محطة

طائر الحجل: مواطن من الدرجة الأدنى!
إعداد: العقيد دانيال الحداد

ليس بين طيور بلادنا قاطبةً، ما نفاخر به أكثر من طائر الحجل، فهو الأوفر جمالاً وأناقةً ونقاءً وصلابة، لأنه ابن الجبال والصخور والرياح...
في حمرة منقاده وفي كفّيه لون الخصوبة والأصالة، وفي ريشه الرمادي المزيّح بخطوط سود لون الصخر ورائحته الزكية، وأسرار ليالي الخريف الصامتة فوق التلال والسفوح النائية.
نظمت حوله الكثير من القصائد والأغاني، وتداول اسمه الناس كمضرب مثل للتعبير عن رشاقة الحسناوات وسحر عيونهن وإطلالتهن البهيّة. إنه رمز صمود الفلاح في أرضه وأنيس الراعي في وحشته، وملهم الشاعر في تخيلاته وإبداعه، وهو إلى ذلك كلّه، صاحب العرش الذهبي في مملكة تراثنا البيئي والشعبي.
بيد أنّ الميزات الفريدة لهذا الطائر، قد جلبت عليه لعنة الصيد بأبشع وجوهه، لتضاف حكمًا إلى لعنات توسّع العمران وتقلّص الغابات بفعل القطع والحرق، ورشّ الحقول بالمبيدات السّامة، وشقّ الطرقات إلى عقر داره، وإحتكار الإنسان للينابيع العذبة، حتى في أعالي القمم والجبال، فباتت هذه اللعنات جميعًا مصدر أذى يحدق به، على الرغم من تحسسه المفرط بالخطر وسرعته الفائقة، وقدرته الخارقة على التخفّي والتمويه والتملّص من قبضة الأعداء.
لكنّ لعنة الصيد تلك، تبقى الأقوى والأشرس من دون منازع، نظرًا إلى فعالية الأسلحة المعاصرة ودقتها وفتكها، إلى جانب إبتكار أهل الصيد أساليب تضليل وخداع محكمة، كإستخدام الأقفاص والشباك والفخاخ بالقرب من مصادر المياه واستدعائه عبر بث صوته بواسطة آلات التسجيل وأجهزة الخليوي و ما إلى هنالك من طرق الأسر والموت المبتكرة.
لقد تحوّلت التلال والسفوح المحيطة بقرانا الجبلية التي لا تزال تحتضن بعض طيور الحجل إلى مسرحٍ لمعارك شبه يوميّة ومن طرفٍ واحد، بين الصيادين وهذه الطيور المسالمة، المهدور دمها والمشكوك بصحة مواطنيتها في نظر هؤلاء. فلا يكاد الصبي يبلغ الثانية عشرة من العمر، حتى يستلّ بندقيته وجعبته وذخيرته وينطلق إلى الجبال بالعنفوان الأشدّ، لإقتناص ما تيسّر له من الطرائد، مقتفيًا أثر من سبقه، وطامحًا إلى ضمّ إسمه إلى سجل الصيادين المحترفين، الذين لا يقصرون ممارسة الصيد على انفسهم، بل يبادرون إلى إستدعاء أصدقاء من القرى المجاورة والمدن البعيدة، لمشاركتهم شرف المهمّة النبيلة! ظنًا منهم أنّ في ذلك إكرامًا للضيف وتأكيدًا لشرف الانتماء إلى الريف الجميل.
ما يثير الدهشة في نفس المرء، استمتاع الصيادين بسرد معاركهم البطولية أمام زائريهم، من كرٍ وفر وقتلٍ وقنص وجرح، ومواجهاةٍ جبلية وجانبية، في الأرض والسماء، فيقول أحدهم مثلاً: «الحظ لم يكن إلى جانبي اليوم، لقد ظفرت بطائرين فقط، فيما أضعت ثلاثةً وسط الغابة الكثيفة، وأصبت أربعة أخرى، أعتقد أنها ستموت خلال الليل بفعل قساوة البرد!».
ويقول ثانٍ: «لم يبق في الجبال كلّها، سوى رفٍ واحد لا يزيد عديده عن ثمانية طيور، ولقد ظفرت منه بإثنين وسأجهز على الباقي في أسرع وقت ممكن إن شاءالله».
ويقول ثالث: «لقد دعوت عددًا من أصدقائي إلى تناول كبّة الحجل يوم أمس، فشهدوا جميعًا بأنها الأطيب مذاقًا بين اللحوم على الإطلاق». لكن صاحبنا تناسى أن من انتفخت بطونهم حتى كادت تنفجر، من أنواع اللحوم والطيبات على أنواعها، قد فقــــــدوا حاستي الذوق والشمّ منذ زمنٍ بعيد.
هذا بعض من محنة طائر الحجل في بلادنا، فهل يتوقف من يعنيهم الأمر عن العبث بهذا الكائن الوطني الرائع قبل فوات الأوان! وهل يبادرون إلى توفير بعض ما ينفقون من أموال طائلة على هوايتهم البشعة، ليستقدم بها طيورًا من الحجل المدجن في المزارع، ويطلقوها في البراري النائية لتنمو وتتكاثر من جديد، فيعود هذا المقيم العزيز كما عرفناه ونريده أن يكون دائمًا، مواطنًا أصيلاً من الدرجة الأولى.