- En
- Fr
- عربي
غناء
عادة يطاوعني القلم أكثر بكثير من الكلام. هي حالة كثيرين. ربما يعود السبب إلى الصفاء الذي تتيحه فسحة الصمت عندما نكتب. فعندما نتكلم ننخرط في الضوضاء، في الفعل وردود الفعل.
اليوم وكما في كل مرة أحاول فيها الكتابة عن فيروز، يعذبني القلم، تضطهدني الورقة ويحرقني كل حرف.
أحسد الذين يصمدون في الحالات الإستثنائية، يعيشون السحر ويخرجون منه، ويكونون قادرين على النظر إليه من بعيد.
أمام حضور فيروز أشعر بالعجز عن الخروج من بؤرة السحر. بين حضور حفل لها والكتابة عن الحفل ينبغي أن تكون المسافة كافية للإنفصال عما حدث. عما فعله السحر. لكن الحقيقة أن هذه المسافة غير قابلة للوجود. فما العمل؟ فيروز أكبر بكثير من مطربة، ما هي إذاً؟ ظاهرة نادرة كما يقول البعض؟ بالتأكيد هي كذلك، لكنها أيضًا، وبالتأكيد إياه، ظاهرة تعاش، غير أن إدراكها صعب، فكيف تقال أو تكتب؟
في حفلاتها الخمس في مسرح بلاتيا - ساحل علما الشهر الماضي فاضت فيروز سحرًا، وكما في كل مرة تطل على الجمهور، صنعت المهرجان، واقتطعت من الزمن مدى خاصًا بها، مدى أسواره صوتها، وأسرار حضورها في الوجدان بهذا الإشراق العصي على كل تحليل وإدراك.
بدأ المهرجان من لحظة الإعلان عن الحفلات (9، 10، 16، 17 وحفلة إضافية في 23 كانون الأول) عبر موقعها على الفايسبوك. بداية كانت المفاجأة: فيروز ستغنّي. أي حفل لها يشكل حدثًا. المفاجأة الثانية كانت المسرح الذي لم يسمع به أحد من قبل، وهي اعتادت أن تغني في أرقى المسارح العالمية وأعرقها. مرّت عدة ايام قبل أن يتبين أن الصالة الحديثة الإنشاء والتي دشنتها فيروز، تضاهي أرقى صالات المسارح العالمية هندسة وتصميمًا وتجهيزًا. لكن وقبل أن يعلم الكثيرون أين هي ساحل علما، كانت البطاقات قد نفذت. المحظوظون استطاعوا الحصول على بطاقاتهم بعد وقوف ساعات أمام شباك التذاكر، لكن الكثيرين لم يتيسّر لهم ذلك، وبعضهم حمّل أثير الإذاعات شكواه...
أمام المسرح يترسّخ الإحساس بأننا بالفعل في مهرجان. الآلاف أتوا يحتفلون بفيروز. من كل مكان، من كل الأعمار، ومن كل الطبقات والإنتماءات. إجتياز مسافة قدرها بضع مئات من الأمتار تطلب ساعة من الوقت قبل الوصول إلى الـ«الباركينغ»، لكن حالة التذمر التي تسود في زحمة السير اليومية لم تكن قائمة تقريبًا. الطقس ماطر، المحتشدون أمام أبواب الصالة نالوا نصيبهم من البلل، وأيضًا من دون تذمر. ممنوع إدخال الهواتف والكاميرات وآلات التسجيل إلى الصالة، أيضًا لا تذمر...
إنها فيروز أمام باب اللقاء بها تساوى الجميع شوقًا وانتظارًا وانضباطًا. بالأبيض أطلّت وسبقها صوتها في «مسيتكن بالخير...» فاشتعلت الصالة وظل الإشتعال على مدى الأمسية. أغنية بعد أغنية أخذت فيروز جمهورها إلى حيث تريد، فتحت خزانة الذكريات، أيقظت الحنين، بسطت غلالة الحلم الجميل، رشرشت الفرح والمرجان.
سألت «لوين رايحين... هالأرض لمين منتركها؟»، حاورت الموسيقى والشعر. حاورت الجمهور ووضعته على خط التواصل مع الزمن الجميل، مع أحلام يجب ألا تنكسر، وأصرت على أن الأمل يبقى موجودًا. بدت رقيقة شفافة كحلم حينًا وكحد السيف أحيانًا أخرى. كنوز مخزونها الفني كانت ألقاً مسكوبًا بالصوت المكتمل النقاء، المختمر بنضجه، المشبع بجمالات أبعد من أن يحاط بها.
أغانيها القديمة كانت المادة الأساسية في البرنامج ومن أعمالها الرائعة مع زياد الرحباني غنّت ثلاث أغنيات، بينما أدى الكورال عدة أغان أخرى.
لم يخفت تفاعل الجمهور مع فيروز لحظة واحدة طوال الحفل، لكنها حين أمسكت الدف بيد وراحت تنقره بالأخرى لم تبقِ أحدًا على كرسيه. بلحظة واحدة هب الجميع وقوفًا مواكبين غناءها بالتصفيق.
وحين بدا أن السهرة انتهت، وحان وقت الوداع تحولت أقدام الحاضرين إلى ما يشبه المطارق تضرب أرض المسرح مطالبة بعودتها. عادت وغنّت مجددًا ثم وعدت بلقاء جديد وغادرت، لكن صوتها ظل ممسكًا بالناس والوقت والمكان...
تكرّر المشهد في الحفلات التالية غير أن حفل الختام كان عشية الميلاد، وقد أرادته فيروز تحية لجمهورها فحملته مزيدًا من الفرح والتمنيات والرسائل، وغنّت «ليلة عيد» و«روح زورهن ببيتن» و«تلج»...
كل عام وأنت في وجداننا قنديل الحلم والحب و«زاد الخير» يا فيروز.
• قاد الفرقة الموسيقية هاروت فازليان وعزف على البيانو ميشال فاضل.
• أطلّت فيروز بفستان أبيض مطرّز بأحجار براقة من تصميم ايلي صعب وبدت كأنها القنديل الوحيد المضاء وسط العتمة.
• مساحة خشبة المسرح 800 متر, منها 300 متر مساحة يمكن أن تتحرك نزولاً وصعودًا بما يناسب أعمال تغيير الديكور وسواه. لكن السيدة فيروز طلبت أن يكون المسرح ثابتًا في حفلاتها.
• يتّسع المسرح لنحو اربعة آلاف مقعد امتلأت بالكامل، ما اقتضى إضافة حفلة خامسة إلى تلك التي كانت مقررة أصلاً.
• عند نهاية الحفل الأول، وبينما كانت فيروز تحيّي الجمهور قبل أن تغادر فوجئ الحضور بشخص يصعد إلى المسرح، ويتجه مباشرة إلى السيدة فيسرق قبلة من يدها ثم يعود أدراجه وهو يقول: «بستلّا إيدا... بستلّا إيدا...».