- En
- Fr
- عربي
محطات وعبر
استقلال 2022
«طالما الجيش باقٍ في هذا البلد، ستبقى عائلتي هنا وسأبقى أنا مطمئنًّا لأمن أولادي وأمانهم»... غريبة هذه الكلمات!؟ أبدًا. إنها كلمات سمير، ذاك الرجل المقتدر الذي يعيش ويعمل منذ ١٥ سنة في أفريقيا، ولكنه لم يفكّر يومًا بأن تلحق به عائلته. «إنني مطمئنّ لحياة أولادي في هذا البلد أكثر من أن يكونوا إلى جانبي، على الرغم من أنني بعيد عنهم، وذلك بفضل جيشنا الأبي الوفي والجبار الذي طالما هو صامد ستبقى عائلتي صامدة في لبنان»!
رغم التحديات التي يواجهها يبقى جيشنا صامدًا فيما تتهاوى قطاعات أساسية في لبنان، فكيف يحافظ على ثباته في وجه الأزمة، ويظل مصدر الثقة والأمل لمواطنيه؟
٧٧ سنة... وما مننكسر، هو الشعار الذي حمله الجيش في عيده هذا العام وهو خير جواب. فهل يضعف ويستسلم لصفعات الزمان وهو الحامي الوحيد للوطن والأمل المتبقي لأبنائه؟ لا، هذا الجيش لا، ولم ولن ينكسر.
جيش لكل لبنان
حدد قانون الدفاع الوطني المهمات الرئيسة التي تنفّذها المؤسسة العسكرية، ولكنّ هموم الشعب وحاجاته ولجوءه في كل شاردةٍ وواردةٍ إلى هذه المؤسسة، وسّع دائرة مهمتها وعظّم المسؤوليات الملقاة على عاتقها. هل يمكن أن نذكر مرّةً واحدة تلقّى الجيش فيها نداءً لمساعدةٍ من أي نوع ولم يلبِّ؟ بالطبع لا وهو سيستمر بالنهج نفسه...
يقوم الجيش بثلاث مهمات أساسية: دفاعية، أمنية وإنمائية. أولى المهمات هي الدفاع عن الوطن، والمحافظة على سيادة الدولة وسلطتها، وحماية الدستور اللبناني والمؤسسات الوطنية. وتتضمن هذه المهمة حماية الحدود البرية والبحرية وضبطها، ومكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية.
والمهمة الثانية تتمثّل بالمحافظة على الاستقرار الداخلي من خلال حماية السلم الأهلي، ومنع الإخلال بالأمن. وفي هذا الإطار تندرج مكافحة الإرهاب المتربّص دائمًا بلبنان، والمخدرات التي تدمّر شبابنا ومستقبلهم. ولا ننسى الدور الكبير الذي قامت به المؤسسة العسكرية في معالجة تداعيات انفجار المرفأ منذ اللحظات الأولى للكارثة، من إزالة الركام، وضبط الأمن لمنع السرقات، إلى تلقي المساعدات الطبية والغذائية وتقديمها للمتضررين، وأعمال المسح، ودفع التعويضات للمتضررين وحماية المباني التراثية...
أما المهمة الثالثة، والتي تحظى باهتمام كبير خصوصًا في هذه الفترة، فهي المساهمة في تأمين الاستقرار الاجتماعي والتنمية المحلية. وقد اختبرنا دور الجيش في التدخل في المجال الصحي خلال تفشي وباء كورونا. وها هو اليوم على الأرض يحاول مرة جديدة التخفيف من وطأة الأزمة على أهله، وهنا نذكر دور مديرية التعاون العسكري-المدني وعملها في المناطق الأكثر حرمانًا لناحية تجهيز المستوصفات بالمعدات الطبية وتأهيلها لتلبي حاجات المواطنين، وتأمين مساعدات مختلفة، إضافةً إلى إسهامها في مشاريع تربوية، وبيئية، وإنمائية واجتماعية.
