وجهة نظر

عندما يعود التاج البريطاني الى لندن...
إعداد: جورج علم

عاد التاج البريطاني من بروكسيل إلى لندن، محمولًا فوق أيدي 51.9 في المئة من البريطانييّن. قررّت المملكة المتحدة الخروج، فتقوّس ظهر الاتحاد الأوروبي باكرًا، ووقف العالم مشدوهًا، وبدأ الكل يتحسس رأسه.

 

ثلاثة منتصرين
كان المنتصرون ثلاثة: روسيا التي تريد اتحادًا ضعبفًا. الولايات المتحدة التي تتبع سياسة «فرّق تسد». وألمانيا القوة الاقتصاديّة التي تريده على قياس المنافع والخدمات. لقد قالتها صراحة المستشارة آنجيلا ميركل في عزّ أزمة الديون اليونانيّة: «لا نريد أن نبقى رافعة الاتحاد من دون مقابل!».
ويبقى المبضع يعمل في المشغل الأوروبي، لتفصيل الثوب الجديد. ليست الألوان الجاذبة وحدها المهمّة، بل التفاصيل الدقيقة المتناسقة مع الجسم الأوروبي الجديد، وفق ضرورات الأمن، والاقتصاد. البعض يريد أن يخيط الكفن، لاعتقاده بأن منطقة اليورو كانت طودًا عظيمًا من الرمال المتراصّة، وعندما هبّت العواصف المتأتية من الداخل والخارج، تبدّد، وتناثرت الحبيبات في كلّ اتجاه. البعض الآخر تمسّك بالبذلة المحافظة، لاعتقاده بأن الثوب الفضفاض قد تحوّل إلى عبء على حامله. الأطراف الأخرى تريده مجرّد مظلّة وارفة، لكن مع الحرص على التنوع. فعل ديفيد كامرون ما بوسعه للبقاء، لكن عندما نادت الأكثريّة البريطانبّة بالخروج، قال الكلام الفصل: «المجتمع الأوروبي منقسم عموديًا، نصفه لا يثق بسياسة الاتحاد تجاه موضوع الهجرة، والانفتاح، والنزوح، والإرهاب، والتغيير الديموغرافي!».
 

يقظة القوميات المتشددة
حاولت النائبة العمّاليّة في مجلس العموم البريطاني، جو كوكس، أن تثبّت البقاء قبل أن تميل شمس بريطانيا نحو أصيل العزلة، والابتعاد عن الحلفاء، دفعت الثمن، أطلق توماس مير النار، فأرداها، وعندما سأله قاضي محكمة وستمنستر عن اسمه، قال: «إسمي الموت للخونة... الحريّة لبريطانيا!»...
توماس مير، الاسم الحركي للقوميّات الأوروبيّة الناهضة من سباتها العميق. إنها القارة القلقة على حاضرها، ومستقبلها، ومصيرها: الهجرة المتمادية من الدول «الجائعة»، نحو الدول «المتمكّنة». النزوح المتدفق من الشرق الأوسط وأفريقيا. الإرهاب المتنامي. الخوف على الهوية، السياسات الاقتصاديّة الهوجاء. التراكمات التي فاقت كل الاحتمالات وكوّنت يمينًا أوروبيًّا متشددًا يصرخ بوجه القادة في بروكسيل: «كفى؟!.. سياساتكم نقلت الاتحاد من المغامرة، إلى المقامرة!». لم يعد همّ الأوروبي «الهروب» من الضرائب، بل من الحزام الناسف، والرصاصة القاتلة التي تلاحقه في المطعم، والمقهى، والملهى، والرصيف، ومحطات المترو... لم يعد همّه تقصّي أخبار المونديال، بل همّه معرفة أين وقعت الواقعة اليوم، وكم عدد الضحايا والإصابات!.
إلتقى النخبويّون من حزبي العمال، والمحافظين، على رمي أعقاب سجائرهم المشتعلة في كومة القش، انتقدوا التوقيت، قالوا بأن كاميرون لم يحسبها جيدًا هذه المرّة، دعا إلى الاستفتاء، ولا عيب في ذلك، لكن سها عن باله بأن الديموقراطية في كلّ أوروبا، تعاني تحديات ثلاثة: الإرهاب الذي يضرب بعنف، وأمواج النزوح التي تجتاح السواحل الأوروبيّة، والخوف المجتمعي من التغيير الديموغرافي، والثقافي الوافد مع الغريب الذي يجتهد في تثبيت حضوره ونفوذه.

