متاحف في بلادي

في أحضانها ثلاثة متاحف
إعداد: جان دارك أبي ياغي

«قلعة لبنان»: ومن الشغف ما أقام صروحًا...

 

طرازها الفريد والجهد الشخصي الذي بذل لبنائها، أكسباها شهرة لبنانية باتت اليوم عالمية... «إنها قلعة لبنان» التي بناها طبيب أسنان فنان هو الدكتور إيلي صرّاف. صرّاف راوده حلم، وقد حققه مستندًا إلى كثير من الشغف وإلى مساعدة عائلته الصغيرة. فإلى القلعة...


موقع  القلعة
تقع «قلعة لبنان» التي تضم ثلاثة متاحف في أسفل امتداد وادي قاديشا وغابة الأرز في بلدة كوسبا - قضاء الكورة، في منطقة كانت تعرف قديمًا بـ«منطقة الحرية». وتواجه القلعة دير سيدة حماطورة الأثري الذي يعود تاريخه إلى 1300 سنة والذي يقع في قلب جبل أهداه اسمه.
تمتد القلعة - المتحف على مساحة 50 ألف متر مربع، لكل حجر فيها رمز، ولكل ركن قيمة فنية تراثية قائمة بذاتها.
بناء ضخم مؤلف من 7 طوابق من الحجر البركاني الأسود المنقول من جرود عكار والذي يحتوي على عدد من المعادن ومنها تبر الذهب. يطل البناء من بين جبلين ويشكّل القلعة بقمتها المكللة بثلاث خواب ترمز إلى التراث اللبناني، وثلاثة تماثيل ترمز إلى حرية الفكر والمعتقد في لبنان، بالإضافة إلى تاج المعرفة اللبنانية المزيّن بالكرة الأرضية دلالة على الإنتشار اللبناني في جميع أقطار العالم.

 

«أهلا وسهلا»
عند مدخل القلعة تطالعك الـ«أهلا وسهلا» المحفورة على الحجر بست لغات (عربي، فرنسي، إنكليزي، برتغالي، روسي وصيني)، إلى جانب رسم للكرة الأرضية نقش عليها عبارة «حافظوا على الأرض»، وأحرف الأبجدية على أحجار السيراميك في قارب فينيقي (منحوت في فسيفساء تزيّن أرض القلعة)، تشهد على أننا موطن العلم والحرف.
أما الخريطة اللبنانية التي تزيّن الباب الحجري للواجهة الرئيسة والذي يزن أكثر من طن، فتدل إلى موقع القلعة والمواقع الأثرية الأخرى (قلعة صيدا، صور، طرابلس، جبيل، وادي قاديشا، وصولاً إلى الأرز مع أسماء القرى المحيطة بها).
في الباحة الخارجية دعوة للإستراحة: كراسٍ وطاولات مصنوعة من الرخام وحجر الموزاييك بأشكال فنية ابتدعتها يد الفنان الدكتور إيلي صرّاف. أما خارج القلعة فثمة استعادة للحياة القروية اللبنانية، من صنع الفحم والكلس إلى الحرير والمونة والفرن العربي وبئر الماء ودبس الخروب وماء الورد وماء الزهر وغيرها...

 

لا للحرب نعم للسلام
في واجهة القلعة أرزة لبنان مغروسة في مثلث حجري يجري فيه شلال ماء؛ الماء يتحوّل دموعًا في دلالة إلى أيام الحرب، وعندما ينضب تشمخ الأرزة كما في زمن السلم.
تاريخ الحرب ومعاناتها تترجمها لوحة تمثل البندقية والقبعة العسكرية والقبر، وأخرى تمثل الأيادي التي تحترق، وثالثة ترمز إلى «الهستيريا الجماعية» التي سادت زمن البندقية والمدفع.
نكمل الجولة لنصل إلى الطابق الأول، جدرانه مزخرفة برسوم وآلات موسيقية شرقية، ديوان، جرن، وكلها مصنوعة من مواد طبيعية صديقة للبيئة ولا تحتاج إلى صيانة.
وفي صدر الدار، الجلسة العائلية وعين الماء والجرة على أكتاف الصبايا، وصولاً إلى السهرة اللبنانية وطرب الآلات الموسيقية القديمة.
أما باقي الطوابق فهي في طور التجهيز، لتشهد في الأيام المقبلة على قيمة لبنان التراثية من خلال القطع والأدوات التي ستتضمنها.