العواصف لن تكسرنا!
كل هذه المهمات المتشعبة تبيّن حجم المسؤوليات العظيمة المُلقاة على عاتق المؤسسة العسكرية التي تسخّر كل قدراتها وإمكاناتها لتبقى على قدر المسؤولية والثقة. ولكن ليس الطريق معبّدًا أمام هذه المؤسسة، فالتحديات لطالما كانت جزءًا من مسيرتها التاريخية، وقد تصدت لها بجدارة سواء كان ذلك على مستوى مواجهة العدو الإسرائيلي، أو مواجهة الإرهاب، فضلًا عن التصدي لمحاولات خلق الفتن والمس بالاستقرار.
وحاليًّا تتمثل هذه التحديات خصوصًا بالأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان والتي تُعتبر الأصعب في تاريخه. فالمؤسسة العسكرية كجزء من هذا المجتمع ومن قطاع عام مازالت رواتبه تُصرَف بالليرة اللبنانية، كان لها نصيبها من التحديات التي تتمحور حول شقَّين:
- الشق الأول وهو حجم الموازنة المخصصة للجيش بالليرة اللبنانية، والتي فقدت قيمتها ولم تعد كافيةً نظرًا لارتفاع سعر صرف الدولار، ما ينعكس سلبًا على تحقيق العتاد المطلوب وصيانة الموجود منه. وهكذا اضطرت قيادة الجيش إلى اتخاذ إجراءات تقشفية صارمة انطلاقًا من محدودية هذه الموازنة، وشملت هذه الإجراءات قطاعات أساسية في المؤسسة كالتغذية، واللوجستية، والمحروقات واللوازم المكتبية والقرطاسية.
ومع تفاقم هذه الأزمة، لجأت بعض القطع والوحدات إلى ابتكار طرق جديدة لتنفيذ عمليات الصيانة والتعهد، إضافة إلى ابتكار حلول لمشاكل فرضها الأمر الواقع كتصنيع المعقمات، والزراعة، وتربية المواشي، وتحوير بعض القطع، والاستعانة بخبرات من داخل المؤسسة وتطوير بعض القدرات للاهتمام بعمليات التصليح وغيرها.
- أما الشق الثاني فيتمثّل بانعكاس الأزمة على معنويات العسكريين الذين باتوا غير قادرين على تأمين المتطلبات المعيشية والاجتماعية اليومية لعائلاتهم، وذلك بسبب ضعف القدرة الشرائية الناتج عن تهاوي قيمة رواتبهم وانخفاض قيمة التقديمات الاجتماعية بشكلٍ ملحوظ.
أعطت القيادة أفضلية لهذا الموضوع، فالعسكري هو الأساس لتنفيذ المهمات، ولذلك يجب الحفاظ على معنوياته ليبقى صامدًا في هذه المرحلة الصعبة.
المواجهة
أما إجراءات المواجهة التي اتخذتها القيادة فتشمل:
- الوضع المادي: عبر العمل على تأمين دعم للرواتب من الدول الصديقة، وعلى رأسها دولة قطر الشقيقة التي قدّمت مبلغ ٦٠ مليون دولار لهذه الغاية، ويتم حاليًا توزيع مبلغ ١٠٠ دولار أميركي شهريًّا وهذه الآلية مستمرة حتى الانتهاء من المبلغ. ولا ننسى أن الموازنة الجديدة للحكومة زادت قيمة الرواتب.
- المساعدات الغذائية: كانت تصل من دول صديقة ويُعلن عنها في وقتها، ثم يتم توزيعها على العسكريين.
خفّت وتيرة هذه المساعدات، ولكن القيادة تعمل على إعادة تأمين مساعدات جديدة من هذا النوع.
