- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
يُجمع الباحثون والمحللون داخل إسرائيل وخارجها على أنّها تواجه في هذه المرحلة واقعًا متغيّرًا بصورة دراماتيكية يتطلب منها إعادة تقييم وضعها الاستراتيجي بصورة شاملة، بخاصة بعد اتّخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخّرًا قرارًا يُعرف
بـ ”إعلان نيويورك“، بغالبية 142 صوتًا من الدول الأعضاء مقابل 10 دول فقط صوتت ضد القرار وامتناع 12عن التصويت، للقيام بخطواتٍ ملموسة، محدّدة زمنيًا، ولا رجعة فيها نحو حل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين.
ويدعو القرار إلى تحرّك دولي فوري لإنهاء الحرب في غزة، وفرض إجراءات لتوفير حماية المدنيين ووقف الانتهاكات الإنسانية. وهذا يعني أنّه بينما تستمر إسرائيل في الاستفادة من الدعم العسكري والدبلوماسي، غير المحدود، من الولايات المتحدة بشكلٍ خاص، فإنّ المناخ الدولي الأوسع المحيط بها يتغير بسرعة ووضوح، لا سيما إزاء تزايد الضغط الشعبي في الديموقراطيات الغربية، والتحركات الدبلوماسية نحو الاعتراف بدولةٍ فلسطينية، وتزايد التدقيق في سلوك إسرائيل الفاشي في غزة، بعد عامين متتاليين من المجازر والأهوال المروّعة، ما أدّى إلى التحول في مواقف الأجيال الصاعدة، وبداية إعادة تنظيم مكانة إسرائيل الجيوسياسية والجيوستراتيجية على الساحتين الإقليمية والدولية، خصوصًا بعد مبادرة مجموعة من الدول الغربية إلى الاعتراف بدولةٍ فلسطينية، والتي باتت تُمثل فرصةً لإعادة تشكيل المشهد الدبلوماسي والاستراتيجي العالمي، عبر الضغط على المسؤولين الإسرائيليين، ليس فقط من أجل المساءلة، بل من أجل بناء مستقبل سياسي مستدام قائم على احترام حقوق الغير من منطلق الإنصاف والعدالة ومراعاة القوانين الدولية.
سياسات نتنياهو
أكّد الكاتب الإسرائيلي المعروف غدعون ليفي أنّ إسرائيل تعيش حاليًا، حالة غير مسبوقة من العزلة الدولية نتيجة حربها على قطاع غزة، مشيرًا إلى أنّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى لتطهير عرقي في غزة يهدّد الاتفاقات الإقليمية التاريخية القائمة. وأضاف أنّ المجتمع الإسرائيلي بات يلمس تداعيات هذه العزلة، إذ يشعر كثير من الإسرائيليين بأنهم غير مُرحّب بهم في العديد من الدول، بسبب السياسات التي تُمارَس بحق المدنيين في القطاع والتي وصفها بـ«الإبادة الجماعية». وأوضح الكاتب في صحيفة «هارتس» أنّ العديد من المنظمات العالمية، باتت ترفض التعامل مع إسرائيل، ما انعكس سلباً على حضورها الدولي بخاصة في أوروبا، وأدى إلى تعميق عزلتها. وأضاف أنّ نتنياهو سعى خلال الأشهر الأخيرة، إلى تدمير الروابط التي تجمع إسرائيل بجيرانها، لا سيما تحمّله مسؤولية العواقب الخطيرة الناجمة عن قصف دولة قطر، التي تؤدي دور الوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار. وبحسب ليفي، فإنّ نتنياهو يركّز على مصالحه الشخصية بغض النظر عن التحولات السياسية الكبرى، مشددًا على أنّه يزعم القتال من أجل أمن إسرائيل، لكنه في الواقع يعرّض الاتفاقات مع مصر والأردن واتفاقات «أبراهام» للخطر. وأقرّ نتنياهو، من جهته، بأنّ إسرائيل تواجه عزلة دولية متصاعدة سيكون لها تداعيات مباشرة على اقتصادها، ودعا الإسرائيليين إلى «التأقلم مع واقع جديد»، إذ صرّح خلال مشاركته في مؤتمر اقتصادي محلي بالقول: «نحن ندخل في نوع من العزلة، وعلينا أن نعتاد أكثر فأكثر على اقتصاد يحمل سمات الاقتصاد المغلق». ويُعد هذا التصريح الأول من نوعه على لسانه وهو الذي ظل لعقود يُفاخر بعلاقات إسرائيل الواسعة مع الغرب واندماجها في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي يعكس حجم القلق المتزايد داخل الأوساط السياسية والاقتصادية الإسرائيلية من تأثيرات المقاطعة الدبلوماسية والتجارية والثقافية التي تواجه إسرائيل، خصوصًا بعد تصاعد الانتقادات الدولية لسياساتها الدامية في قطاع غزة وتوسعها الاستيطاني. ولاقى التصريح صدًى واسعًا داخل إسرائيل، إذ رأى فيه خبراء اقتصاديون «إقرارًا متأخرًا بواقعٍ فرضته سياسات الحكومة المتطرفة»، بينما اعتبره معارضو نتنياهو «دليلًا جديدًا على فشل سياسته في الحفاظ على التحالفات الدولية».
