أسماء لامعة

غسان تويني: رجل الأدوار الكبيرة الصعبة
إعداد: تريز منصور

عملاق الصحافة اللبنانية

كبير من لبنان، عملاق الصحافة العربية واللبنانية. هزّ حبر قلمه وجدان العالم وضميره.
إنه صاحب جريدة «النهار» وناشرها غسان تويني، الصحافي الكبير، والسياسي العريق، والمفكر والمثقف والمتعدد المواهب، وأسطورة الإيمان أمام المصائب والشدائد.
إنه الصوت الصارخ «اتركوا شعبي يعيش»...


من البداية...
ولد عملاق الصحافة اللبنانية والعربية وعميد جريدة «النهار» غسان تويني في 5 كانون الثاني العام 1926، والده الصحافي الكبير جبران تويني الذي أسـس العام 1924جريدة «الأحرار» التي كانت أول صحيفة تعتمد صيغة الشركة المساهمة في تاريخ الصحافة اللبنانية، وكان لها مراسلون دائمون في القدس وحيفا ودمشق (نجيب الريس)، وحلب (سعيد فريحة)، إضافة الى بغداد والقاهرة. والعام 1933 أسس جريدة «النهار».
نال شهادة البكالوريوس في الفلسفة العام 1945 من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الاميركية، ليعود منها العام 1947 حاملاً من جامعة هارفارد شهادة الماجستير في العلوم السياسية، وهو الاختصاص الذي مارس التعليم فيه محاضرًا في الجامعة الأميركية، إلى أن انصرف إلى الصحافة.

 

إلى الصحافة...
بدأت مسيرة غسان تويني الصحافية باكرًا، فعقب وفاة والده فجأة في الأرجنتين (حيث كان سفيرًا للبنان) ، أصبح الإبن صاحب «النهار» ورئيس تحريرها. الإرث الصحافي، كان للشاب غسان، خميرة مشروع جديد، وتجربة رائدة في خروجها عن الموروث والمألوف في الصحافة اللبنانية والعربية في خمسينيات القرن العشرين.
منذ توليه مسؤولياته العام 1948 ولغاية العام 1999، كان معلّم أجيال «النهار» المتعاقبة وباني مجدها وصانع الكلمة والفكر فيها.
الى جانب افتتاحياته غير المقيّدة بزمان ومساحة، والتي مزج فيها بين الفكر والتأمل والتداعي الذهني وحوادث الواقع السياسي والثقافي والتأريخ، جعل غسان تويني من صحافة الميدان والريبورتاج الحي، أدبًا خاصًا، مؤثرًا في سياق الأحداث في لبنان والبلدان العربية.
نشاطه السياسي النيابي والحكومي والديبلوماسي، جعل جريدة «النهار» فريدة في كونها مرآة بانورامية لتاريخ لبنان الإستقلالي، وفي مساهمتها البارزة في صناعة أحداثه وصورته، وشاهدة على نجاحاته وعثراته، قبل أن تصير الصوت الصارخ ضد غرقه في الحروب القاتلة والمدمّرة. «حروب الآخرين» فيه وعليه وبأهله، أي «استحرابهم» كما كان غسان تويني يقول، قبل أن يصرخ في الأمم المتحدة «دعوا شعبي يعيش»، و«شعبي ليس للإيجار أو للبيع».

 

رجل الأدوار الكثيرة والكبيرة
انتخب العام 1951 نائبًا عن محافظة جبل لبنان، وعن بيروت العام 1953، ومن ثم انتخب نائبًا لرئيس مجلس النواب.
واستمر في هذا المنصب إلى حين تعيينه سفيرًا للبنان لدى الولايات المتحدة العام 1957.
بعد النيابة جاء دور الوزارة، عين تويني العام 1970 نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للأنباء ووزيرًا للتربية الوطنية والفنون الجميلة، في حكومة الرئيس صائب سلام.
العام 1975 عين وزيرًا للسياحة ووزيرًا للصناعة والنفط ووزيرًا للعمل والشؤون الاجتماعية، (حكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة)، ومن ثم وزيرًا للإعلام في 15 أيلول 1976.
والعام 1977 عيّن سفيرًا للبنان لدى الأمم المتحدة، وظلّ في هذا المنصب حتى العام 1982، الذي شهد الإجتياح الإسرائيلي لبنان. يومها نجح تويني في استصدار القرار الشهير الرقم 425 الذي فصل بين قضية لبنان وأزمة الشرق الأوسط، وطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من لبنان. وفي الفترة الممتدة ما بين العامين 1990 و1993، ترأس جامعة البلمند في لبنان. ومن العام 1998 ولغاية 2002 شغل منصب عضو في مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت، إضافة إلى ترأسه لجنة متحف سرسق منذ العام 1998 لحين وفاته.
والعام 2006 زكّي نائبًا بالبرلمان اللبناني عن بيروت، وذلك لمقعد الروم الأرثوذكس خلفًا لابنه جبران الذي اغتيل نهاية العام 2005.

