تأملات

فلسفة الروح والأمل
إعداد: حسن جوني
عقيد ركن

تبقى الحياة جميلة على الرغم من كل ما تحمله من مآسٍ وآلام، فهي رحلة طويلة يتخللها الكثير من المتعة والملذات والفرح والتي تمر بسرعةٍ نسبةً الى الأحزان.


ســــاعــــاتُ الــــفرحِ تــــمــــر كالثوان

وتــــدورُ ببـــــطءٍ عــــقـــــارب الأحـزانِ
تــــلك هــــي الحـيــــاةُ بــــمــنطقيهــــا

يصيبنا الاول كما يصيبنـــا الثــــاني        

 

قد لا يكون هناك الكثير من محطات الفرح في الحياة، إنما مجرد التأمل بها قد يُشعر المرء بشيء من السعادة، فالأمل هو ذلك الفرح البعيد الذي تَعِدُ النفسُ ذاتَها بإدراكه ولو بعد حين، وهو ما يشكل حافزًا للتقدم والاستمرار في هذه الرحلة العمرية للإنسان.
ولكن...
هذه الرحلة لا بدّ لها أن تدرك النهاية..! وفي ذلك حقٌّ وحقيقة لا شك فيهما، من هذه الحقيقة تحديدًا تولد تلك الغصَّة التي ترافق كل فرح ولذّة في الحياة، فلكل بداية نهاية ولكل رحلة خاتمة وهذا قدرٌ محتوم.
إزاء تلك الحقيقة المقلقة، لا بد لنا أن نعترف بأعمارنا، التي تقاس نتيجة تقاطع قطار الحياة مع خط الزمن، بحيث يتم استيعاب هذه الحقيقة بعد إقناع الذات بأن هذا القطار يسير بقوة اللـه عابرًا خط الزمن من دون توقّف ولو لحظة واحدة.
الموقف مهيب، والرؤية البعيدة ليست جلية أنَّى كان المعتقد! قطارٌ وكأني به ينتهي الى نفقٍ لا أقول إنه مظلم لأننا لا نفهمه ولا نعرفه، ولكنه يبقى غامضًا مقلقًا اذ لم يسبق أن عاد منه أحدٌ وشرح تجربته...! علمًا أن الايمان شيء واليقينَ شيء آخر.
منذ البدء سعى الإنسان إلى فهم هذا النفق وتصوّر ما يدور فيه والى أين يؤدي، ثم جاءت الأديان على اختلافها وألقت إشارات وإيحاءات حول تلك الجدلية الكبرى في رحلة الإنسان، وكان ذلك من خلال الأنبياء والرسل أحيانًا، وأحيانًا أخرى من استلهام ووحي واستنباط وربما تنظير، فبنى كلٌ منها تصورًا للعالم الآخر في عقول العباد وكان تصورًا مختلفًا في الشكل ولكنه غالبًا ما كان متشابهًا في المضمون المتصل بارتفاع الروح الى خالقها حيث تُسأَل فتُحاسب وتبقى في جوار ربها الى الأبد.. تلك الروح المحيِّرة هي سبب الحياة وعنوانها، فقد أسكنها اللـه جسدًا منمقًا وألقاها في حيزٍ مكاني فسيح ومنحها وقتًا غير قليل.
وفق هذه الأقانيم الثلاثة تكوّنت معادلة الحياة. هذه الروح، الموجودة فينا والتي لا نفهمها ولكننا نحياها، هي نحن بالأصل وهي العنصر الإلهي أو الأقنوم الإلهي في الإنسان، أما باقي الأقانيم فهي مجرد جماد مكاني أو زماني. هذا العنصر الإلهي هو صلة الوصل بين الإنسان الذي يتحرك على وجه الأرض وبين الـله الذي لا مكان محددًا له ولا زمان. وهي تشكل هوية الانسان، فكل منا هو روحه فحسب.
