احتجاجات ومطالب

غليان في لبنان وأكثر من مكان...

يبدو العالم وكأنّه قدر كبيرة تغلي، فأصداء الاحتجاجات والتظاهرات تتردد في الكثير من البلدان، في مشهد يذكّر بالغضب الذي اجتاح ساحات العالم خلال ستينيات القرن الماضي.


حركة «السترات الصفر» في فرنسا التي بدأت منذ أكثر من عام لم تتوقف. المتظاهرون احتفلوا في ١٧ تشرين الثاني المنصرم بمرور سنة على حركتهم مؤكدين قدرتهم على مواصلة حشد الجماهير. الاحتجاجات التي اندلعت في هونغ كونغ منذ آذار الماضي لم تخمد بعد. كذلك الأمر في العراق حيث تعيش بغداد ومناطق واسعة في محافظات الجنوب منذ أكثر من شهرين على وقع احتجاجات شعبية هي الأضخم في التاريخ الحديث للبلاد.
في إيران أيضًا اندلعت موجة احتجاجات منتصف تشرين الثاني المنصرم، لكنّ السلطات ما لبثت أن أعلنت السيطرة عليها بعد أيام.
الشوارع والساحات في روسيا والهند وتشيلي وإسبانيا والسودان عرفت صخب التظاهرات والتحركات الشعبية في الأشهر الأخيرة الماضية، فما الذي يجري في العالم؟
يرى عدد من الخبراء الاقتصاديين أنّ انهيار النمو الاقتصادي يعزز المخاوف خصوصًا عند الطبقة الوسطى الغاضبة من غياب المساواة والفساد، ما يؤجج الحركات الاحتجاجية. يضطلع الشباب بدور أساسي في هذه التحركات، وهؤلاء يشكلون حاليًا نسبة ٤١٪ من السكان في العالم، وهي نسبة لم يسبق أن بلغتها هذه الشريحة من السكان سابقًا.
اضطلاع عنصر الشباب بقيادة الاحتجاجات كان من أسباب ما يرافقها من إقفال للطرقات وإشعال الإطارات ومهاجمة قوى الأمن وأعمال التكسير والشغب. هذه الأعمال لم تكن بالنسبة ذاتها في مختلف البلدان، وكذلك الأمر في ما يتعلق بطريقة تعامل القوى المولجة حفظ الأمن مع المتظاهرين والتي اتصفت بالعنف في عدة بلدان. نظرة سريعة إلى ما حصل ويحصل من حولنا...

 

العراق
من بين الاحتجاجات الناشطة حاليًا، تُعتبر تلك التي تجري في العراق الأكثر عنفًا ودموية. فمع مرور شهرين على اندلاعها، أدت هذه الاحتجاجات، وفق مصادر مختلفة، إلى سقوط أكثر من ٤٠٠ قتيل و١٠ آلاف جريح فضلًا عن آلاف المعتقلين وعشرات المخطوفين. وقد واجهت القوى الأمنية المتظاهرين بعنفٍ واستخدمت الرصاص الحي، بالإضافة إلى الرصاص المطاطي وقنابل الغاز والقنابل المسيلة للدموع.
أعربت عدة دول عن قلقها حيال الأوضاع في العراق وندّد البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي بالاستخدام المفرط للعنف في قمع المتظاهرين، فيما أدانت منظمة العفو الدولية القوة المميتة وغير المشروعة لتفريق الحشود.
تعود أسباب الاحتجاجات في العراق إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية وتفشّي الفساد والبطالة. وقد طالب المحتجون باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة.
بعد مرور شهرين على بدء الاحتجاجات، استقالت حكومة عادل المهدي وصدر حكم بإعدام ضابط في الشرطة شنقًا إثر إدانته بقتل متظاهرين، بينما صدر حكم بسجن ضابط آخر ٧ سنوات على الخلفية نفسها.