 

أسطورة الإيمان
تميّز غسان تويني بين أبناء جيله بالفكر والحنكة والشخصية الفذّة، كما تميّز أيضًا بالصبر والحكمة في الشدائد، فالرجل ظلّ جبلاً لا يتزحزح أمام المصائب والمآسي التي ألمّت به طوال حياته.
تزوّج من الشاعرة ناديا حمادة، (شقيقة الوزير والنائب مروان حمادة)، جمعهما حب كبير، ورزقا ثلاثة أولاد: جبران، نايلة ومكرم، غير أن القدر لم يترك للعائلة مجال العيش بسلام.
التجربة امتحنت أولاً صبر تويني الأب، الذي وقف كالصخرة في مواجهة العواصف العاتية. من موت طفلته نايلة الى مرض زوجته ناديا وموتها العام 1996 من جراء مرض عضال ألمّ بها (تزوج لاحقًا من شادية الخازن)، الى مقتل ابنه الثاني مكرم في حادث سير مفجع في فرنسا، الى ذروة الذروة في استشهاد ابنه البكر جبران في اغتيال وحشي في 12 كانون الأول 2005 بسيارة مفخخة في منطقة المكلس.
كل المآسي لم تهزم الرجل الذي واجه إلى آخر المطاف برجاء وثبات وإيمان وحكمة...

 

المتعب الشجاع
صباح يوم الجمعة في 8-6-2012 رحل الصحافي والنائب والوزير والسفير والديبلوماسي وصانع السياسات في زمن مجد لبنان، كما في زمن الأحداث الكبيرة.
رحل غسان تويني عن عمر يناهز 86 عامًا، بعد اشتداد المرض الذي أقعده حتى عن قلمه الساحر وافتتاحيات صباحات الاثنين.
هذا المؤمن لم تفارقه شجاعة مذهلة حتى مع انقضاض القدر على جسده المتعب، سارقًا منه القدرة على النطق والكتابة في سنواته الثلاث الأخيرة، وهو المالىء لبنان ودنيا العرب بموسوعيته المعرفية والصحافية في «النهار» والدراسات والمؤلفات والكتب.
كان أحد آخر الكبار والعمالقة في زمن التصق باسمه وطبعه بتوقيعه في الصحافة والفكر والديبلوماسية والسياسة ذات المعايير الاستثنائية، والمقترنة بتجربة انسانية وشخصية لا يقـوى على مواجهتهـا إلا غسان تويني وحده.
قلّده رئيس الجمهورية وسام الأرز من رتبة الوشاح الأكبر في التكريم الرسمي الذي جرى خلال مراسم الدفن في كاتدرائية مار جرجس للروم الأرثوذوكس في وسط العاصمة.
كما أعلن ملتقى الإعلاميين الشباب العرب في الأردن، عن إطلاق جائزة غسان تويني للقلم الحر تخليدًا لذكراه.

 