إذا انطلقنا من وجود هذا العنصر الالهي في معادلة الحياة، فلنا أن نستنتج أن لحياة كلٍ منا مرحلة أخرى تلي المرحلة التي نعيشها. وبالتالي فإن هذه الحياة قد تتعدل أو تتبدل أو تتحول ولكنها في مطلق الأحوال لن تنتهي، لماذا؟
لأنه في حين أن أقنومَي المكان والزمان قد يزولان من الروح، فإن الأقنوم الإلهي باقٍ حتمًا بقاء الإله نفسه أي الأزل. وما دامت هذه الروح باقية فالحياة باقية ولو بوجه آخر أو شكل آخر، بما لا تستطيع قدراتنا العقلية فهمه أو تصوره.
وما دامت هذه الحياة باقية أزلية انطلاقًا من هذا التحليل، فلماذا الخوف من انتهاء العمر الآني الحالي الذي هو مجرد مجال زمني لأحد أشكال الحياة وليس للحياة كلها!
على كل حال، ما دامت هذه الروح باقية فلا خوف من نفاذ العمر، لأن هذه الروح الباقية لا بدّ لها من مدارٍ تتحرك فيه ومسارٍ تسير إليه وهذا أمرٌ يقدِّره اللـه بإرادته، ولا يمكن للإنسان هنا أن يفهم شيئًا أو يعرف شيئًا أو يتنبأ بشيء، ولكنه حتمًا لن يصبح لا شيء...!
لذلك، ولكي يتفهَّم كل منا ظروف ادراكه تلك النهاية الغامضة (نسبيًا) لتلك الرحلة، وللتمكن من إعداد النفس لها، لا بدَّ من أمرين: اولًا التصالح معها، لأن الحل الوحيد لمواجهة الموت هو التصالح معه! كيف يتم ذلك؟ باعتباره محطةً وليس نهاية، حقًا وليس قرارًا، خلاصًا وليس قصاصًا، عودةً الى الأساس وليس انفصالًا عنه، وربما نهاية امتحان طويلٍ وشاق فاستراحة أبدية، هكذا نتصالح معه ونستعد لنلقاه بجاهزية العائد إلى ربه بفرح!
الأمر الثاني هو التسلّح بالأمل... فالأمل يكبر وتتعاظم الحاجة إليه أكثر كلما كان المشهد غامضًا يوحي بالقلق والضياع، وإلا فبماذا يتأمل المرء إذا كان مشهد الحياة مكتملًا وواضحًا أمامه وكان قدره مقروءًا بوضوح؟ فالمُشاهد يأمل بنهايةٍ للمسرحية تحاكي تخيّلاته ورغباته، ولكنه لن يأمل بشيء إذا كانت المسرحية معروفة النهاية مسبقًا.
هذا الأمل هو رسمٌ لخيوط المستقبل في اذهاننا بما يناسب طموحاتنا ويحقق أحلامنا، فإذًا، الأمل هو تجسيد للرغبة في مشهد الغد!
بناء ًعليه أخلص إلى القول أن ليس لنا، لمواجهة تلك النهاية الحتمية والمقلقة لتلك الرحلة، سوى التمسك بالأمل الذي يتجاوز حدود المنطق والممكن والمعقول لأنه يتعدى مساحات العقل البشري المحدود، ولكنه منبعثٌ من الإيمان ومنبثقٌ من الروح ومبنيٌ على قاعدة أن من أركبنا هذا القطار وأراد لنا تلك الرحلة هو من يقدِّر لنا نهايتها، وربما بداية أخرى لرحلة أخرى من نوعٍ آخر وزمنٍ آخر وأبعادٍ أخرى.
أما كيف سيحدث ذلك الانتقال المهيب... فلنترك للأمل استشرافه ولو بالتخيّلات في الأذهان.... وإلى اللقاء في حياة آخرى... أو مقال آخر!

 

أحــبُّ اللــــيـلَ والنـهارُ جمــيــــلُ
ســــــأحيا دومًا فـمـوتي مســتحيلُ
روحي ستبقى وإن فنى جسدي
تــــحـلّقُ فـــي أفـقٍ لا يـزولُ