سياحة في الوطن

فخر الدين بنى فيها قصراً وقلعة وملكة تدمر حفرت في جبلها قنوات لجر المياه
إعداد: باسكال معوض

القاع

السهل المطمئن ما زال يحتضن بيوت الطين الصفراء

بيوت الطين الصفراء يحدل أجدادنا سطوحها لم يتآكلها النسيان بعد...

ذلك السهل المطمئن ومدخل لبنان وحدوده...

تلك البقاع المغمورة بالشوق والتعب والأمل، والمتمسكة بالقيم والعادات والتقاليد... هي الخان والسوق والقلعة والقناطر وقوافل التجار... هي قصر فخر الدين بناه في وسط دولته الشاسعة: إنها القاع البقاعية بلدة المحاصيل والغلال والخير والبركة...

 

تحقيق: باسكال معوض

تقع هذه البلدة في الطرف الشمالي من البقاع، في قضاء بعلبك، على ارتفاع 657 متراً مربعاً، وتبعد عن بيروت نحو 136 كلم فيما تبلغ مساحتها 152 كيلومتراً مربعاً. ويعتبر مناخ القاع شبه صحراوي، فهو حار صيفاً وبارد شتاءً، تهب عليها العواصف المحملة بالغبار في بعض أيام السنة. أما الأمطار فيها فقليلة نسبياً. يحد القاع من الشمال الأراضي السورية ومن الجنوب رأس بعلبك، ومن الشرق الجبل الشرقي، وغرباً بلدة الهرمل. القاع باللغة العربية تعني السهل المطمئن، وفي السريانية الوادي الفسيح أو الأرض المنبسطة انفرجت عنها الآكام. والبلدة كانت قصبة صغيرة في مطلع القرن العشرين (1910)

بحيث لم يكن يتجاوز عدد منازلها العشرة، وقد ازدادت ونمت بسرعة في مطلع الخمسينات. يوجد في شرقي البلدة بعض الخرب التي كانت مزدهرة في ما مضى مثل بعيون، نعمات، الدمينة، النقيب، الحجار... ما يدل على الحياة فيها منذ القدم. وقد عثر على هيكل عظمي متحجر قديم جداً في خربة الدمينة نقله أحد الرحّالة معه الى الخارج في غفلة من الناس والتاريخ.

 

تلك البيوت الصفراء

الناظر الى البقاع من البعيد يراها قرية وادعة تتلاصق بيوتها وتبدو للعيان، في وسط السهل نقطة بيضاء تلفها الخضرة من جهاتها الأربع، ويمر في طرفها الشرقي، الطريق المعبدة الرئيسية من بعلبك الى سوريا، والسكة الحديدية من الجهة نفسها بموازاة الأولى، ويشطرها خط رئيسي معبد في وسطها من الشرق الى الغرب فيصلها بالهرمل.

 في القاع تطالعك البيوت القديمة المبنية من الطين والقش التي كان يعيش فيها اللبناني قديماً، والتي كانت تضطره في كل سنة وعند قدوم فصل الشتاء، أن يقوم بحدل السطح لمنع تسرب مياه الأمطار الى داخل البيت. والبيوت الصفراء هذه تنتشر على تخوم القرية وفي داخلها أيضاً حيث حافظ الأهالي على بعضها وجددوا فيها محافظين على طابعها التراثي، فـ"التنور" و"المصطبة" و"صحن الدار" تشهد على الأمس الوديع.

وفي القاع آثار قديمة لقنوات المياه المحفورة داخل الجبال، والتي يقال أن الست بلقيس جرّت بواسطتها مياه نبع اللبوة من مصدرها عبر بلدة القاع والجبال المحيطة بها وصولاً الى مملكة تدمر التي كانت تحكمها آنذاك. وتبدو آثار هذه القنوات في غير مطرح في محيط البلدة وخراجها. كانت القاع مقراً للأمير فخر الدين المعني الثاني وقد حصّنها وأقام فيها مشروعاً لجرّ المياه وقصراً لسكناه. وحسبما هو معروف فإن دولة الأمير امتدت الى حلب لذلك يصح أن تكون بلدة القاع في وسط دولته. وبحكم موقعها الجغرافي شكلت القاع قديماً مرفقاً اقتصادياً هاماً يدر على البلاد بواسطة ما يسمى الترانزيت والمبادلات التجارية أموالاً طائلة. لذا فقد بنى الأمير فيها خاناً للتجار وسوقاً للمبادلات التجارية. بعد رجوعه من منفاه في إيطاليا عمل فخر الدين على حماية التجار من القراصنة وقطاع الطرق، ومنحهم الرعاية والامتيازات. ولما كانت القاع معبراً للقوافل شيّد الأمير فخر الدين المعني الثاني، فيها قصراً بشكل قلعة، وأنشأ رواقاً أسكن فيه بضع عيال جاء بهم لحماية المكان ولتأمين سلامة التجار. وما تزال أطلال القلعة ظاهرة حتى اليوم. يحق للقاع والحالة هذه أن تعتز بالروابط المعنوية والحضارية التي تربط تاريخها بالرجل الذي كان أول من حقق وحدة الوطن وعمل على تحقيق استقلاله. اشتهر سكان القاع في هاتيك الأيام بتسامحهم وانفتاحهم، وكان ذلك سبباً هاماً لإقامة الأمير في ما بينهم لكن لم يعرف من أين جاءوا الى هذه المنطقة. والمرجح أن بعضهم أتى مع الأمير من جوار دير القمر بدافع حبّهم وإخلاصهم له. ومنذ ذلك التاريخ أخذ الناس يتوافدون الى القاع من مناطق لبنان وسوريا، سعياً الى الرزق الذي وفّرته الحركة التجارية والمواسم الزراعية.