 

إنقسام عمودي خطير
إنها تحديّات فرضت نفسها على المجتمع الأوروبي. يصرخ بوريس جونسون بأعلى صوته أمام مناصريه: «نريد بريطانيا للبريطانييّن!». جونسون هو العمدة السابق لمدينة لندن، وأبرز الوجوه المؤيدة لحملة مغادرة بلاده للكتلة الأوروبيّة، لكن والده ستانلي، وشقيقته راشيل، وشقيقه جو، وهو عضو في البرلمان البريطاني، والذي عمل بشكل وثيق مع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، صوّتوا جميعا لمصلحة البقاء.
تسرد الـ«فايننشال تايمز» ما يلي: حملت أنّا سليماني، المحررة الفرنسيّة الشابة علبة من خبز «الكرواسون»، في محطة كينكزكروس في لندن، حيث يصل قطار «اليوروستار» الذي يربط بين العاصمتين لندن وباريس. ووزّعت أنّا، وعدد من أصدقائها، الخبز الشهي على البريطانييّن المنشغلين بالوصول إلى أماكن عملهم، قبل يوم واحد من الاستفتاء، مرفقًا بابتسامات عريضة، وبطاقات بريديّة تحمل عبارات: «لا ترحلوا عنا... إننا نحبكم»... لكن فضّل 51.9 من المجتمع البريطاني الرحيل...
إنه الانقسام العمودي في المجتمع الأوروبي ، وليس البريطاني فقط. 48.1 من البريطانيين مع البقاء، ولكن...
لا يميل أفراد أسرة دريسكول إلى الشجار. وإذا ما تشاجروا، فسيكون الجدال عادة حول من عليه الدور لاستخدام المكنسة الكهربائيّة.
تعمل ليزلي دريسكول، 55 عامًا، في بيع الكعكات الساخنة من أحد المخابز الإنكليزيّة في لندن، ودائمًا ما تنادي زبائنها بكلمات لطيفة مثل «حبيبتي» أو «عزيزتي»، فيما يعمل زوجها بيتر، 54 عامًا، في شركة تركيب الأرضيات، أما ابنتهما لويز البالغة من العمر 19 عامًا، فتعمل نادلة في أحد المقاهي.
قبل أسبوع من الاستفتاء تشاجرت عائلة دريسكول بشكل سيّىء، وبعد فترة وجيزة من الجدل الحاد، خرج الأب بيتر من المنزل وهو عابس الجبين لرؤية بعض من أصدقائه في ديربي ناحية الشمال، وكان مصدر المشكلة العائليّة هو ما إذا كان ينبغي على بريطانيا البقاء في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته. الانقسام العميق الذي ضرب البلاد حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإقليميّة، مع نسبة كبيرة من كبار السن، والعمال الإنكليز الذين أيدوا الخروج البريطاني، ونسبة مماثلة من صغار السن، والأفضل تعليمًا، ومعظمهم من سكان اسكوتلندا، وإيرلندا الشمالية، فضّلوا البقاء.
