- En
- Fr
- عربي
من الأرض
تعرف الأرض خطواتهم، فتسري في أوصالها المحترقة بلهيب الفوسفور وحمم الحقد المتوحّش نسمات حياة. يعرف التراب رائحة عَرقهم ويحتضن دماءهم ذخائر مقدسة. ويعرف العدو أنّ كل ما يمتلكه من أسلحة وقدرة على التدمير لن يمنعهم من التّصدي له حتى بالصدور العارية.
هم هناك منذ فجر الاستقلال، في المالكية سجّلوا أول انتصاراتهم وقدّموا أول شهدائهم. بعدها استمرت مسيرتهم متوّجة بالشهادة. في أيلول 1972 لقّنوا العدو دروسًا قاسية، وفي معارك كثيرة قبلها وبعدها، أثبتوا أنّهم لا يتراجعون أمام بطشه ولا يعتمد قرار مواجهتهم له على احتساب ميزان القوى، وإنما على واجب الدفاع عن الوطن. دماؤهم ودماء أهلهم سالت معًا في شرايين الوطن خلال نيسان 1996 وتموز 2006.
ومنذ ذلك الحين، عزز انتشارهم في البلدات والقرى الحدودية صمود أهلها، أعادهم إلى أراضيهم التي كانت لسنوات طويلة خزانًا للموت بفعل الألغام والقذائف المدفونة فيها، وأرسى استقرارًا وأمنًا، وأسهم في توفير الكثير من الخدمات.
لم يتردّدوا مرّة
على الحدود، لم يتردّدوا مرّة في مواجهة أي خرق يحاول العدو من خلاله انتهاك سيادة لبنان على أراضيه. تشهد شجرة العديسة التي افتدوها بالدم الطاهر على مدى التزامهم واجبهم وإيمانهم بحقهم، وشهادتها ليست الوحيدة.
ينتشر في قطاع جنوب الليطاني حاليًا لواءا المشاة الخامس والسابع وفوج التدخل الخامس. تلك القوى التي تُنفّذ مهماتها تحت سقف القرار 1701 وتعمل بإشراف قيادة القطاع، تضطلع منذ بدء الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب في تشرين الأول الماضي بسلسلة مهمات طارئة تتمحور حول مساندة المواطنين ودعم صمودهم. والعسكريون يؤدّون هذه المهمات بكل ما عرفناهم به من شجاعة وانضباط وتفانٍ، مواصلين مسيرة الالتزام والثبات.
الجهوزية التامة بأفضل وجوهها
على مدى الأشهر الخمسة الماضية لم تُسجّل أي حالة تخلّف عن الخدمة، الجميع في مراكزهم، وبمعنويات عالية وجهوزية تامة. في ظل الضغوط متعددة الأنواع والمصادر التي يعانيها العسكريون منذ سنوات، ربما لم يكن متوقّعًا أن يكونوا على هذا المستوى من الجهوزية والمعنويات، لكنّهم يؤكدون من جديد كما في كل ظرف عصيب صلابتهم وانضباطهم ومناقبيتهم.
يقيمون وسط نار تأكل الأخضر واليابس، يُزنّر الخطر مراكزهم في كل لحظة، ويتعرّض بعضها للاستهداف المباشر. مركز النبي عويضة في العديسة حيث استشهد الرقيب عبد الكريم مقداد وأُصيب ثلاثة من رفاقه مثال في هذا السياق. شيّع العسكريون رفيقهم، عالجوا الأضرار التي لحقت بمركزهم، وظلوا ثابتين فيه لا يتزحزحون منه، لم يقبل أي منهم أن يرتاح لفترة. على القاعدة نفسها حافظت جميع المواقع على نقاط تمركُزها. لم يتم إخلاء أي مركز، ولم يطلب أي عسكري الانتقال من مركزه ليلتحق بآخر أقل تعرّضًا للخطر.
دورياتهم تتعرض أيضًا للاستهداف، حتى وإن كانت مشتركة مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان. يُذكر في هذا السياق أنّ الجيش أوقف دورياته مع اليونيفيل في قطاع جنوب الليطاني احتجاجًا على استهداف العدو لإحداها في التاسع من آذار المنصرم، لكنّ الاتصالات التي حصلت على صعيد عالٍ أسفرت عن عودة هذه الدوريات بعد يومين.
