تأملات

فلسفة الحلم
إعداد: حسن جوني
العميد الركن

إحلم... فما أجمل أن تحلم، ومن منا لا يحلم؟

 

الحلم يسكن منطقة افتراضية جميلة نسعى إليها، هو بعدٌ لذيذٌ من أبعاد الحياة، مشهدٌ تتمنى أن تكون فيه كما ترغب، وتتخيله كما تتمناه, مسرحيةٌ تُلعب على مسرح المستقبل تمثل أنت فيها دور البطولة، الدور العظيم الذي ترى نفسك فيه وسط محيط من الاصدقاء والاصحاب، تستعيرهم في حلمك من واقعهم الحالي ليشاركوك مسرحيةً أنت وحدك كاتبُها ومخرجُها وبطلُها.
يشكّل الخيال قدرةً خارقة تتيح لكل منا بناء مملكة له في عالم افتراضي، مملكة لا يحدها إلاّ حدود الخيال نفسه, كل شيءٍ فيها متوافر، كل محرمٍ متاح وكل مستحيلٍ ممكن.
في عالم الخيال يمكنك ركوب مركبة فضائية والهبوط بها على سطح المريخ أو التحليق حول الكرة الارضية! المطلوب منك فقط أن تحلم! في عالم الخيال يمكنك تنصيب نفسك في أي منصب ترغب به، تقرر ما تريد ضمن صلاحيات لا حدود لها، تعيشُ فخامة الزعماء والرؤساء، تمارس جبروت القادة العظام، تتذوق لذة السلطة العليا، كل ذلك ممكن ولو في الخيال فقط. يمكنك أن تمضي ساعةً او ليلةً أو حتى عمرًا كاملًا في جنةً ما على الأرض، تتخيل بنفسك مكوناتها وظروفها ومحتوياتها، وما ترغب أن يتوافر فيها مما قد تشتهيه نفسك وتطلبه رغباتك المتنوعة، الطبيعية منها أو المنحرفة!
المطلوب منك لتحقيق ذلك «الجنون اللذيذ» هو مجرد أن تتقنَ لعبة الحلم وأن تمتلكَ خيالًا واسعًا تطلق له العنان. ثم إياك بعد ذلك أن تستيقظَ من حلمك هذا.
لكنك حتمًا... ستستيقظ! وستعود الى الواقع الذي أنت فيه بعد أن تكون قد ذهبت بعيدًا في عالم آخر.
جميلٌ أن تكون انسانًا واقعيًا، لكنّك لا بد أن تغادر ذلك الواقع في أوقات معينة، روحيًا على الاقل إن لم تتمكن من مغادرته جسديًا، فالواقع ثقيلٌ ومملٌ معظم الاحيان، والحلمُ نزهةٌ روحيةٌ تنفذ من خلالها الى عالم آخر تتنشّق فيه هواء السعادة التي يصعب إدراكها في واقعٍ مليء بتعقيدات الحياة وعُقد المجتمع من سخافات وتفاهات، تناحر وتكالب، جهل فتعصب فإجرام... إلى آخر الوصف، ونختصر حتى لا يتدنس المقال ويتقزز القارئ !!
الحلم نعمةٌ إلهية قد لا تكون من نصيب الجميع، فبعض الناس لا يستطيعون أن يحلموا، لا يتقنون ثقافة الحلم الجميل، خيالهم أعجز من أن يلد لهم حلمًا أو يجسد لهم مشهدًا خياليًا، لأنهم بكل بساطة لا يتمكنون من مغادرة واقعهم الممسك بتلابيب عقولهم إلى حد السيطرة الكلية على وعيهم ولاوعيهم في الوقت عينه، وهذه مأساةٌ حقيقية تصيب البعض منا، فتبقيهم سجناء واقعهم، السجّان هنا هو الحياة، أما الحرية... ففي الأحلام! نعم، إلى هذا الحد أرى الحلم مهمًا في حياتنا، بل ضرورةً لها وتحايلًا على ثقلها وبطئها وصعوباتها. فأن تحلم يعني أن تتحرر من سجن اللحظة التي أنت أسيرها.
