وصية عسكري

عن معركة المالكية والجيش والوطن
إعداد: د.جاكلين أيوب

حكاية تنتقل من جيل إلى جيل


هي ليست بحكاية أو قصة عادية، كتلك القصص الكثيرة التي تمحوها الذاكرة بعد حين، بل هي حكاية بطولة وشرف، حكاية رجل قدّم لجيشه ووطنه كل طاقاته، وترك لعائلته وصية ببند واحد، لكن كتابتها استغرقت عمرًا...
في زمن تكثر فيه الحكايا الفارغة من أي مضمون ومعنى، وتنتشر قيم الاستهلاك والابتذال والحياة الركيكة، يختزن الوجدان الوطني، ويختزن تاريخ الجيش حكايا عن البطولة والشجاعة والعنفوان، حكايا تخرج من الخنادق ومن خلف المتاريس، يسطّرها أبطال الجيش اللبناني جيلًا إثر جيل، حيث في كل موقعة وعند التخوم والحدود، يظهر من يقدم لجيشه أروع التضحيات وقمة العطاءات، فترخص الدماء في سبيل حفنة تراب ونسمة هواء تنساب بين جبال بلد الأرز ووديانه. هذا التاريخ مليء بالتجارب المحفّزة التي تجعل من الجيش اللبناني جيشًا ملتصقًا بوجدان الناس.
الأهم في كل ذلك أن نستخلص العبر والدروس من حكايا قصّها هؤلاء الأبطال على مسامع أبنائهم، وحفروا في وجدانهم على مدى الأيام حروف وصية مقدسة، فتعلقوا أكثر بوطنه. حكايا يشكّل كل منها نموذجًا ومثالاً يدفعنا أكثر فأكثر إلى التمسك بقيم الشرف والتضحية والوفاء، شرف القتال ضد أعداء الوطن، والتضحية بالغالي والنفيس من أجل تراب الوطن وعبق الأرض، والوفاء لكل الذين قدموا أغلى ما عندهم من أجل لبنان العّز، ولبنان الدولة والوطن والمؤسسات. هذه هي الدروس التي إليها نعود في كل مرة، لنصون ما بناه من سبقنا ونشارك في صنع مستقبل أبنائنا.
ومن هذه الحكايا، حكاية خطّها الياس ابراهيم أيوب ابن بلدة منيارة العكارية، الذي تطوّع في الجيش اللبناني، ملبّيًا نداء الواجب.

كان الجندي الياس أيوب من بين المشاركين في أولى المعارك التي خاضها الجيش ضدّ العدوّ الإسرائيلي، أي معركة المالكية. في تلك المعركة استبسل العسكريون اللبنانيون، وحقّقوا نصرًا عجزت عنه الجيوش العربية في حرب الـ48 وإثر اغتصاب العدو الإسرائيلي لفلسطين. يومها رفع الجيش اللبناني راية النصر في معركة لم ينسَ الياس أيوب أيًا من تفاصيلها.
كان يروي لأولاده قصة استعادة البلدة من العدو وإجباره على التقهقر والتراجع، بل مطاردته إلى داخل أراضيه، رغم القصف الجوي والمدفعي المتواصل. يخبرهم كيف لقّن الجنود اللبنانيون العدو درسًا لن ينساه، وجعلوا من المالكية فعل بطولةٍ وتاريخًا يُروى. لقد استعصت المالكية على جنود الاحتلال، واستعصت الحكاية على النسيان. يومها أثبت الجندي اللبناني أنه قادر على صنع الانتصارات، انطلاقًا من الإصرار والإرادة والعناد.
لقد أضحى الفوج الثالث فوج المالكية، فوج النصر واجتراح المعجزات وخرق قواعد العلوم العسكرية، وبات أبطاله الشجعان مثالاً يحتذى.
هذه الحكاية كان الجندي الياس أيوب يقصّها على مسامع أولاده في الأول من آب وفي كل مناسبة وفي كل ليلة، أراد أن تتخلد وتنتقل من جيل إلى جيل، من الأولاد إلى الأحفاد فأولادهم...
في أعقاب معركة المالكية تنقل الرقيب الياس أيوب في عدة قرى وبلدات جنوبية، من بنت جبيل، إلى أرنون، إلى قعقعية الجسر، والقاسمية، فتخوم التخوم في الناقورة... وكان الله قد منَّ عليه بالإضافة إلى قوة الشكيمة والجرأة، بمتانة البنية والجسد، وكان رياضيًا قويًا.
قررت المؤسسة الاستفادة من طاقاته الرياضية فألحق بفريق الجيش لكرة القدم، وأصبح حارس مرمى الفريق. كما شارك أيضًا في بطولات ألعاب القوى على الصعيد الوطني، وفي بطولات عربية، ونال بنتيجتها عدة ميداليات. لاحقًا انتقل إلى تدريب شباب الاحتياط في المدارس والثانويات في كل أرجاء لبنان.
وبعد مسيرة طويلة ومميّزة، أحيل على التقاعد، لكنّه ظلّ ذلك العسكري المنضبط، الملتزم قيم مؤسّسته وروحيتها، كان يقف بقامته المنتصبة كالرمح ليؤدي التحية لضابط أو رقيب أو جندي يلتقيه، وكأنّه ما زال في الخدمة.
لم يتقاعد يومًا من حب وطنه، ولا تعب يومًا من استعادة الذكريات على مسامع أولاده، ولا نجحت الحروب والمآسي في زعزعة إيمانه بالجيش مؤسسة ضامنة لكل الوطن وخزانًا للمبادئ السامية والقيم النبيلة.
أما وصيته لأولاده فكانت: التصقوا بالجيش ولا تبخلوا بتضحية من أجله، فالجيش هو الوطن، والوطن هو الجيش.