وتحاول الصحيفة وضع الإصبع على الجرح، فتنشر: هناك اعتقاد شائع بأن المواطنين الأوروبيين سوف يتدفقون على بريطانيا، ولا سيما من دول أوروبا الشرقيّة، للاستفادة من نظام الرعاية الاجتماعية المتميّز. ولكن نظام الرعاية الاجتماعية البريطاني لا يتميّز بالسخاء المتوافر في دول أوروبيّة أخرى، وهنا 7 في المئة فقط من المهاجرين يتمتعون بفوائد هذه النظم.
تتذكر السيدة دريسكول جدّها لوالدها الذي كان يرهن سترته، ثم يعيد رهنها مرّة تلو المرّة كي يغطي الأساسيات من تكاليف المعيشة. ولقد عادت تلك الذكريات البائسة إلى الحياة مرّة أخرى، كما تقول، عندما اكتشفت قبل بضع سنوات، أن العائلة البولنديّة الوافدة حديثًا إلى الحي الذي تسكن فيه، قد تلقت أموالًا لشراء سيارة جديدة، وانتقلت لتعيش في منزل جديد يضم أربع غرف للنوم!. تقول دريسكول: «قبل سنوات لم يكن لدينا ضمان اجتماعي، أو أي شيء من هذا القبيل. كان عليك أن تتصرف بنفسك لإعالة نفسك». على جدتها أن تستعيد سترة زوجها من متجر الرهانات عندما يحصل على راتبه في كل يوم جمعة، ثم يعيدون رهنها مرّة أخرى يوم الإثنين، وهكذا كانت تسير الأمور».
تضيف: «وجود الثقافات المختلفة، والمجتمعات المتنوعة، هو من الأمور الرائعة، ولكن ما لا يعجبني حقيقة هو أننا تركنا أنفسنا منفتحين بشدة على الجميع، أشعر وكأنني مواطنة من الدرجة الثانية في موطني».
إبنتها لويز لها منطق آخر، لقد نشأت في المكان نفسه، ولكن في بريطانيا المزدهرة، ذات الثقافات المتعددة بأكثر مما شهدت الأجيال السابقة عليها، وفي المدرسة، كانت الوحيدة ذات البشرة البيضاء، أصدقاؤها كانوا من إرتريا، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، وصوتت لمصلحة بقاء بريطانيا ، عكس والدتها، «أنا أتفهم الضغوط التي تلقيها الهجرة على عاتق المدارس، والمستشفيات في البلاد، ولكن مغادرة الاتحاد الأوروبي تسبب لي قلقًا شديدًا، إنها مخاطرة بتدمير اقتصاديات البلاد. لقد استغرق الأمر ثمانية أشهر للحصول على عمل كنادلة في أحد المقاهي، إذا ما أردت العمل في الخارج فالأمر سيكون أسهل بكثير لو ظلت إنكلترا جزءًا من الاتحاد الأوروبي».

