- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
إستضافت القاعة الملكيّة في مطار جدّة أول مكوّن للتحالف الدولي، تحت عنوان: «مكافحة إرهاب داعش، وجبهة النصرة». قام بتوجيه الدعوة وزير الخارجيّة الأمير سعود الفيصل، وتمثّل الحضور بوزراء خارجيّة الولايات المتحدة، ولبنان، ومصر، والعراق والأردن، وتركيا، ودول مجلس التعاون الخليجي. وضمّت القاعة الملحقة مستشارين وخبراء لصياغة مسوّدة البيان الختامي. أربعون دقيقة كانت كافية لإقراره، ليستكمل البحث بمداخلات قيّمة تناولت الربيع العربي منذ ثورة الياسمين في تونس، وصولًا الى دولة أبو بكر البغدادي!.
حظي لبنان بنصيب وافر، من منطلق كونه نموذجًا نقيضًا «للثقافة الداعشيّة»، التي حاولت أن تخدّش تنوّعه، بعبوات ناسفة، وسيارات مفخخة، وخلايا نائمة، وأخرى يقظة، قبل أن ينبش أظافره في عرسال. واللافت في هذا النقاش الفكري الأكاديمي، كان التركيز على حال الجيوش العربيّة خصوصًا في الدول المنتفضة، او التي زارها الربيع العربي، وحظي الجيش اللبناني بهامش واسع، مع الكثير من الإطراء بين واقعه وما هو عليه، وبين التحديات المصيريّة الجسيمة التي تواجهه في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ لبنان والمنطقة.
قدّم رئيس الوفد الاستشاري الأميركي مداخلة مسهبة حول النظرة الى الإرهاب، وسبل المعالجة. تطرّق الى ما أسماه «التعاون البناء» مع الجيش اللبناني، فقال أن مهمته تنحصر بترسيخ الاستقرار، ولو بحدّه الأدنى. تحدّث عن المجموعة الدوليّة لدعم لبنان، فقال أنها لم تقدّم الكثير، او لم تقدّم بما يتناسب وحجم الوعود التي قطعتها. عقد أكثر من خمسة اجتماعات ما بين نيويورك، والكويت، وباريس، وروما، ووعدت مرارًا وتكرارًا بتزويده بما يحتاج من أسلحة، لكنها لم تصل، ومع ذلك بقي (الجيش) وفيًّا للمبادىء التي يؤمن بها، وهناك التزام أخلاقي للتعاون معًا لترسيخ الإستقرار. قال: «إن النظرة الى لبنان لا تنطلق من كونه قيمة نفطيّة - ماليّة - إقتصاديّة، بل من كونه قوّة معنوية، موقعه استراتيجي ما بين الشرق والغرب، وتتوافر فيه كل مقبّلات الحريّة، وتتفاعل فوق أرضه خصائص ثقافيّة متنوعة. الحرص الدولي على استقراره لم يقترن لغاية الساعة بخطة واضحة، او استراتيجيّة، او برنامج عمل؛ ربما هناك بعض التعاون اللوجستي المخابراتي، لكنّ عنصر الثقة مهم جدًا، الجيش هو المؤتمن على الاستقرار الذي تريده المجموعة الدوليّة. هناك شراكة معنوية، والأدق، هناك اجتماعات ولقاءات تتم مع القيادة، وعن طريق السفراء او الملحقين العسكريين، وهناك تفاهمات حول العديد من الملفات التي يفترض التعاطي معها بالكثير من الحكمة والهدوء والواقعيّة!».
رئيس الوفد المصري، وصف الجيش بـ«المؤتمن على الوزنات الخمس»، وأولها أنه العمود الفقري لبلد «يصحو على الكيديّة، ويغفو على الاتهامات المتبادلة!». قال: «ثقة المجتمع الدولي بلبنان نابعة من الثقة بجيشه. مؤسسة تكاد أن تكون الوحيدة في موسم التصحر والفراغ الذي يضرب لبنان من فوق، من رأس الهرم، مؤسسة متعددة الأدوار والمهام، إنها على الحدود للدفاع عن السيادة الوطنيّة، وإنها في الداخل للدفاع عن السلم الأهلي، وإنها الى جانب المؤسسات الرسميّة والخاصة للدفاع عن دورة العمل والإنتاج. إنها الرابط بين القرار الدولي بالاستقرار، وبين واقع الدولة الذي هو بحاجة ماسة الى المؤسسة العسكريّة لفرض الاستقرار». واجه الجيش الإرهاب في مخيّم نهر البارد باللحم الحي. وقبل أن يرتاح إثر كلّ جولة، يرى نفسه مضطرًا للانخراط في جولة جديدة دفاعًا عن هيبة الدولة، وصونًا للوحدة الوطنية!.
