قضايا معاصرة

عمالة الأطفال على ضوء مفهوم الأداء الشامل في عالم الأعمال
إعداد: د. نزار منصور

لم تعد عمالة الأطفال مطروحة فقط كمسألة أخلاقية من باب رفض استغلالهم، فالنظرة الحديثة في عالم الأعمال باتت تستند إلى مفهوم الأداء الشامل والمستدام للمؤسسات. هذا المفهوم يتضمّن بالإضافة إلى الأداء المالي والربحية، البعدَين الاجتماعي والبيئي، ويشدّد على مسؤولية المؤسسات حيال مجتمعاتها، ما من شأنه أن ينعكس إيجابًا على الطرفين في المديَين المتوسط والبعيد.

في الواقع، لطالما اشتهرت العلامات التجارية عالميًا وجنت الأرباح الطائلة على حساب العاملين الأطفال الذين يقارب عددهم الـ 160 مليون طفل حول العالم، ولا سيّما في الدول النامية. ومن شأن ذلك حرمان المجتمع طاقاتهم الفكرية والتطورية، فضلًا عن معاناتهم وانتهاك حقوقهم.

ما تقدّم يطرح أسئلة كثيرة ملحّة حول عمالة الأطفال وكيفية بناء المسؤولية الاجتماعية ضمن الأداء الشامل والمستدام للمؤسسات. فهل يمكن مثلًا تعليم الأطفال ضمن المؤسسات التي يعملون فيها خصوصًا أنهم بحاجة إلى العمل؟ وكيف تشارك المؤسسات في بناء المسؤولية الاجتماعية؟ وما هي آثار عدم التزام هذه المسؤولية على أدائها من جهة وعلى المجتمع من جهة أخرى؟

يُشير عميد كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية البروفسور سليم المقدسي، إلى أنّ تقييم الأداء في عالم الأعمال كان يتمحور بشكل رئيسي حول الأداء المالي، إذ كانت الربحية وزيادة قيمة المساهمين الهدف الأساسي. ولكن مع تطور العالم وتغيّرات البيئة، أصبح من الواضح أنّ النظرة إلى الأداء يجب أن تتضمن جوانب أخرى غير الربحية.

ويُوضح المقدسي أنّه لفترة طويلة كان تقييم الأداء في عالم الأعمال يتم بالاستناد إلى الأداء المالي، وذلك من خلال النظرة مثلًا إلى مؤشرات حجم المبيعات والحصة السوقية وتحقيق العوائد المالية المرتفعة. لكن منذ سنوات، انتقلنا بشكل انسيابي من الناحية المالية كجهة وحيدة لتقييم الأداء، إلى نهج أكثر عالمية، بما في ذلك الأبعاد الاجتماعية والبيئية. وقد ظهرت جهات فاعلة أخرى تسمى أصحاب المصلحة stakeholders، وشهد مفهوم الأداء استخدامًا متجددًا.

وعن بناء المسؤولية الاجتماعية ضمن الأداء الشامل والمستدام، أوضح البروفسور المقدسي أنّ وسائل قياس الأداء في عالم الأعمال تطوّرت وتغيّرت وباتت تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وبذلك أصبحت مفاهيم الأداء الشامل والمستدام جوانب أساسية في استراتيجيات الشركات الناجحة في العصر الحالي.

 

أرقام تهدد مستقبل البشرية

في بداية العام 2020، شارك طفل واحد من بين كل 10 أطفال بعمر 5 سنوات في عمالة الأطفال في جميع أنحاء العالم، بما يعادل 160 مليون طفل تقريبًا. هذا مع العلم أنّه تمّ إحراز تقدّم كبير في الحدّ من عمالة الأطفال في العقدين الماضيين بحسب منظمة العمل الدولية واليونيسف (2021).

وكانت منظمة العمل الدولية واليونيسف قد حذّرتا في فترة جائحة كورونا من تعرض تسعة ملايين طفل لمخاطر العمل.

