في بيت الشهيد

عائلة تحمل جرحها والوطن...

اللواء الركن الشهيد ها هنا بيننا لا يغادر

 

أرتال المعزّين المتوافدين واتصالات المتفقدين قلما تتيح خلوة حقيقية بالحزن المستوطن ثنايا الروح وحركات الجسد. أما حين يودع أهل البيت الوفد الأخير كل ليلة وتخفت في المنزل الأضواء، فالحزن يسطع عارياً أمام أصحابه.
السيدة لودي الحاج وقربها إيلي، رشا وجيسيكا، يعيشون الجرح العميق، يتحسّسونه، فإذا به في كل خلجة ونظرة وكلمة، جرح على امتداد الوطن، كتب على هذه العائلة أن تحمل وجعه ونزفه على امتداد الأيام الآتية، تماماً كما حملت فخر الانتماء الى البطولة، وستحمل مجد الانتماء الى الشهادة.
هنا تحت هذا السقف في منطقة بعبدا، تختلي العائلة ببطلها، تعاين طيفه، تتحسّس خطواته وأغراضه، تصغي الى صوته، ما برح مقيماً هنا، لن يغادر، يحيط بعائلته قديساً من السماء كما أحاط بها زوجاً وأباً وبطلاً على الأرض.
رفيق العمر، الزوج الحبيب، وحده الله يعلم ما خسرته هذه المرأة. غياب زوجها من الصعب أن يصبح حقيقة فحضوره أقوى من أن يخفت.
رحل...
في واحدة من جلساتهما الأخيرة وعدها أن يشيخا معاً... ما كان الموت في حسابه، أو هكذا أراد أن يوحي لعائلته المدركة ما يحيق ببطل مثله من أخطار. طلب منها أن تستقيل من الوظيفة التي كانت تشغلها. «قال لي: في كل الأحوال يجب أن تتركي عملك، إن تسلمت قيادة الجيش يجب أن تكوني في البيت، وإن لم أتسلمها ايضاً يجب أن تكوني هنا، سنمضي ما بقي من عمر سوياً...».
لم يفِ بهذا الوعد، وهو الوفي لوعوده.
«قلت له: يا ليتك تستقيل الآن... لا نريد أكثر من سلامتك ووجودك قربنا، فأجابني: لا مراكز تهمني، أريد أن أوقظ الأبطال النائمين في داخل العسكر... لبنان بحاجة اليهم...».
تتجه بنظـرها الى شاشـة صغيـرة تعـرض صوراً للبطل، «هذه مشاهد من مواكبته للوضع خلال عدوان تموز 2006، هنا متابعته لانتشار الجيش في الجنوب، وها هو في معركة نهر البارد.
كان محاطاً بالخطر في كل لحظة لكنه لم يخشه مرّة. كان يقول لنا «ما حدا بيروح قبل وقته...» أتى وقته... قتلوه غدراً...».
وتتذكر ليلة اندلاع أحداث نهر البارد:
«كنـا في رميش ليلتهـا. أيقظني بحدة، كانت الساعة الثالثة فجراً. قال: كما أنتِ الى السيارة فـوراً وإلا مشيت من دونك، لم أفهـم ماذا حصل، لكنني طرت معه، كان يقود بشكل جنوني، يتلقى الاتصالات، يتصل، يتخذ القرارات، شعر أن الأمور ستتطور بسرعة فاتخذ القرار المناسب. هكذا كان دائماً، صاحب رؤية وصاحب قرار... شجاعاً وحكيماً حازماً وعطوفاً».
تشير: «على هذا المقعد كان يجلس كل صباح، باكراً جداً، ويقرأ. كان شغوفاً بالمعرفة والعلم والاطلاع. يتحدى نفسه ومعرفته باستمرار طالباً المزيد... يحب الشعر والناس والحياة، كانت الحياة تفيض من وجهه وخطواته وحركاته».
الأب الحاضرة أبوته في كل التفاصيل، المرافق عائلته في كل المراحل مغدقاً الدفء والحنان غارساً القيم والمبادئ محدداً الطريق، كيف يمكن للعائلة أن تحتمل وجع فراقه؟
«هو من يمنحنا قوة الاحتمال» يقول نجله ايلي. في استشهاده كما في حياته، أعطانا الشجاعة والقوة والصلابة والثبات، علمنا كم يستحق الوطن أن نكون أوفياء له. علمنا معنى العطاء والحق والصدق ومعنى النضال في سبيل الوطن... لذلك كله نحن أقوياء، في تحمل فراقه، هو أصلاً لا يفارقنا نشعر به في كل لحظة، في كل خطوة وقرار. أسأل نفسي ماذا كان يريدني أن أفعل في موقف كهذا، أعرف الجواب وأتصرف...».
كيف تراه يكون حاضراً الى هذا الحد في حياة عائلته وأولاده من كان رجلاً كرّس للجيش والوطن حياته، ولم يتأخر مرّة عن أداء واجبه والنهوض بمسؤولياته وهي بحجم الوطن؟
«هو فرنسوا الحاج وليس أي رجل، هو من كان الجيش دم عروقه والوطن نبض قلبه والمبادئ والقيم رائحة عرقه... كان حاضراً، بل ساطع الحضور في حياة عائلته كما في مؤسسته ووطنه».
... وسيظل حضوره ساطعاً: بين الأهل والرفاق والأصدقاء وعموم اللبنانيين الشرفاء، وفي كل حقل وبيدر وسماء... ليكتمل النشيد وينهض وطن حَلم به اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج، وحمله مع من سبقه من شهداء حلموا بوطن وحملوه الى آخر رعشة قلب.

 

أجرت اللقاء:
الهام نصر تابت