلى الورثة بمناسبة إنشاء المتحف.
مكتبه الصغير الذي شهد إنتاجًا غزيرًا وضع في إحدى زوايا طابق المتحف، وإلى جانبه قنديل الكاز الذي على ضوئه نظم أجمل قصائده.
في مكان آخر، هواياته تحتل حيّزًا من المتحف، كلعبة المنقل وطاولة الزهر.
إنتاجه الفكري والصحافي جُمع في خزانة واحدة حيث نجد نسخة من جريدة «صنين» (1946) التي كان يرأس تحريرها، مجلة «الدهر»، الطبعة الأولى من كتاب «العندليب»  (وقد فقدت)، وبعض مؤلفاته المطبوعة في حياته كـ«رواية جبل النساك»، «كتاب الأجيال» وغيرها... هذا إلى عدد من الصور الفوتوغرافية التي يظهر فيها الشاعر عبدالله غانم في مناسبات مختلفة.
ونخرج إلى شرفة المتحف المطلّة على منطقة الحُصين، المكان الأحبّ إلى قلب الشاعر، وعلى الجبال الثلاثة المحيطة ببسكنتا: جبل صنين، جبل الزعرور وجبل باكيش.

 

قاعة الأبناء والمكتبة
هؤلاء هم بنوه: جورج وروبير وغالب ورفيق، يسلكون الخط الأدبي الحضاري الإنساني الذي سلكه الوالد، ويحملون أقلامًا وأحلامًا. ولكل واحد منهم زاوية خاصة به في قاعة تجمع نماذج من إرثهم الفكري، تحرسه عين أمهم السيدة يمامه محفوظ غانم حبيبة العندليب.
امــا المكـتبـــة، التي تقــع في الطابـق الثـالــث، فتتـسع لحوالى 12 ألف كتاب تضم حالياً 3000 كتــاب في مختـلـف العلــوم والمعـارف.
أما قاعة الإجتمــاعات في الطابق الرابع فمخصصــة لاستقبــــال لقاءات أهل الفكر والأدب ونقاشاتهم، وهي تطل على أجمل ما يحيط بالبلدة من جبال.
وفي الطابق السفلي، قاعة مفتوحة أمام الجميع لعقد الندوات والمحاضرات الفكرية والثقافية.


حديقة عبدالله غانم
ختام الجولة كان في حديقة عبدالله غانم الثقافية التي تحيط بالمركز، والتي تمّ إنشاؤها «بهبة من الشعب الأميركي» في إطار «مشروع درب الجبل اللبناني».
تضم الحديقة مدرجًا ومسرحًا مطلاً على وادي الجماجم، صُمم ليستضيف النشاطات الأدبية. تزيّن زواياها لوحات رخامية محفور عليها أبيات شعرية للشاعر عبدالله غانم يتغنّى فيها ببلدته بسكنتا:
هَوْنْ اشْلحيني هَونْ فوق التل
 قلبي ملزّقْ هونْ ما بيفلْ
بِرجَعْ زهورْ وعْشابْ وعْصافيرْ
 لِمّنْ بْموتْ وعْناصري بْتنحَلْ...   
وعلى أخرى:
هونْ اشلحيني بْجبّ هالزعتر
مطرح ما كنّا بالهوى نسكرْ
وشو معذّبك تا تحرقي بخورْ
الأرض مندل والسما عنبرْ
يجدر بالإشارة أن المتحف إفتتح بتاريخ 14 آب 2011 برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، ويفتح أبوابه في فصل الشتاء طوال أيام الأسبوع ما عدا يومي الإثنين والخميس من الساعة 10 صباحًا ولغاية الساعة 5 مساء. وفي فصل الصيف، طوال أيام الأسبوع ما عدا يوم الإثنين من الساعة 9 صباحًا ولغاية الساعة 7 مساء.

تصوير: جاك واكيم