كلمتي

ضياع الحجارة
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

الذين راقبوا عسكريي الجيش وهم يتّقون الحجارة الضالة في بيروت، ظنّوا للوهلة الأولى انهم يمارسون رياضة فنية تقليدية برفع قدم، أو سحب ساعد، أو طيّ عنق، أو إمالة رأس مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار... ومرات في اتجاهات لا حصر لها في الأعلى وفي الأسفل. لكن المراقبين هؤلاء أيقنوا أن المسألة تتخطى مزاج الفنون وعبثها حين شاهدوا بأم العين أن الحجارة تحوّلت إلى رصاص يستهدف الجنود ويصيبهم في الصدر وفي الظهر، وهنا ضرب العجب المخيّلات: الجيش يتلقى الحجارة والرصاص، ويواجه النار، ويكاد يسمح بأن يتعرّض أبناؤه للاستشهاد مع أنه قادر على رد الصاع صاعين وأكثر، ما السبب يا ترى؟ ويأتي الجواب من «الصامت الأكبر» واضحاً جليّاً: العسكريون هم أبناؤنا، والمواطنون هم أبناؤنا، ولا فرق بين أخ وآخر، وخطأ الابن لا يواجه بخطأ مماثل من أخيه. في حساب القيادة، ومنذ وقت بعيد، أن الحجارة توجّه إلى وجوه الأعداء، وأن ما تمّ توجيهه إلى العسكريين من حجارة، كان يجب أن يتم الاحتفاظ بجزء منه لضرب العدو الإسرائيلي، وبجزء آخر لمواصلة بناء لبنان حجراً حجراً ينتج عنهما جدار في مدرسة، وجدار في مؤسسة، وجدار في مصنع، وجدار في متراس يحمينا من قنبلة عنقودية أو سلاح جرثومي أو أي شكل من أشكال الإجرام الصهيوني، الذي لا همّ عند حكّامه اكبر من همّ الانتقام من هذا الوطن دولة وشعباً وجيشاً.


ومن بيروت إلى صيدا، إلى حيّ التعمير في جوار عاصمة الجنوب، حيث عاد الجيش ليبسط سلطة القانون، فتلقّى إساءة البعض وطيشه وتصرفاته الرّعناء. والأذى واحد في كل حال، من حجر كان أو من رصاص، فالمسألة هي مسألة التمييز بين درب الصّواب والهدى، وبين درب الفوضى وفقدان البوصلة.
إن حي التعمير هو واحد من أحيائنا التي تجب العناية بها ومواصلة تعميرها وتحسين ظروف أبنائها في الحياة، والتي آن لها أن تستريح من مآسي الاقتتال ومن هموم الخلاف والصراع، والتي يجب تجنيبها المزيد من الدماء والتقّهقر والخراب، كي لا تبدو وكأنها خارجة للتوّ من زلزال أو كارثة لا وصف لها. ألا يدرك ذلك البعض انه حيث يحلّ الجيش يحلّ السلام؟ وحيث يقيم الجيش يعلو صوت المسؤولية، وتصحو الأذن التي تصغي إلى الشكوى، وترتفع اليد التي تعمل في البناء وفي العمران؟


لم يكن الجيش، في يوم من الأيام بعيداً عن هموم المواطن، ولم يهمل واجباً من واجباته كائنة ما كانت إمكاناته ووسائله، ويجب أن يطمئن الجميع إلى أن السهر على الأمن لن يجرّ المؤسسة العسكرية إلى أي ردة فعل غير مسؤولة، كما أن التضحيات المطلوبة لهذه المهمّة الداخلية الشريفة لن تؤدي بأي شكل إلى إهمال الواجب الوطني الأساسي في مواجهة العدو الإسرائيلي وكبح جماح أطماعه وتعدياته، وأيضاً، في البقاء على أهبة الاستعداد لحماية حدود البلاد في البرّ وفي البحر، من أي تجاوز أو مخالفة للقانون أو إخلال بالسلم الأهلي.
أما آن للعقول ان تميّز بين الخيطين: الأسود والأبيض؟