 

 قنصل توسكانا في القاع

 يروي القنصل التوسكاني فراتسانو أنه لما وصل الى صيدا في أوائل العام 1630، جاء الى القاع لمقابلة الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي كان يبني آنذاك خاناً وسوقاً عظيمين لينزل فيهما التجار مع جمالهم وأحمالهم، لأن القوافل الآتية من بلاد فارس والأستانة وحلب ودمشق كانت تلتقي في القاع.

وفي مذكرات القنصل التوسكاني ما يؤكد أن الأمير دعاه ثلاث مرات الى القاع، وهو يشير الى أن الأمير كان، في هذه البلـدة، يخطط مع ممثلي البلاط التوسكاني لتحرير لبـنان من العثمانيين. فيقول: "وبعـدما قابلني الأمير مقابلـة خاصة، قابلنـا علانية على أنـنا تجـار، ولكي تنطلي الحيلة على الحاضرين من الأتراك، أمر بقراءة الفرمان الذي أعطاني إياه السلطان فخفتت الأصوات القائلة بأن مراكب الغراندوق جاءت الى صيدا لأغـراض بعيـدة عن التـجارة".

ونقل عن القنصل أيضاً قوله إثر زيارة قام بها الى القاع بتاريخ 15/12/1631 "هذا المكان، هو آخر مرحلة تحط فيه القوافل الآتية من بلاد العجم ومن القاهرة ودمشق وحلب والأستانة".

 جعـلت الطبيعة القاسية للـبلدة أبنـاء القـاع رجالاً أشداء وأقوياء، تشرّبوا من الطبيعة المحيطة بهم صلابة وعنفواناً اشتهروا به في محيطهم، فكانوا وعلى مرّ السنين يكافحون ويناضلون للمحافظة على كيانهم وعلى بلدتهم بوجه المعتدين. إلا أنهم ورغم قساوتهم، مسالمون ومضيافون يكرمون زوار بلدتـهم عملاً بالتقـاليد البقاعية المشهورة. كما أنهم متواضعون يعيشون بغالبيتهم من الزراعة والوظيـفة وثمة عـدد كبير من أبـنائهم في السـلك العـسكري.

 

 مواسم اليوم                                                                             

 القاع اليوم بلدة مزدهرة زراعياً فإضافة الى الفاكهة الموسمية من مشمش وتفاح، وخضار متنوعة، فإن القمح والشعير ملئ السهول. ومنذ زمن غير بعيد راجت في القاع زراعة البطيخ من النوعية الممتازة، وهو يصدّر الى الخارج، بعدما ذاع صيته في الداخل. وتشتهر القاع بالبصل المميز والباذنجان الذي يستخدم لمونة "المكدوس". وفي الماضي اشتهرت بتينها اللذيذ، والذي كان سلعة للمبادلات التجارية المتداولة آنذاك. وتزخر البلدة بالجمعيات والأندية الناشطة في المجال الثقافي والصحي والخيري والتربوي، ومنها: نادي النهضة، نادي العاصي، فريق القاع الرياضي، جمعية آل مطر الخيرية، جمعية القاع الخيرية، جمعية مار منصور وشبيبة مار الياس ­ القاع. أما المدارس فستة وهي مدرسة القاع الرسمية، ثانوية القاع الرسمية، مدرسة الراهبات الباسيليات الشويريات، المدرسة الأسقفية، مدرسة المقاصد، ومدرسة الدورة. فيما وضع حجر الأساس لإنشاء مدرسة مهنية تستفيد منها البلدة والجوار. في ما يتعلق بالناحية الصحية، ففي القاع مستوصف المطرانية، ومستوصف الإنعاش الاجتماعي، وعيادة طب عام، ومركز الخدمات الإنمائية ­ القاع الذي يضم بدوره مستوصفاً صحياً.                   

 

مراجع

- "القاع في ذكرياتها"، دراسة للدكتور يوسف فرج عاد.

- ­ مفكرو بلدتي د. يوسف فرج عاد.

 

السكان والعائلات

يبلغ عدد سكان القاع نحو 12 ألف نسمة وهم موزعون على العائلات التالية: الأحمر، بشراوي، بشور، بلعيس، البيطار، التوم، توما، جدعون، حدشيتي، الحلال، الخوري، رزق، الزايد، سعد، السكاف، سلوم، شحود، شلهوب، شفيق، ضاهر، عاد، العدره، عوض، غاليه، غطاس، فارس، فاضل، فرحه، فرنسيس، ليّوس، مخلوف، مطر، كوستي، كلاس، النادر، نادر، نسطه، ندور، نصرالله، نعمة، نعوس، نصر، نصور، وهبة، اليبرودي.

 

سهرات الطاحونة

على مجرى مياه النهر الذي قام الأمير فخر الدين بجره الى البلدة تبدو آثار طاحونة قديمة تعمل على الطاقة المائية. وكانت تستخدم في الأيام الخوالي لطحن حبوب القمح والتي تزخر بها سهول القاع، فتتحول هذه الطاحونة ملتقى لأهل القرية، يطحنون قمحهم ويسهرون فيها ليال طوال ويتسلون بتناول المسكرات المصنوعة لديهم وهي من مونتهم الخاصة.

 

  تصوير: المجند حسام صوان