لكنّ الحلمَ الجميل هذا يصبحُ نقمةً إذا لم يتمكن الحالم من مغادرة حلمه والعودة إلى واقعه!! لأنه إذ ذاك سيتصرف بغرابةٍ بين الناس، بل بغرابةٍ مع ذاته التي تسكن الواقع، وسيكون ثمة مسافة كبيرة بين فكره التائه في فضاء الاحلام وبين جسده المقيم في واقع الحياة وسيعيش تاليًا خللًا نفسيًا قد يؤدي به إلى الجنون!
ولكن، بين أن نكون عاجزين عن الحلم، وأن نفرط في أحلامنا الخيالية غير الواقعية، ثمة منطقةٌ وسطى يقع فيها «الحلم المتواضع»، الممكن، القابل للتحقيق، وذلك بعد أن تُرسم له خريطة طريق تشمل المحطات الرئيسية والاستحقاقات الهامة والتي تؤدي بنهايتها إلى بلوغ ذلك الحلم وتحقيقه. إنّها الطريق التي تربط الواقع بالحلم، والتي تشتمل على عدة جسور متصلة ببعضها تؤدي إلى عبور المشكلات والعثرات التي تصنعها تعقيدات الواقع.
إنّه الحلم الحقيقي الجميل والمجدي بل الضروري، وكل ما عدا ذلك فهو مجرد تخيلات خرافية تضر ولا تفيد.
كثيرون قادتهم أحلامهم إلى القبور أو السجون أو الإعاقة، وبعضهم قادتهم أحلامهم إلى الجنون! والأمثلة كثيرة وكثيرة جدًا في التاريخ والحاضر وستستمر في المستقبل، والمصيبة هنا هي عندما يتحول حلمُ احدهم غير الواقعي إلى جنون لا يضر بصاحبه فحسب، بل يتعداه إلى المجتمع الذي قد تصيبه كوارثٌ ومآسٍ بمجرد أن شخصًا ما في هذا العصر قد أفرط في حلمه! وراح في سبيل تحقيقه يبيع قضيته ويدوس على الناس ويمتطي ظهورهم بعد أن يتمكن من خداعهم في شعارات رنانة تحاكي اوجاعهم وتحرك غرائزهم فتتخدر يقظتهم على وقع تعصّبهم الاعمى فيتبعونه كالقطيع بأي اتجاه يريد من دون مساءلة أو محاسبة ليصلوا جميعهم وهو أولهم إلى... الهاوية!
البعض الآخر قادتهم أحلامهم إليها، إلى تحقيقها، فأضحت هذه الأحلامُ حقيقةً بعد أن عرفوا كيف يحلمون وعرفوا خريطة الطريق إلى أحلامهم وسلكوها بعزم وتصميم وإرادة.
فإذًا، بعض الأحلام خطيرٌ جدًا أحيانًا بل معظم الأحيان. وبعضها يشكل هدفًا جميلًا، صعبًا ولكنه ممكن، يجب أن نتقن فلسفة الحلم لنعرف كيف نحلم وبماذا نحلم ولماذا نحلم. الحلم ضروري للحياة، والأروع أن يحلم أحدنا حلمًا جميلا راقيًا على مستوى المجتمع، كل المجتمع، ويسعى صادقًا للوصول إليه ومعه كل الحالمين الصادقين ينقلهم من واقع مرير إلى مستقبل زاهر وممتع.
يجب أن نحلم، خصوصًا أننا نعيشُ واقعًا سيئًا، تعالوا نحلم جميعًا... نحلم بوطنٍ جميل! وطن يحتضننا جميعًا، يمنحنا فرصًا متكافئة، يحكمنا فيه قانون يُحترم إلى درجة القداسة، يتساوى فيه الناس كل الناس، يحاسب المرتكب مهما علا شأنه، ولا يتسيَّد فيه سوى أصحاب الكفاءة المستحقين لا الوصوليون! عذرًا، فإننا نحلم، ألا يحق لنا أن نحلم؟!
فيلسوفٌ قال ذات يوم: «أنا أفكر إذًا أنا موجود». أقول اليوم: «أنا أحلم إذًا أنا موجود!».