 

فرنسا
بسبب ارتفاع أسعار الوقود والاعتراض على سياسة الرئيس مانويل ماكرون التي اعتبر المحتجون أنّها تزيد الأغنياء غنًى والفقراء فقرًا، اندلعت في فرنسا في ١٧ تشرين الثاني ٢٠١٨ حركة احتجاجية ارتدى المشاركون فيهـا السترات الصفر لذلك عُرِفَت الحركة باسم «السترات الصفر».
تخلّل الاحتجاجات التي كانت تحصل في نهاية كل أسبوع أعمال شغب وتخريب وحرق سيارات واعتداء على محال، وإغلاق محطات المترو والعديد من الطرق في باريس وأنحاءَ مختلفة في فرنسا.
بعد أسبوعين من الاحتجاجات، تراجعت الحكومة الفرنسية وعلّقت الزيادة على ضرائب الوقود لمدة ٦ أشهر، غير أنّ الاحتجاجات تواصلت. وفي نيسان ٢٠١٩ قدّم ماكرون ملخصًا لسياسة جديدة لإرضاء المتظاهرين الذين واصلوا احتجاجاتهم ورفعوا المزيد من المطالب وصولًا إلى المطالبة باستقالته.
خلال الأيام الأولى للاحتجاجات، سقط قتيل و٥٩٥ جريحًا من المحتجين بالإضافة إلى ١١٥ من الشرطة. وفي أواخر تشرين الأول ٢٠١٩ كان عدد القتلى قد وصل إلى ١١ والجرحى إلى ٤٢٤٥ بينهم ١٧٩٧ من الشرطة، وذلك نقلًا عن وسائل إعلام فرنسية.

 

هونغ كونغ
بدأت حركة احتجاجات واسعة في البلاد في ١٥ آذار ٢٠١٩ على خلفية مشروع قانون اقترحته الحكومة يسمح بتبادل المطلوبين مع الصين. اعتبر المحتجون أنّ القانون يؤدي إلى تدخّل الصين في النظام القانوني لهونغ كونغ التي تتمتع بحكم ذاتي جزئي، وأعربوا عن خشيتهم من أنّ مفاعليه لن تقتصر على تسليم المسؤولين الصينيين الفاسدين المختبئين في هونغ كونغ وإنما ستشمل الناشطين الذين يعارضون سياسة بكين.
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات في حزيران واضطرت الحكومة بسببها إلى تأجيل «القراءة الثانية» للقانون.
عمد المحتجون إلى تنظيم تظاهرات واعتصامات وأعلنوا العصيان المدني واشتبكوا مع الشرطة، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى فضلًا عن آلاف الجرحى ومئات المعتقلين.
تواصلت الاحتجاجات بعد سحب مشروع القانون ورُفِعَت مطالب أخرى أبرزها إجراء إصلاحات ديموقراطية واسعة وتحقيق مستقل حول ممارسة الشرطة العنف المفرط ضد المحتجين. في أواخر تشرين الثاني الماضي، استدعت وزارة الخارجية الصينية دبلوماسيًا أميركيًا رفيع المستوى وهددت بإجراءات انتقامية ضد واشنطن بعد تبنّي مجلس الشيوخ الأميركي قانونًا يدعم المتظاهرين وينص على فرض عقوبات ضد المسؤولين عن انتهاك حقوق الإنسان في هونغ كونغ، ووقف بيعها الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وسوى ذلك من المعدات المستخدمة لقمع الاحتجاجات.

 

إيران
اندلعت في ١٥ تشرين الثاني الماضي حركة احتجاجات عنيفة اجتاحت عشرات المدن في البلاد. الشرارة التي فجّرت الاحتجاجات كانت زيادة أسعار البنزين، علمًا أنّ الرئيس حسن روحاني أعلن أنّ الأموال التي ستُجبى من هذه الزيادة سوف توزّع على المواطنين الأكثر حاجة في البلاد. واستخدمت السلطات القوة في مواجهة المتظاهرين الذين أحرقوا ٧٣١ مصرفًا و١٤٠ مقرًا حكوميًا وفق وزارة الداخلية.
استمرت الاحتجاجات بضعة أيام أعلن بعدها مرشد الثورة الإيرانية أنّه تم دحر العدو معتبرًا ما حدث ممارسات أمنية وليست تحركات شعبية.
بلغ عدد القتلى ١١ شخصًا بينهم ٥ من الحرس الثوري والشرطة حسب ما أعلنت السلطات الرسمية، أما منظمة العفـو الدوليـة فقالـت إنّ عـدد القتلى تخطـى المئتين.