قالوا في غسان تويني...
لم يكن غسان تويني طوال حياته شخصًا واحدًا يمكن حصر أدواره. إنه شخص الأدوار الكثيرة الصعبة على الحصر والاحصاء. فهو ابتكر تقليدًا لـ«تنوّع المواقف والآراء والأساليب الكتابية في الجريدة الواحدة»، ولم يتوقف عن «الإحتفاء بوجهات النظر المتباينة» (باتريك سيل).
نادرًا ما أحب عبارة «الحرية المسؤولة»، فقد فضّل عليها كلمة «الحرية» من دون إضافة، وبقي «خصمًا عنيدًا للاستبداد»، الاستبداد الذي مرض به معظم البلدان العربية طوال عهده في «النهار»، فدفعت ثمن حريتها دمًا (علي أومليل).
في أحلك الظروف والأوقات ظلّ «المايسترو الأبرع في قيادة فريق صحافي من مواهب ونزاعات وافكار مختلفة» (رياض نجيب الريس). فـ«المتوتر الخلاق والمقبل الدائم على كل مغاير» (غسان سلامة) ظلّ على عكس النخبة المذعورة من أي تحوّل، سالكاً دروب المغامرة من دون ان يكفّ عن «رصد الواقع بغضب رعد، وطمأنينة وردة» (أدونيس).
وجوهه، خبراته، ادواره وتجاربه، جعلته «مزيجًا رائعًا من المكوّنات المحلية والعربية والتطلعات الكونية. «أصعب الجراح الشخصية والوطنية»، ضاعفت تعاليه على الجراح ومبادراته بحثًا عن «حلول للأزمات والمآزق» (عمرو موسى). أمّا حين «يتسنى وضع تاريخ (حقيقي) حديث للبنان»، فسيكون «بين قليلين» يمكن القول إنهم «صنعوا بلدًا» (عباس بيضون).
 في سنواته الأخيرة صار «حكيم لبنان الأخير في مواجهة العواصف» (الياس خوري). ومن اجتمعت في شخصيته «كل ما نريده للبطل من مزايا، يصرُّ على خلق البطل في سواه. بمثله يطلع النهار ويبقى» (سعاد الصباح).
قال عنه المطران جورج خضر إنه «بيزنطي – سوري ذو إرث عربي وولاء لبناني»، ورأى فيه طارق متري «رجل الهويات المتصالحة في زمن يتهدده اختزال الناس في هوية واحدة». وها هو أمين معلوف، صاحب «الهويات القاتلة» يبصر «هموم لبنان» ومآسيه، مصبّرة على كتفي غسان تويني الذي «كتب من جرح، ولو أنه كثيرًا ما أخفى جراحه ليكتب الأمل والرجاء ضد اليأس والخواء.

 

المصادر: - صحيفتا «النهار» و«الحياة». - موقع ويكيبيديا الإلكتروني.