وتتمثّل الوزنة الثانية بالدفاع عن الصيغة، او ما يعرف بالقيم السامية المشتركة التي يمتاز بها المجتمع اللبناني المنفتح والمثقف، والذي يعاني هذه الأيام وباء المذهبيّة والفئوية والطائفيّة. «هناك توظيف عالي المستوى من التدخلات الخارجيّة، حتى الولاءات أصبحت وكأنها قيمة مضافة على خصائص البلد ومواطنيه، وكأن هذا اللبنان الصغير قد تحوّل الى جمعية أمم من كثرة الأعلام الصديقة والشقيقة المرتفعة على شرفاته، مع الإشارة الى أن هذا الطيف السياسي معروف بولائه الى هذه الدولة، وذاك الى تلك الدولة، وهكذا دواليك... كوكتيل من المرجعيات والولاءات، فيما يبقى الضمانة الوحيدة للجميع».
الثالثة: في بلد مربك، مشرّع الأبواب أمام التيارات المتصارعة في المنطقة، شكّل الجيش مساحة أمان في الإئتمان على تنفيذ القرارات الدوليّة. لا يمكن التقليل من ظاهرة هذا الرابط الذي يجمع ما بين الجيش وأكثر من ثلاثين بلدًا يشاركون في القوات الدولية العاملة في الجنوب. إن أواصر التعاون، وآليات العمل قامت على الكفاءة والجدارة، وأيضًا على الشفافية والصداقة. ليس من السهل أن يكون الجيش الساهر والحارس لبيئة مركّبة فيها الكثير من الزرع الأجنبي في التربة اللبنانية الخصبة!. صحيح إنهم جاؤوا كقوة دعم، لكن الصحيح أيضًا إنهم يغادرون كقوة صديقة للبنان، صادقة بانطباعاتها ومشاعرها حياله.
الرابعة: إن تجربة الربيع العربي قد وضعت الجيوش في محنة كبرى. الجيش العراقي ذهب الى بيته مع دخول الدبابة الأميركية، وأول قرار اتخذه بول بريمر فور وصوله الى بغداد، قضى بتسريح الجيش ضبّاطًا وأنفارًا «تمهيدًا لنشر الديموقراطية، وتعميمًا لحقوق الإنسان!». في دول أخرى ذهب الجيش الى القتال، وتخندق في محاور الصراعات الداخلية. حتى تلك التي أسعفتها الحكمة، حاولت تحييد جيشها، لكن التجربة لم تكن سهلة، بعدما اصطدمت بعوائق عديدة، واكتشفت أن إعادة التأهيل لا تقتصر على العديد والعتاد فحسب، بل على الدور والاستراتيجيّة. لا يملك الجيش اللبناني ما تملكه الجيوش الشقيقة والصديقة من أسلحة، ولكنه مرّ بتجارب لا يستهان بها، وأخضع مرّات عديدة لاختبار فحص الدم، وكان يخرج منها في كلّ مرّة قويًا منيعًا يمكن الاعتماد عليه.
الخامسة، تتلخص بالنوعيّة، والثقافة النخبوية. لغيره الأموال، والإمكانات، والمعاهد، والدورات، ومراكز التدريب، وله نمط من العصاميّة المسلّحة بالثقافة والخبرة، والعلم والمعرفة، وروح المبادرة. خصائص قد تجتمع في جيوش، لكن من النادر أن تجتمع بجيش واحد يقول: «لبّيك لبنان في ظلّ المنزلقات المذهبيّة والطائفية والفئوية الطاغية على الساحة، وكل الساحات الأخرى في الوطن العربي حيث توجد تنوعات ثقافية!».
إنتهت الجلسة، وصدر البيان الختامي، وتليت المقررات، وإذا الضجيج في بيروت يدور حول سياسة المحاور، وارتماء لبنان في أحضان التحالف الدولي الجديد. والحقيقة كانت مغايرة تمامًا، فلا تحالفات ولا محاور، والمطالعة الدقيقة انطلقت من أن لبنان يحارب الإرهاب قبل قيام التحالف، وحتى قبل أن تفكّر الدول الكبرى العمل على تكوينه.
ولبنان، بحقيقة الأمر، هو الضحيّة، والمعتدى عليه، وما يقوم به إنما يندرج تحت عنوان الدفاع عن النفس، وحماية السيادة، والزود عن الميثاق، والصيغة، والعيش الواحد بين أتباع 18 طائفة ومذهب، والالتزام بأصول وقواعد وثوابت المصلحة الوطنية العليا التي تبقى أولوية لا تعلو فوقها أية أولوية أخرى.
وفي ظل الانكشاف العام السائد في لبنان والمنطقة، يبقى الجيش الأمل، والضمانة، وليس التحالف الدولي.
صحيح إن هذا التحالف قد اصبح حقيقة، وقوّة ضاربة، لكن هل يتمثّل الإرهاب فقط بمجموعات بشريّة، يمكن إخضاعها، والسيطرة عليها، أم هو ثقافة، وعقيدة، وفكر، وتوجّه، وتنشئة لها من المقومات البشريّة والمالية والمعنوية ما يحوّلها الى أخطبوط خطر، بحيث إذا ما تمّ النيل من بعضه، يستطيع أن يستمر بالبعض الآخر؟!. وهل هناك جديّة حتميّة في استئصاله أم أن المصالح والخلفيات الدولية أقوى وأبعد من الشعارات؟!.