تداعيات استراتيجية
شهدت إسرائيل تحوّلًا لافتًا في مكانتها الدولية، مع تفاقم عزلتها السياسية التي بدأت تنعكس عمليًا على مختلف المستويات. وإذا استمرت العزلة والضغوط والاحتجاجات الدولية، فسوف تكون لها تداعيات استراتيجية في مجالات داخلية وخارجية شتى، من أبرزها:
أ – توسيع الفجوة بين الحكومة والمجتمع، فالحكومة اليمينية المتشددة بقيادة نتنياهو قد تجد نفسها في مواجهة ضغوط شديدة من فئات المجتمع المتنوعة، بخاصة إذا تزايدت الأزمة الاقتصادية وتضرر الأمن الداخلي.
ب – تزايد التوتر بين التيارات العلمانية مقابل الدينية: فالتيار العلماني في إسرائيل سيزداد غضبه من هيمنة التيارات الدينية المتطرفة في الحكومة، خصوصًا إذا تم فرض مزيد من القيود الدينية في الحياة اليومية.
ج – تصاعد الاحتجاجات ضد الحكومة بسبب العزلة الدولية والضغط الناتج عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
د – التأثير السلبي على المستوطنين في حياتهم اليومية لناحية ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الوقود والغذاء وارتفاع معدلات البطالة بخاصة في القطاعين التكنولوجي والسياحي.
هـ – تأثير العزلة الدولية بشكلٍ كبير على علاقات إسرائيل الإقليمية مع الدول العربية المطبعة، خصوصًا بعد التطوّرات التي حدثت إثر قصف الدوحة .
ح – تقليص الدعم المفتوح للقطاع العسكري الذي يشكّل جزءًا مهمًا من الاقتصاد الإسرائيلي بسبب العزلة الدولية.
ط – تأثير سلبي على القطاع التكنولوجي في إسرائيل الذي يُعد محرّكًا رئيسًا للنمو الاقتصادي، والشركات الإسرائيلية في هذا القطاع تعتمد بشكلٍ كبير على الاستثمار الأجنبي والتعاون الدولي.
ي – إذا استمرت عزلة إسرائيل الدولية، فإنّ اقتصادها سيواجه تباطؤًا اقتصاديًا ملحوظًا نتيجة مجموعة من العوامل، من بينها العقوبات الاقتصادية، وانقطاع العلاقات التجارية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وحظر التجارة على بعض السلع التي تُنتج في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وبحسب مجلة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية، فإنّ الأرقام تكشف بوضوحٍ أنّ الاقتصاد الإسرائيلي يتّجه نحو مأزق تاريخي، مع عجز مالي متضخم يتجاوز 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتهاوي ثقة المستثمرين المحليين والدوليين، ما يضع إسرائيل على مسار انكماش اقتصادي طويل الأمد.
على الرّغم من الحديث المتواتر في وسائل الإعلام، عن عزلة إسرائيل وتدهور مكانتها وصورتها الدُّوليتين منذ بدء حرب الإبادة في قطاع غزة، وفي الوقت الذي بدأ يتبلور فيه العزم على اتخاذ خطوات مؤثّرة لمواجهتها من قبل الاتّحاد الأوروبي وكندا وبريطانيا وغيرها من الدول، فإنّ هذه الضغوط، وللأسف، لم ترقَ بعد إلى المستوى المطلوب لردع إسرائيل وإلزامها بوقف حرب الإبادة والتّجويع والتوسّع والكفّ عن تحدي العالم والقوانين والمواثيق الدّولية والقيم الأساسية لحقوق الإنسان. وهي لو نجحت فى احتواء هذه الضغوط وتفريغها من مضمونها باستمرار ارتكابها جرائمها الجسيمة، فإنّ ذلك سيُعزّز مشروعها التوسعي في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن وربما دول أخرى، وسيُمكّنها من تصفية القضية الفلسطينية وفتح باب انعدام الأمن والاستقرار بصورة مستدامة في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وهذا هو الخطر الأكبر الذى يتعين على أوروبا والمجتمع الدولى بأسره أخذه بعين الاعتبار ومواجهته بكل حزم.











