- En
- Fr
- عربي
بلى فلسفة
درج الإنسان منذ نشأته على الإنتساب الى نادي أكلة اللحوم, وكان أكثر ضحاياه ولا زال من الحيوانات والطيور التي تخضع له. وقد اختلفت أساليبه في ذلك وفقاً للعادات و”الحضارات”, فالبعض يأكل البغال, والبعض يفضل الخنازير, والبعض يميل الى الكلاب والأفاعي والفئران والصراصير... لكن اللحوم هي اللحوم, سواء سلخت من أجسام الدببة أو الأبقار أو الأغنام, وأنت حيثما مشيت شاهدت تلك الأجساد معلّقة وقد فصلت رؤوسها عنها, وسالت دماؤها على الدروب, تجفّفها الشمس, أو يخفّف من آثارها المطر.
ويحسب الإنسان أن تلك القطع الحية هي من حقه, وحين يحصل على حاجته منها يقول “أحضرت لحْماتي”, كما أن الجزّار يطمئنه بالقول “حسبت حسابك, وهاك لحْماتك”. وميلاً منه لادعاء الرقة واللطافة والإحساس, فإنّه ينسب تلك “الأكلة المفيدة” الى المؤنث من الأشياء, فيقول لحمة بدلاً من لحم... ويبتسم.
والفئة الضارية تلك, لا تزال كبيرة بين الناس, رغم تطوّر الصناعات الغذائية, وظهور أنواع كثيرة من المأكولات التي تعتمد على منتجات الطبيعة الخضراء.
وبعض تلك الفئة يلتهم اللحوم نيئة إرضاء لغريزته واشتهائه, ولسان حاله يقول: “لا تُشبع الروح إلاّ الروح”, فكأن الصّعتر والنعناع والقمح والذرة ودوالي الكروم لا تسعف الأرواح.
لكن ذلك لا ينفي وجود قلائل يقاطعون هذا الأسلوب ويبتعدون عن أي مكان فيه أثر من لحم أو شحم. وبين هؤلاء القلائل من يذهب أبعد من ذلك, إذ يمتنع عن تناول أي شيء من مصادر الحيوان حتى وإن كانت الألبان أو الأجبان, وحجّته أنّه ما دام الحيوان لا يقترب من “ألباننا وأجباننا” فلمَ لا نبادله بنفس الموقف؟
عندي بين هؤلاء صاحب ذهبت معه الى أحد أحياء المدينة, حيّ متقدم في مدينيته, مكتظ بالسكان, عامر بالإسمنت, خال من أي شجر, وكان الهدف استدعاء زميل موسيقي يسكن هناك, لمرافقتنا في رحلة بعيدة.
ترجّل الصاحب وتوجّه الى مسكن الزميل المطلوب, فيما بقيت أنا أنتظر في داخل السيارة. لكن نقطة الإركان, لسوء الحظ, أتت مواجهة تماماً وقريبة جداً من مركز لقتل الحيوانات. الضحية الأولى كانت نعجة ذبحت للتو, ولا تزال تتحرك وتضجّ, وفي ظنّها الأخير أن بإمكانها العودة الى الحياة إن هي واصلت المطالبة بذلك ولم تستسلم, أو هو الجسم فيها يفتّش عن رأس كان موصولاً به قبل لحظات, أو... هو الألم الأكبر قد جنّ جنونه قبل الضجعة الأخيرة!
لم أكن لأغضّ الطرف عن هذا المشهد إلاّ وأعود لأجد نفسي محدّقاً به, مع أنه من عادتي الخفة والسرعة, بل التسرّع في النظر الى الأشياء بجميلها وقبيحها, بحيث أترك لمخيلتي أن تكمل المشهد. لكن الحالة هنا مختلفة, رؤيتها مؤلمة, إهمالها صعب ونسيانها أصعب, وهي تدفعني الى ألف صورة وصورة.
