رحلة في الانسان

صناعة الترف...
إعداد: غريس فرح

نهم أخطبوطي يتحكّم بالجيوب والعقول

أصحاب الثروات لا يكتفون بما لديهم، لأن شعور الغبطة الذي تثيره الأموال المكدّسة في حساباتهم، يتحوّل مع الوقت الى إدمان هوسي يدفعهم الى المزيد من التحصيل، وبالوسائل شتى. ومع هذا الميل القسري الذي تفرضه ظروف الأثرياء والمشاهير، ينمو شعور داخلي آخر: شعور يدفعهم الى تمييز أنفسهم عن الغير، وبالتالي بناء جدار جليدي يفصلهم عمن حولهم.
والأثرياء كبشر يستسيغون هذا الشعور لأنه يعزّز غرورهم ويقنعهم بأنهم مختلفون، وبأن عالمهم عالم آخر مغلق، لا يُسمح بدخوله إلاّ لمن يملك ما يملكون. واللافت أن العارفين بمكامن هذه المشاعر تمكّنوا من إستغلالها بخبث وذكاء لجني الأرباح، واللحاق بركب المجتمع المخملي المقفل. إنهم التجار ومصنّعو أدوات الترف وسلعه التي ترضي غرور الأثرياء، وتملأ جيوبهم.

 

عالم خاص
«صناعة الترف» العالمية طاولت عدداً لا يحصى من مرافق الحياة الخاصة والعامة، عدا الملابس والمقتنيات الشخصية الباهظة الثمن.
فخلال العقود الأخيرة، وتحديداً منذ بداية الستينيات، إتّسعت الهوة بين الفقراء وميسوري الحال من جهة، وبين أصحاب الثروات من جهة ثانية، وهو ما أدى الى نشوء صناعات وأسواق مستحدثة، اقتصرت على فئات إجتماعية محدودة. ومن هذه الصناعات، الملابس صنع «الماركات» العالمية البرّاقة والمجوهرات واليخوت والسيارات المصمّمة خصيصاً لأصحابها من حملة الملايين. ولا ننسى قطاع الخدمات كالفنادق، والمطاعم، والمنتجعات التي لا تطأ أرضها إلاّ أقدام الأثرياء والمشاهير، أو بعض الدخلاء من أصحاب الغرور الراغبين بالشهرة والتقليد.

 

آخر التقارير عن الثراء العالمي
يزداد الأثرياء يوماً بعد يوم، لأن الظروف الإقتصادية العالمية، والتي نشأت بفعل العولمة، وبالتالي انفتاح المجتمعات بعضها على بعضها الآخر، حتّمت ولادة عقول منفتحة على كل ما هو جديد، ودفعت بأعداد من الأجيال الصاعدة الى تحدّي الواقع، والتخطيط لما يخدم مصالحها في عالم أصبح حكراً على أصحاب الثروات. لذا، وحسب آخر التقارير التي أصدرتها مؤسسة ميريل - لينش - كابغيميني عن الثراء العالمي في العام 2006، فإن عدد أصحاب الملايين كان قد وصل حتى تاريخ صدور التقرير، الى حوالى ثمانية ملايين ونصف المليون شخص. كذلك، عرف من المصدر نفسه أن رصيد الأثرياء العالمي إزداد بشكل لافت خلال العقد الحالي، إذ وصل الى حدود 33.3 تريليون دولار أميركي، بينما لم يتجاوز الـ16.6 تريليون دولار خلال العقد الماضي. وهذا النمو الهائل في الثروات العالمية، رافقه بالمقابل نمو مماثل في صناعة السلع ذات الأسعار الخيالية، وكذلك نشوء المرافق المؤهلة لاستضافة هذه الطبقة المستحدثة، والتي تدفع أي ثمن لتأمين رفاهيتها.

 

الترف لا يعرف حدوداً
وبحسب التقارير العالمية، فإن المنتوجات والمرافق المشار اليها، والتي اعتمدت سابقاً على المجتمعات الثرية لترويج حملات الدعاية والتسويق، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية إضافة الى بعض دول النفط الناشئة، توسّعت منذ أعوام لتشمل عدداً لا يستهان به من المجتمعات العالمية، لأسباب لا حصر لها، وفي مقدّمها العولمة والهجرة.
فنتيجة هذين العاملين الهامين، وما رافقهما من فورات الاستثمارات الكثيفة، وتبادل المصالح بين الشركات العالمية والمحلية في المجتمعات المشار اليها، نشأت طفرة ثراء فاحش، طاولت العديد من الطبقات المتوسطة التي دخلت بدورها نوادي النخبة الإجتماعية، وعزّزت بالتالي معدل الإستهلاك في «أسواق الترف»، بشكل لم  يسبق له مثيل.
وهنا يخص تقرير الثراء العالمي دول الخليج العربي بالتفاتة مميّزة، وعلى وجه التحديد إمارتَي دبي وأبو ظبي، بالإضافة الى دولة الكويت والمملكة العربية السعودية.
فالأموال التي أصبحت تُصرف في هذه الدول على مرافق الترف، والمقتنيات الباهظة الثمن، بلغت أوجها مع بروز فورة الاستثمارات، وتزايد عدد المهاجرين. والمرافق العامة التي أصبحت تفتتح في الدول المشار اليها، تعطي فكرة واضحة عمّا وصل اليه نموها، وبالتالي القدرات الشرائية لنسبة كبيرة من سكانها. والدليل على ذلك، تهافت الدول الغربية على افتتاح فروع لمؤسساتها المعروفة في بعض هذه الدول، ومنها على سبيل المثال: أبو ظبي التي استضافت فرعاً لمتحف اللوڤر الفرنسي، وكذلك فرعاً لجامعة يال الأميركية المعروفة.
ولا ينسى التقرير التغيير الجذري الذي طرأ على المجتمع الآسيوي، وخصوصاً لجهة تزايد الطموح بتحقيق الثراء، ومنافسة الدول الكبرى في مجالات التنمية، وكذلك الاستمتاع بصرف المال على الرفاهية والترف.