 

أبعاد الأداء الشامل

يتضمّن الأداء الشامل عدة أبعاد:

– الأداء الاقتصادي والمالي: يعكس هذا الجانب القدرة على تحقيق الأرباح وزيادة القيمة للمساهمين، لكنّه لم يعد العنصر الوحيد المحوري في تقييم أداء الشركات.

– الأداء الاجتماعي: بات من الضروري أن تكون الشركات على علم بالتأثير الذي تمارسه على المجتمعات التي تنشط فيها، وأن يكون لها دور في تحسين الحياة الاجتماعية وتقديم قيمة مضافة للمجتمع، ومسؤوليتها في مسألة عمالة الأطفال تقع في هذا النطاق.

– الأداء البيئي: يتعلق هذا الجانب بالتزام الشركات الممارسات البيئية المستدامة والحفاظ على البيئة والحدّ من التأثيرات السلبية عليها.

 

عناصر أخرى جديدة

أصبح من المعترف به على نحو متزايد اليوم، وفق المقدسي، أنّ «استدامة الشركات لم تعد تعتمد فقط على الجانب المالي لأنشطتها، بل على الطريقة التي تتصرف بها. وفي هذا الإطار، نشهد على توسّع مسؤولياتها لتشمل بالإضافة إلى المساهمين، أصحاب المصالح الآخرين: الموظفين، الجمعيات، المنظمات غير الحكومية، النقابات، العملاء والمورّدين وسواهم. وهؤلاء الذين يُعتَبرون لاعبين جددًا، يطالبون بأن يتم الاستماع إليهم، وهذا الاستماع أصبح هدفًا حيويًا لأداء الشركات واستدامتها. وفي هذا السياق، يظهر مفهوم الأداء الشامل، وتتكامل مفاهيم الأداء الاجتماعي والبيئي والاقتصادي والمالي للشركة، لتشكّل عناصر مترابطة».

 

عمالة الأطفال وموارد البيئة

عن مدى إمكان الإسهام في تعليم الأطفال ضمن المؤسسات التي يعملون فيها، وخصوصًا أنّهم بحاجة إلى العمل، رأى المقدسي أنّه عندما تنحصر أهداف المؤسسة في تحقيق الأداء المالي فقط، يمكن أن تتّبع سلوكيات سلبية تؤدي إلى تأثيرات ضارة بالمجتمع والبيئة. على سبيل المثال، قد تلجأ بعض المؤسـسات إلى استغلال عمالة الأطفال لأنّها تُعتبر بديلًا رخيصًا عن القوى العاملة البالغة. هذا لا يسفر فقط عن انتهاكات لحقوق الطفل وتشويه لسمعة المؤسسة، بل يؤثر أيضًا سلبًا على تطور المجتمع ونموه بشكل عام.

بالإضافة إلى ذلك، قد تلجأ بعض المؤسسات إلى استهلاك الموارد الطبيعية بشكل لا مسؤول، سواء من خلال تلويث البيئة أو استنزاف هذه الموارد، من دون النظر إلى التأثيرات البيئية السلبية. بالتالي، قد تقوم مصانع بتصريف نفاياتها في المياه العذبة أو أذيّة الغابات، من دون وضع استراتيجيات بديلة للحفاظ على التنوّع البيئي.

 

مرونة الاستراتيجيات

في عالم الأعمال المتغّير، يجب أن تكون الاستراتيجيات مرنة وقابلة للتكيّف مع التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويجب أن تأخذ الشركات بالاعتبار حلول الأزمات والكوارث والتأثيرات المحتملة على المجتمعات التي تعمل فيها، وتكون مستعدة لتبنّي استجابات فعالة ومسؤولة. وقد أظهرت الدراسات أن تبنّي المؤسسات لمبادئ المسؤولية الاجتماعية، يمكن أن يؤدي إلى تحسين الأداء المالي على المديَين المتوسط والطويل. فعلى سبيل المثال، يمكن للمؤسسات التي تستثمر في البيئة والمجتمع أن تحظى بدعم أكبر من العملاء والمستثمرين الذين يهتمون بالقضايا الاجتماعية والبيئية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمبادرات الاجتماعية والبيئية أن تسهم في بناء علاقات أقوى مع المجتمع المحلي، مما يؤدي إلى تحسين سمعة المؤسسة وزيادة قدرتها على جذب المواهب والعمالة الماهرة.