لكن هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها ذلك, وأنا أعرف أن رؤية الشاة مذبوحة ليست كرؤيتها ترعى في الحقول, وملاقاة جزار يقطع رقبتها ثم يمسح سكينه بجلبابه الأبيض, ليست كملاقاة راع يمرّر يديه فوق صوفها تعبيراً عن محبته وودّه وعنايته. لكن ما نكأ الجرح هنا, في جسد النافق الميت, وفي مشاعري على السواء, هو أن فتاة, فتاة صغيرة, ترافق أحد الزّبائن منتظري ومشتهي اللحوم الطازجة, انبرت من بين الحاضرين وراحت تلطم الضحيّة بقدميها الصغيرتين, البريئتين في المبدأ, واللتين لا يمكن للخيال أن يراهما إلا قاطفتين للزهور, ملاحقتين للفراشات, مغتسلتين في السواقي... استمرّت الفتاة معتدية لا يرفّ لها جفن, وكأنها تحمل ثأراً ضد هذا الحيوان المسكين. فلعلّ الشاة عضّت أباها أو نطحت أمها أو عوت ونبحت وزأرت بوجه أخيها وحان موعد الإنتقام في هذه اللحظة, وقبل فوات الأوان.
رحت أحدق وأراقب مواصلاً مخالفة قواعد الخفة والتهذيب مشاركاً في الألم من بعيد. والألم هنا مضاعف مكرّر مدغم مكثّف بفعل انعدام الطيبة والبراءة والرحمة والرفق والليونة لدى هذه الطفلة... وباختصار, انعدام الطفولة برمّتها من قريب ومن بعيد, هذه الطفولة التي ليس لنا إلاّ أن نقول: حمانا الله من شرّها حين تتدرب على رؤية الأفلام السينمائية المعاصرة, والمتمرّدة على كل حسن جميل.
إنها طفولة لم يدرك الشاعر شرّها كاملاً حين قال:
كعصفورة بين يدي طفل يلهو بها
تقاسي عذاب الموت والطفل يلعب
فطفله فعل ما فعل بداعي اللهو واللعب, أما طفلتنا فبدت تؤنّب وتعاقب وتتعجل الموت لضحية مسالمة محايدة, وهو شيء لم يفعله أحد ممن كانوا يجاورونها, من هنا القول بأن لدى فلان روح الطفل رغم تقدمه في العمر, وبأن فلاناً, رغم حداثته, يتصرف كالكبار و”الخزي للعين”.
إحتاج الجزار الى شاة أخرى كانت في سيارة مجاورة, أنزلها على عجل وكأنه يريد إنقاذها من نار, أو من فكّي وحش جائع. دخل بها الى مجزرته تاركاً وليدها بمفرده يروح ويجيء حائراً خائفاً مسلّماً نفسه للوحشة والغربة. استقر الحمل بعد لحظات من الإضطراب في زاوية من زوايا صندوق تلك السيارة ملاصقة لمقصورة السائق, وقد بدا وكأنه يستأنس به, طالباً حمايته في هذا الضيق.
لكن أحد مساعدي الجزار شمّر عن ساعديه وقد لطخ الدم قميصه, وبدأ يلقي العظام, كبيرها وصغيرها, في صندوق السيارة. كان الحمل يقترب لمعرفة ما يجري, ثم يبتعد بمقدار ما تسمح له المسافة الصغيرة المحيطة به, والتي لم تخلق له ولم يخلق لها, وكأني به قد رأى في تلك العظام عصيّاً تنهال عليه ولا تصيبه, لكنّ أنفه لا يخطئ رائحة الدم, وعقله يدرك أن تلك بقايا هياكل عظمية محطمة تعود لأبناء جلده وصوفه. إلاّ أنّ الرجل أضاف الى مرميّاته رأساً غير أدمي وغير شرير, أنه رأس النعجة الذبيحة. ازداد الرعب في الحمل الأسير, وراح يرفع قائمتيه الأماميتين الى الأعلى هناك وهنالك على السور الحديدي محاولاً النجاة بنفسه, لكنّها نجاة لا أمل فيها, فلا الحديد متحول الى قصب, ولا البطون معرضة عن طلب اللحم الطري من الأجساد الضعيفة...
طال انتظاري للصديقين, وكانت المشاهد المؤلمة تتوالى أمام عينيّ. قرّرت اللحاق بهما, وحين وصلت الى الطابق الخامس من المبنى سمعت نقاشهما حاداً, بعضه حول إيقاع “عويص”, وبعضه حول نغم “راحة الأرواح”... وهي أسماء في الموسيقى لا يفهمها الجزّارون... كما لا يفهمها بعض الأطفال!