طبيب أسنان فنان
قد يتساءل الزائر عن الجهة أو المؤسسة بانية هذا المجد، فيفاجأ بأن الدكتور إيلي صراف هو صاحب الفكرة ومنفّذها إلى جانب عائلته المؤلفة من زوجته وولديه.
الدكتور صراف إختصاصي في طب الأسنان، تابع دراسته في الولايات المتحدة وعاش مع عائلته هناك لمدة طويلة في أثناء الحرب اللبنانية. الغربة القسرية ولّدت لديه تحديًا كبيرًا وحلمًا راوده منذ الصغر بأن يبني قلعة في منطقة الحرية في كوسبا - الكورة. بدأت الخطوة العملية الأولى العام 1984، وعلى دوي المدافع جلبت الحجارة البركانية السوداء اللون من عكار، وهي من تراث لبنان ورأسماله، كما يقول الدكتور صراف. إنتهى العمل في البناء العام 1990، لكن وكما سبق وأشرنا ثمة ستة طوابق ما تزال قيد التجهيز.
عندما اختار أن يبني «كانوا يدمّرون» كما يقول، وعندما قرروا أن يبنوا بنوا بالباطون. ويضيف: «أردت أن أبني ماديًا ومعنويًا، وعبر بناء الحجر كنت أسعى، كلبناني، إلى إعادة بناء القيم والهوية اللبنانية التي مزقتها الحرب. القلعة كانت حلمًا تحقق عبر تجسيد الشخصية اللبنانية الفريدة بقديمها وجديدها».
وهكذا، ضربت يداه الصخر فبنى، وداعبت أنامله الإزميل والألوان فرسم ونحت وجسّد المفاهيم الأزلية في لوحات ومنحوتات وشواهد باقية بقاء الحجر.
حول المجهود الفردي الذي أنجز هذا العمل الضخم، يقول الدكتور صراف إنّه استعان بمكتب هندسة درس الموقع ووضع الخرائط والأساسات. أما التنفيذ بكل تفاصيله «فلي ولعائلتي فقط، ولم نستعن بمهندس ديكور ولا بنحات أو رسام بل كنا نحن وحدنا فريق العمل».

 

متحف الحجر الطبيعي
إفتتح متحف الحجر في العام 2010، وهو يمتد على مساحة 1500م2 في الهواء الطلق. وقد تحوّل عبر السنين من حقل رماية إلى مسرح شهد حفلات تراثية وفنية وعروض أزياء... واليوم صار متحفًا للمنحوتات الحجرية الطبيعية الشاهدة على جمال الحجر في لبنان.
يضم المتحف حوالى 500 قطعة من المتحجرات تتوزّع في خمس أقبية تتلاءم وشكل الحجر. أغلب هذه الأحجار مصدرها مقلع منطقة «بِلاّ»، كما من مختلف المناطق اللبنانية. تتّخذ الأحجار أشكالاً فنية مختلفة (كالسلحفاة، حيوانات متحجرة، صدف بحرية وجبلية، بزاقة...) تجعل الزائر يستمتع في رؤيتها وفي تخيّل أشكالها.

 

متحف «الإنسان والطبيعة والدواء»
المحطة الأخيرة في الجولة كانت في آخر ما ابتدعته يد الدكتور صراف، وهو متحف الشجر حيث فن الطبيعة والإنسان يخيمان على محتوياته.
يتضمن المتحف الذي افتتح العام 2000، أكثر من مئة نوع من الأشجار القديمة اللبنانية المصدر كالسنديان، اللزاب، الشوح، الأرز، الدلب، الحور، الكوكلان، الزيتون، السرو، القطلب، الملول أو العفص، الكينا، البطم (وهو نوع من الشجر المشهور بصلابته يستعمله الفلاح اللبناني)، وغيرها من الأشجار التي يعتبرها الدكتور صراف من التراث اللبناني.
تعود فكرة إنشاء هذا النوع من المتاحف إلى حلم راود الدكتور صراف في صغره لإبراز جمالية وشكل الأعشاب في لبنان وتحويلها إلى أداة طيّعة في يد الإنسان.
يقول في هذا الصدد: «الهدف هو إقامة غابة لبنانية ناطقة، تضم أشكالاً متعددة وأنواعًا غريبة ونادرة من جذوع الأشجار والأغصان والأعشاب، تختصر جوانب من حضارة لبنان وتاريخه وتمسك اللبناني بأرضه المعطاءة وخيراتها المقدّسة».
يجلب الصراف معروضاته من كرم الطبيعة، فهو يفتش عن الجذوع والأغصان في الغابات والبساتين. ويشرح: «أنا لا أغيّر في شكلها أبدًا، فهي صناعة إلهية وأنا فقط أزخرفها وأجمّلها وأضعها في المكان المناسب».
في زاوية على شمال المدخل عدّة طب الأسنان القديمة التي كان يستعملها الدكتور صراف وهي حجر الأساس في بناء مملكته، «فلولا مهنة طب الأسنان لما استطعت بناء القلعة - المتحف»، كما كتب على لوحة بأحرف من العملة اللبنانية القديمة.
مجموعة من العصافير تستقطب الزوار، منحوتة من خشب أشجار التين، الدردار، السفط، الياسمين، العلّيق... وقد اتخذت أشكالاً فنية رائعة. هذا إلى سفينة نوح التي تحتل وسط القاعة وقد تحوّلت إلى رفوف لعرض المنحوتات الخشبية.
في المتحف نفسه جداريات «الموزاييك» التي صنعها الدكتور صرّاف تعكس أسلوبه الفني الخاص، الجداريات تجسّد صلب المسيح وقيامته، أجراس الميلاد، بورتريه لـ«بو سعيد» السكران، وجوه ومناظر طبيعية.
حاليًا يُجري الدكتور إيلي صراف إختبارات طبية ودراسات لتحليل أنواع الأشجار وقيمتها، كما يحضّر مشروعًا لتحليل بعض الأعشاب النادرة في وادي قاديشا تصلح أن تكون أدوية فاعلة.
يجدر بالإشارة أن وزارة التربية والتعليم العالي - المديرية العامة للتربية قد أصدرت تعميمًا إلى مسؤولي الثانويات والمدارس الرسمية لتشجيع طلابهم على زيارة القلعة لكونها رمزًا سياحيًا وأثريًا ووطنيًا، وهي تفتح أبوابها طوال أيام السنة من الساعة العاشرة صباحًا ووفق موعد مسبق.

تصوير: الرقيب جو طويل