 

التزام معايير مكافحة عمالة الأطفال

ويتابع المقدسي قائلًا: «تُعتبر المبادرات الاجتماعية والبيئية جزءًا أساسيًا من استراتيجية الشركات الناجحة. فبالإضافة إلى تحقيق الأرباح، تسعى المؤسسات أيضًا إلى تحقيق تأثير إيجابي على المجتمعات التي تعمل فيها. ومن خلال دعم البيئة والرياضة والفنون وغيرها، يمكن للمؤسسات أن تلعب دورًا فعّالًا في بناء مجتمعات قوية ومستدامة». وبرأيه، «يمكن اعتبار المؤسسات محركًا رئيسيًا للتغيير الاجتماعي، إذ يمكنها وضع استراتيجية للمسؤولية الاجتماعية وتطوير برامج توعوية في المجتمعات المحلية تهدف إلى حماية البيئة وتطوير الكفاءات والمهارات والتربية على المواطنة والمساواة، ممّا يسهم في منع عمالة الأطفال وتحقيق التنمية المستدامة. كما يجب على الشركات التزام التشريعات القانونية والمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الطفل ومكافحة عمالة الأطفال».

ويوضح أنّه على سبيل المثال، يمكن للمؤسسات بناء سياسات داخلية تحظر عمالة الأطفال وتعزز حقوق العاملين والمجتمعات المحلية. ويمكنها تطوير استراتيجيات لحماية الموارد البيئية والحفاظ عليها، مثل استخدام تكنولوجيا نظيفة والاستثمار في الطاقة المتجدّدة. كما يمكنها الاستثمار في برامج تدريب وتطوير للموظفين بهدف تعزيز الوعي بالمسائل الاجتماعية والبيئية، وتفعيل المشاركة المجتمعية في أنشطتها.

بهذه الطريقة، تُسهم المؤسسات في بناء مجتمعات مستدامة، وتحقيق الرخاء الاقتصادي بشكل يحافظ على البيئة ويحترم حقوق الإنسان، وبالتالي يتمّ تحقيق التنمية المستدامة والشاملة على المدى الطويل.

وبما أنّ المسؤولية الاجتماعية كجزء من الأداء الشامل والمستدام، تقتضي تضمين الأبعاد الاجتماعية والبيئية في عمليات اتخاذ القرارات واستراتيجيات الشركات، فإنّ مفهوم الأداء الشامل يبدو كنهجٍ متكامل. قد تقوم مؤسسة مثلًا بتطوير برامج توظيف وتدريب للشباب المحلي في المجتمعات التي تعمل فيها، ممّا يسهم في تنمية الموارد البشرية وتعزيز فرص العمل المحلية.

يظهر من النقاط المذكورة أعلاه أن الأداء الشامل للشركات أصبح له دور حيوي في استراتيجيات النجاح في عالم الأعمال المعاصر. وباعتبارها جزءًا من المسؤولية الاجتماعية للشركات، فإنّ القرارات التي تأخذ في الاعتبار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية يمكن أن تسهم في بناء علاقات قوية ومستدامة مع جميع أصحاب المصلحة وتعزيز التنمية المستدامة.

بذلك، يمكن القول إنّ تبني المؤسسات لوجهة نظر المسؤولية الاجتماعية والأداء الشامل والمستدام، يعدّ أساسًا للنجاح في عالم الأعمال، وتعزيز الابتكار والتنمية المستدامة، وتحقيق التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهو بالتالي ليس ضرورة أخلاقية فقط، بل أساس للنجاح المستدام في عالم الأعمال.