 

المصنّعون والتجار يزدادون جشعاً
في الوقت الذي يزداد فيه الأثرياء ثراءً وتعنّتاً في طلب المقتينات الشخصية والمصنّعة خصيصاً لإرضاء أذواقهم، يزداد فيه المصنعون جشعاً ورغبة في تحقيق المزيد من الأرباح. وهنا تشير نتائج دراسات الأسواق العالمية، الى تغيّرات لافتة في أنماط عمل الشركات العالمية لصناعة وسائل الترف والرفاهية. وقد خصّت بالذكر دور الأزياء الشهيرة، ومنها مؤسسة «فيرساتشي» التي توسّعت بفضل إدارتها الجديدة، لتشمل عدا الأزياء والعطور ومساحيق التجميل، تصميم السيارات والطائرات الخاصة بالنخبة من أعضاء المجتمع المخملي.
وفي هذا السياق يتسابق المتنافسون في هذا الحقل على اعتماد المواقع الإلكترونية للتواصل مع زبائنهم إضافة الى وسائل التواصل السريعة الأخرى والتي تؤمن وصول السلع الى أصحابها بالسرعة الممكنة. ولتعزيز فورة الاستهلاك السريع، تجنّدت المصارف عن طريق الخدمات المستخدمة لتسهيل القروض والتمويل والاستثمارات والسحوبات لأصحاب الثروات، في أي مكان من العالم. وهذا إن دلّ على شيء فهو يشير بوضوح الى أن مطالب أصحاب الثروات لم تعد محصورة بأسواق معينة، لأن عددهم المتزايد حتّم نشوء أكثر من سوق لاحتواء اهتماماتهم، وبالسرعة المطلوبة. ومن هذا المنطلق، وكما يلاحظ المراقبون، فإن نشوء هذه الحلقة المقفلة التي تحتضن تبادل المصالح المشتركة بين الأثرياء من مصنّعين ومستهلكين، أدى الى توسيع هيمنة المال وحتّم، إضافة الى ذلك، نشوء شبكات مغلقة، همّها الوحيد الإبقاء على وحودها، وتوسيع مخططاتها لتشمل أهدافاً مستقبلية، ترضي نهمها الأخطبوطي. ومن هنا كان لا بد من نشوء مجالات التخصص الواسعة، كالتسويق والترويج للسلع والمرافق الخاصة، إضافة الى التصميم وسوى ذلك من الإختصاصات العصرية. وهي إختصاصات من شأنها تفعيل مكامن الإبداع لدى الأجيال الطالعة لصالح الشركات المنتجة، وبالتالي تعزيز مستوى الإنتاج والإستهلاك العالمي.

 

ماذا عن المؤسسات الخيرية؟
في الوقت الذي وصل فيه مستوى الثراء لدى البعض الى حدود التخمة، برزت ظاهرة جديدة لافتة تمثلت بالمؤسسات الخيرية التي يرعاها الأثرياء في مجتمعاتهم. وهي ظاهرة أدخلت الحذر الى نفوس تجار الترف والذين تخوّفوا من إمكان تخلّي الأثرياء عن متطلّبات الرفاهية، وهو ما قد يتسبب بركود الكثير من المرافق المستحدثة.
وهنا يجدر بالإشارة أن المساعدات المجانية التي يقدّمها حديثو الثراء في الكثير من المجتمعات العالمية، هي غير تلك التي يتعاون أصحاب الخير العاديين على تقديمها. لذا، فإن الإختصاصيين النفسيين الذين يراقبون بصمت ما يجري على الأرض، يطمئنون المتخوّفين من ركود «تجارة الترف»، ويؤكدون على إستمرارها بخطى سريعة وثابتة. أما تبريرهم العلمي لذلك، فهو أن ظاهرة العطاء التي تطغى عادة على توجهات الطبقة الإجتماعية المشار اليها، هي حالة بشرية فطرية، تجسّد شعور الإمتلاء الذي يليه عادة شعور بالفراغ، وأحياناً الزهد. وهو ما يدفع بالمعنيين الى التخلّي طوعاً عن بعض ما يملكون، وأحياناً نسبة كبيرة منه، كردة فعل لا واعية لها مبرراتها. وهذا ما يعرّفه البعض، بالإرتقاء العفوي الى الشعور بالغيرية، والذي يرافق حب الذات والظهور والهيمنة والاستعلاء. ومن ناحية ثانية، فإن العارفين في الحقل الإقتصادي، يفسّرون ظاهرة العطاء لدى الأثرياء، على أنها تبادل ضمني للمصالح بين المانح والمستفيد، أو مناورة متقنة، الهدف منها الترويج لمصالح شخصية معينة. قد تكون وسيلة غير معلنة لتعزيز إستهلاك الموارد، وإنعاش الأسواق لصالح الجيوب المتخمة.
إذن، وحسب العارفين، فإن سوق الترف العالمي لن يصيبه الركود مع وصول الأثرياء الى الشعور بالتخمة والفراغ والزهد، والدليل على ذلك، هو أن المراهنين على المزيد من الإنتعاش الإقتصادي، يُكبُّون اليوم على التخطيط لمستقبل قد يتخطّى الأحلام.