- النقل: وُضعت خطة وهي قيد التنفيذ لنقل العسكريين في القطع الميدانية. أما خطة النقل في القطع الثابتة فكان معمولًا بها سابقًا، ويتم تطويرها ومعالجة بعض الثغرات التي ظهرت عند التنفيذ. كما يتم تعزيز ذلك عبر تأمين باصات جديدة لتغطية كل المناطق وبوتيرة أسرع.
- الطبابة: وهي أساسية في المحافظة على معنويات العسكريين، وتوليها القيادة أولوية مُطلقة لارتباطها بالبعد الإنساني الذي تؤمن به المؤسسة وتحترمه.
ومع كل هذه التدابير والإجراءات، يستمر الجيش في تنفيذ مهماته على أكمل وجه ويجاري توقعات الشعب. وفي حين تشهد معظم القطاعات العامة والخاصة احتجاجات على الوضع بطرق مختلفة، نجد الجيش صامدًا لا يتخلّى عن مسؤولياته ولا يخل بموجبات قسمه، ونرى عناصره من مختلف الرتب والمواقع يعملون مؤمنين بأنّ تأديتهم لواجبهم هي التي تعطي الأمل لشعبنا بغدٍ أفضل نخرج فيه من هذه الأزمة سالمين. وكما يقول قائد الجيش العماد جوزاف عون في هذه المرحلة الدقيقة: «بانتظار انتهاء هذه المرحلة وانتخاب رئيس جديد وتأليف حكومة جديدة، فإنّ كل ما يهم الجيش ويعنيه هو الحفاظ على السلم الأهلي... لن نسمح لأحد باستغلال الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي، ولن نتهاون مع أحد أبدًا، فالاستقرار والسلم الأهلي خط أحمر».
أمل وصمود
هذه الإجراءات التي اتخذتها قيادة الجيش للتخفيف من عبء الأزمة على أولادها أتت بنتائج إيجابية، هذا لا يعني أن الأزمة قد انتهت، ولكن الجيش صامد إلى حين إيجاد الحلول من قبل المعنيين. أما المؤشرات التي تدل على فاعلية هذه الإجراءات، فأولها تراجع عدد العناصر الذين يغادرون المؤسسة وعدد طلبات التسريح الاختياري بشكلٍ ملحوظ، وارتفاع عدد طلبات الاسترحام وطلبات التطوع الجديدة.
من ناحية أخرى، زاد التفاعل بين الضباط وعسكرييهم كعائلة واحدة، ينقلون طلباتهم ومشاكلهم إلى القيادة التي تعمل بدورها على إيجاد الحلول ورفع المعنويات.
كل هذا يعطي دفعًا للمؤسسة حتى تتابع العمل مع الأمل بأن يكون الفرج قريبًا. وما يزيدنا ثقةً بأن جيشنا سيبقى صامدًا مهما اشتدّت الصعاب هي ثقة الشعب الذي يدعم جيشه ويثق به وبقدراته، وثقة المجتمع الدولي بهذا الجيش ودعم الدول الصديقة والشقيقة التي يزورها العماد قائد الجيش منذ بداية الأزمة أي من ثلاث سنوات تقريبًا، وكانت نتائج هذا الدعم ملموسة للاستمرارية ورفع المعنويات.
يبقى أن تضحيات مَن سبقونا لحماية استقلال وطننا لهي إرث يحمّل كلًّا منا، ليس كجيش فحسب، بل كمواطنين نعيش في هذا الوطن المتألم والمريض، مسؤولية الانخراط في حماية استقلالنا وفاءً لهذه التضحيات الثمينة، وضمانًا لمستقبل أفضل لأولادنا. والجيش بدوره لا يفوّت فرصةً ليؤكّد أنه صامد ومستمر مهما علت الأمواج ومهما اشتدّت العواصف، وسيتغلّب عليها كما عهدناه يفعل دائمًا، لأن إيمانه كبير جدًّا بهذا الوطن وبخدمة شعبه، وهو كما قال قائده «باقون على قسمنا، وضميرنا مرتاح»... وجيشنا ما بينكسر!