 

التداعيات... والتحديات
إنه صراع أجيال، لا بل انقسام حاد داخل المجتمع حول الحاضر، والمستقبل، والمصير. إنه زلزال حقيقي، وصدمة للاتحاد الأوروبي، والاقتصاد الدولي، وهناك تخوّف جدّي من «تفكك» محتمل للاتحاد، إذا ما حاولت دول أخرى إعادة التفاوض حول شروط عضويتها مع بروكسيل.
يؤكد وزير الخارجيّة الإلماني فرانك فالتر شتاينماير «أن خروج بريطانيا شكّل صدمة للاتحاد، ويتوجب علينا العمل للحفاظ عليه، لكي لا تنتهي عملية إندماج ناجحة دامت عقودًا، إلى تفكك هذا التكتل». رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قدّم استقالته من منصبه كرئيس للحكومة، وللحزب المحافظ. وكان قد راهن بمصداقيته عندما دعا البريطانيين إلى الاستفتاء، وتشير التوقعات إلى أن الرئيس السابق لبلدية لندن بوريس جونسون الذي قاد حملة مؤيدي الخروج، سيحلّ محلّه.
وإذا كانت وحدة الاتحاد الأوروبي في خطر، فوحدة بريطانيا أيضًا، ذلك أن رئيسة وزراء اسكوتلندا نيكولا ستورجون المتمسكة بالبقاء في الاتحاد، تريد تنظيم استفتاء جديد حول الاستقلال عن المملكة المتحدة، ولتنشق اسكوتلندا هذه المرّة مبتعدة عن بلد اختار الخروج من البناء الأوروبي.
وفي إيرلندا، يعاد ترسيم حدود جديدة تعزل إيرلندا الشمالية عن جارتها جمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد، مما يضعف الحركة التجارية بين طرفي الحدود.
ويحذّر رئيس المفوضيّة الأوروبيّة جان كلود يونكر من «أن المملكة المتحدة ستكون دولة ثالثة لن نراعيها». وقال المدير العام لمنظمة التجارة العالمية روبرتو اريفيدو «إن العملية يمكن أن تستغرق عشر سنوات، وإن بريطانيا ستحتاج إلى وقت قبل أن تستعيد موقعًا مشابها لوضعها الحالي».
في المقابل فإن معسكر مؤيدي الخروج يسعى إلى إيجاد نوع من التأقلم السريع مع الاقتصاد البريطاني المرن والحيوي، يدعمه اختيار شركاء إقتصاديين جددًا، وهجرة إنتقائية. ومع أن غالبية المؤسسات الاقتصاديّة تتوقع صعوبات على المدى الطويل، إلاّ أن معهد «كابيتال إيكونوميكس» للأبحاث أشار إلى أن الأمر لن يكون كارثة مدى الحياة للبلاد. وشدّد على أن البلاد تتمتع بعدة ميزات تدعم قطاعها المالي، خصوصًا النظام القضائي، واللغة، والتوقيت، وتوافر يد عاملة ماهرة.
ويأمل المعسكر المؤيد للخروج تراجع عدد المهاجرين القادمين من الاتحاد الأوروبي، مما سيؤدي إلى نقص في اليد العاملة في قطاعي البناء، والخدمات.

 

هل تكرّ السبحة؟
يرى رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يشكل تهديدًا خطيرًا على الحضارة السياسية الغربيّة. وهو يعتبر أن المخاوف المتعلقة بتفكك الاتحاد هي مخاوف بعيدة الإحتمال، ومع ذلك فإن 7 دول أوروبية قد تطالب بالانفصال:
• السويد التي تعتبر نفسها معادلًا اسكاندينافيًّا لبريطانيا، حيث ترفض اعتماد العملة الموحدة اليورو، واستقبلت مئات الآلاف من اللاجئين العام الماضي، واكتسب اليمين المتطرف فيها زخمًا قد يقود البلاد إلى إستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي.
• الدانمارك: صوّت الدنماركيّون في كانون الأول الماضي ضد تسليم المزيد من الصلاحيات للاتحاد الأوروبي... والآن، وبعد خروج بريطانيا، يواجهون مرحلة إعادة تدقيق الحسابات!.
• اليونان: إختفت أزمة ديون الحكومة اليونانية عمومًا من النقاش العام، لكنها ستعود عاجلًا أم آجلًا.
• هولندا: دعا رئيس الحزب الشعبوي اليميني جيرت ويلدرز إلى الخروج من الاتحاد «إذا أردنا أن نحيا كأمة، فعلينا أن نوقف الهجرة...».
• المجر: لا يعرف عن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أنه صديق مخلص للاتحاد الأوروبي، وعندما استقبله رئيس المفوضيّة جان كلود ينكر في أيار الماضي خاطبه قائلًا:«مرحبا، أيها الديكتاتور»، بينما كانت كاميرات التلفزيون تسجّل ذلك الحادث المفجــع.
• فرنسا: أكدت زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبين، بأن مصير فرنسا سيكون مشابها لبريطانيا حال ما يقود حزبها البلاد.
• إسكوتلندا: تؤكد رئيسة الوزراء نيكولا استورجين أن «الانفصال يجب أن يناقش... ».
لقد غيّرت أكثرية الـ51.9 في المئة من البريطانيين وجه أوروبا... لكن يبقى السؤال: هل تعود بريطانيا إلى استفتاء تنظمه في المستقبل المنظور، ويعود من خلاله التاج البريطاني إلى بروكسيل؟!...