 

لبنان
لحظة كتابة هذه السطور كان قد مضى ٥٦ يومًا على بدء الاحتجاجات في لبنان، وتحت عناوين لا تختلف عن تلك التي اتخذتها تظاهرات العراق.
لكن بين ما جرى هناك ويجري هنا فرق جوهري. وهذا الفرق يعود بشكل أساسي إلى أداء الجيش اللبناني، ما يستوجب رفع القبعة مجددًا لجيشنا الذي ينتشر في الشوارع والساحات بأقصى درجات الجهوزية والمناقبية. جنود يقفون درعًا واقيًا بين الغضب والخطر. درع يقي غضب الشوارع من الانزلاق إلى الفوضى العارمة والفتنة، ويقي المؤسسات الدستورية خطر الانهيار، ويحافظ في الوقت عينه على الحقوق والممتلكات.
«التاريخ سيشهد أنّ الجيش اللبناني أنقذ لبنان» وفق ما قاله قائد الجيش العماد جوزاف عون في جولة شملت عدة وحدات تنفّذ مهمة حفظ الأمن في هذه الظروف الدقيقة التي يمرّ بها الوطن. والعماد عون الذي أثنى على مناقبية العسكريين، نوّه بجهودهم التي أثبتوا من خلالها أنّ المؤسسة العسكرية هي «مظلة جامعة لكل أبناء الوطن مهما اختلفت توجهاتهم أو وجهات نظرهم» مؤكدًا أنّهم يتحملون مسؤولية أمن المتظاهرين وباقي المواطنين.
أثبت الجيش أنّه يتفهم وجع أهله وأهمية مطالبهم، لكنّه في الوقت نفسه يقف بصلابة في وجه الفتنة ملتزمًا واجبه المقدس. لقد تلقى العسكريون رشقات الحجارة وقنابل المولوتوف ليفتحوا طريقًا أو ليفصلوا بين المتظاهرين ومواطنين آخرين، وظل أداؤهم فـي أعلـى درجـات الانضبـاط والحكمة.
نعم، لقد سالت دماء ما كان يجدر أن تسيل خلال الاحتجاجات، وحصلت تجاوزات بل أعمال شغب وتخريب، لكن ذلك بقي أقل بكثير مما حصل خلال بضعة أيام في أماكن أخرى من العالم، وأقل بكثير مما يمكن أن يحدث لو كان تعاطي الجيش مع هذه الأزمة غير ما هو عليه، ولو لم يكن لعسكريينا هذه القدرة على الصبر والانضباط والحكمة في مواجهة المواقف المتفجرة.
يواجه الجيش هذه المرحلة الحرجة بحزم وإنما من دون الذهاب إلى القمع والمس بالحريات. حتى عمليات التوقيف والاعتقال الضرورية ينفّذها في إطار القانون، فمعظم المعتقلين لم يمضوا أكثر من ساعات في التحقيق، أما من استمر توقيفهم فلأنّ في حقهم بلاغات أو مذكرات توقيف وسوى ذلك من أسباب موجبة.
جيشنا يواجه الإشكالات المتنقّلة بالوعي والحكمة مـن دون تهاون أو تراخٍ. وسيشهـد التاريـخ أنّـه أنقــذ لبنان بوقوفه على مسافة واحدة من الجميع، والإتاحة للمتظاهرين حرية التعبير السلمي عن الرأي، مع إصراره على عدم إقفال الطرقات.

لقطات
- ظهرت حركة السترات الصفر في إيطاليا وبلجيكا وهولندا وصربيا قبل ظهورها في فرنسا.
- قطعت السلطات في العراق وإيران خدمة الإنترنت في البلاد خلال الاحتجاجات، وذلك لدور مواقع التواصل الاجتماعي في حشد المتظاهرين وتنسيق تحركاتهم.
- اعتبـرت مجلـة «ذا أتلانتيك» أنّ عـدم اعتمـاد قيـادة في العديد من الاحتجاجات هـو هـدف بحـد ذاته، فتعيـين قـادة لها يجعل من السهــل اعتقالـهــم وتشويـه سمعتهم...