في وداع جبران
غالباً ما صار يقال لي إنّ الصورة التي حفظها اللبنانيّون عنّي هي صورة الرجل الذي وقف متكلّمًا، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أمام جثمان ابنه الذي سقط اغتيالاً، ودعا إلى الصفح. أودّ أن أعلّق على هذه الصورة التي تلاحقني أو التي ألاحقها. فعندما دخل النواب رافعين النعش على سواعدهم سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى يوم حُمِل جثمان والدي إلى هذه الكاتدرائيّة نفسها قبل عشرات السنوات، وقد مات للقضايا ذاتها إنما ليس اغتيالاً...
ووجدتني الآن، في ذاك اليوم الواقع فيه 14 كانون الأوّل من العام 2005، واقفًا أمام جثمان ولدي الحامل اسم جدّه، وتنبّهت فجأة، أمام هذا الجمع الغفير المضخّم بعمليات النقل التلفزيوني، أنّه عليّ أن أقول شيئًا ما. فقد أنهى المطران جورج خضر كلمة التأبين وأشار إليّ بأن ألقي كلمة... حمل النواب النعش على مناكبهم إلى الكاتدرائيّة، ولدى مرورهم رفع الحشد، هادراً مهدّدًا، صور ولدي وصور سائر شهداء هذا البلد الذي سقط في سبيله الكثير منهم. ثمّ دخل الجثمان بيت الله وأنا أتساءل عمّا يمكن أن أفوه به في مثل هذه الظروف، وإلى مَنْ أتوجّه بالكلام؟ أإلى ابني الشهيد المسجّى على بعد أمتار مني؟ أم إلى رجال الدين؟ أم إلى الحضور المؤلّف من شخصيات الصفّ الأول في الحياة اللبنانية ومن أقرباء ومجهولين ومن مسحوقين مثلي؟ أم إلى الحشد الضخم في الخارج الذي تنقل إليه مكبّرات الصوت ما يجري في الداخل؟ أم إلى لبنان بأجمعه الذي يتابع الجنازة بواسطة النقل التلفزيوني؟ نظرت إلى ابنتَيْ جبران الصُغرَيَيْن، وهما توأمان ولدتا له من زواجه الثاني وليس لهما من العمر سوى أربعة أشهر. كنت في حالة غير طبيعية لا تسمح لي بمواصلة تساؤلاتي الصامتة، ومن دون أن أفكّر استندت على يد المطران وارتقيت درجات المذبح متوجّهًا إلى باب الهيكل. ومن الأعراف السائدة أن يصار قبل دفن الفقيد إلى فتح النعش مرّة أخيرة وأن يرشّ أقرب أقربائه حفنة من تراب على وجهه. لكن نظرًا إلى الطريقة التي اعتمدها مدبّرو عمليّة الاغتيال، لم يعد هناك، بالمعنى الصحيح للكلمة، لا جثة ولا وجه، وفي النتيجة لم يعد من مسوّغ لفتح النعش. بدا كلّ هذا عملاً لا مثيل لوحشيته. مع ذلك، وفي لحظة توجّهي صوب النعش أوقفتني يد أحدهم. لبثت واقفًا هناك هنيهة، حائرًا، عاجزًا وقد أُسقط في يدي. ثمّ عدت لألقي كلمة، بل لأطلق الكلام إذ لم أكن أعرف بعدُ بِما سأتفوّه، وقلت بصوت منخفض جدّاً، وبعكس كلّ التوقّعات، إنّني لا أدعو إلى الثأر، وهو ثأر لا قدرة لي عليه أساسًا، كما أنني لا أؤمن به. وبطبيعة الحال طالبت بالعدالة كما أوصيت بالصفح: «فلندفن الحقد والثأر». وأضفت أنني آمل أن تكون عملية الاغتيال هذه هي خاتمة سلسلة الاغتيالات وأن يجد لبنان سبيله إلى السلام. وددْت أن أصرخ: «كفانا دمًا!»، لكن لا أظنّ أنني قلتها، أما الجمهور في الخارج فإنه، من جهته، تبلّغها بشكلٍ جليّ...
في تلك اللحظة سادت في الكاتدرائية حركة ذهول وعدم تفهّم ربما لما حصل. فلا أحد، أو تقريباً لا أحد، كان يتوقّع، في ظلّ هذه الظروف الفظيعة، أن أمنح عفوي... فما من شيءٍ في الجرائم التي ارتكبت في الأشهر الأخيرة ضدّ العديد من شخصيات الصفّ الأوّل يمكن أن يبرّر أيّ حِلْم. لكن أنا نفسي فوجئت بهذا الكلام يصدر عنّي، وللتخفيف من وقعه رأيت من المناسب أن أضيف أنني آمل من كلّ قلبي أن تتحقّق العدالة. أحسست هنيهة بالحقد، وكانت تلك مناسبة لكي ألقي كلمة تأبينيّة في ذكرى ولدي القتيل، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. فكيف دهمتني فكرة الصفح الطارئة هذه في لحظة أتأمل فيها، وأنا مديرٌ ظهري للجمهور، النعش الذي ترقد فيه جثّة ولدي الشهيد؟

من كتاب غسان تويني
«فلندفن الحقد والثأر» - دار النهار

 


أبرز مؤلفاته
للراحل عدة مؤلفات ومنها:
- اتركوا شعبي يعيش! (1984).
- نزهة العقل (1984).
- سر المهنة... وأصولها (1990).
- الثقافة العربيّة والقرار السياسي (1991).
- قراءة ثانية في القومية العربية (1991).
- قبل أن يدهمنا اليأس (1992).
- رسائل إلى الرئيس إلياس سركيس (1978-1982) (1995).
- محاضرات في السياسة والمعرفة (1997).
- القرار 425 المقدمات، الخلفيات، الوقائع والأبعاد (1997).
- لبنان والأمم المتحدة وقضية السلام: القرار 425 مأزق أم حل (1998).
- من محفوظات غسان تويني المراسلات الدبلوماسية : (1982 عام الاجتياح) لبنان والقدس والجولان في مجلس الامن القرار 508 و520 (1998).
- مسارات السلام ودبلوماسية الـ 425 (1999).
- البرج، ساحة الحرية وبوابة المشرق (2000).
- كتاب الاستقلال بالصور والوثائق (2002).
- سر المهنة.. وأسرار أخرى (2002).
- حوار مع الاستبداد (2003).
- الإرهاب والعراق قبل الحرب وبعدها (2003).
 - الجمهورية في إجازة - مقالات مختارة 1983 - 1992 (2003).