بغضّ النظر عن الإمكانات
بغضّ النظر عن تواضع إمكاناتهم، يُدرك عسكريونا أهمية ثباتهم في مواقعهم، والمحافظة على جهوزيتهم ويقظتهم، كما يدركون أهمية الدور الذي يؤدونه في المناطق الحدودية إلى جانب أهلهم الذين تُدّك المنازل فوق رؤوس أطفالهم ونسائهم ومسنّيهم، وتُحرق أرزاقهم ومواسمهم. هم إلى جانب مواطنيهم بكل ما تحتمله هذه العبارة من معانٍ وتتّسع له من أفعال على الأرض. وبذلك يُبقون على جذوة الأمل متّقدة رغم الجحيم الذي تصنعه صواريخ العدو وقذائفه ومسيّراته وسائر أدوات توحُّشه.
نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، تنتشر الصواريخ والذخائر غير المنفجرة والأجسام المشبوهة التي تتولى الوحدات الهندسية إجراء اللازم بشأنها. وتلك واحدة من أهم المهمات وأدقّها، فأحيانًا يسبب تفجير هذه المخلّفات إثارة هلع المواطنين، بينما يتعذّر نقلها بسبب خطورتها. يُشار في هذا السياق إلى عثور الجيش على العديد من الأجسام المشبوهة التي تُشكّل خطرًا على المواطنين، ومن بينها بالونات حرارية أسقطتها طائرات معادية.
العمل الهندسي اليومي على الأرض يقابله توثيق دقيق لما يُسفر عنه قصف العدو الإسرائيلي من إصابات في الأرواح والممتلكات، وإجراء التحقيقات حول نوعية الأسلحة والذخائر التي يستخدمها العدو ورصد مخالفاته للقوانين الدولية، وتوجيه الكتب إلى وزارة الخارجية والمغتربين عبر وزارة الدفاع الوطني للاعتراض لدى الأمم المتحدة.
التصدي للحرائق الواسعة التي أشعلها العدو في الأحراج والحقول والبساتين يندرج أيضًا ضمن المهمات التي يُنفّذها الجيش. وبفضل يقظة جنوده وسهرهم، اكتشف وجود خراطيم البنزين التي مدّها هذا العدو عبر الحدود ليحرق بواسطتها مزيدًا من الأرزاق.
الماء، الكهرباء، الطعام، الدواء، الاتصالات... باتت في صلب روزنامة العمل اليومي للقوى المنتشرة جنوبًا، بالإضافة إلى الكثير من المهمات الطارئة التي تندرج في إطار مساعدة الأهالي والحفاظ على أرواحهم وأرزاقهم ومواسمهم ورفع معنوياتهم.
هكذا نراهم...
هكذا نرى العسكريين في مواكبة فرق الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني عند انتشال المصابين والضحايا من تحت الركام، كما نراهم في مواكبة عمل البلديات ومقدمي الخدمات الأساسية، فلا تتقدم جرّافة لرفع الأنقاض وفتح طريق ما، إلا ويكون الجيش حاضرًا. الأمر نفسه يسري على عمل الفرق المختصة بإصلاح الأعطال التي تطرأ على شبكات المياه والكهرباء والاتصالات بسبب تعرّضها للقصف المعادي. الصهاريج المحمّلة بالمحروقات لا تسير بدورها من دون مواكبة الجيش ومرافقته لها إلى حيث تُفرغ حمولتها في الخزانات الخاصة بمرافق الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى تزويد بعض المستشفيات الحكومية بالمياه العذبة.
مجرد رؤية الأهالي لدوريات الجيش تجوب الطرقات ترفع معنوياتهم، فكم بالحري عندما يرون عناصره إلى جانبهم في كل ما يحتاجون إليه في حياتهم اليومية؟ من مرافقة السلطات البلدية خلال توزيع المساعدات، إلى تزويد بعض البيوت مساعدات غذائية، والمساعدة في إخلاء معدات طبيّة من المناطق المستهدفة، وحماية المزارعين في انتقالهم إلى أراضيهم لإنجاز أعمالهم، أو حتى لنقل ممتلكاتهم ومواشيهم إلى أماكن أقل تعرُّضًا للقصف.
المهمات تحدّدها الحاجات
مهمات حفظ الأمن التي تتولاها القوى المنتشرة تسير وفق ما كانت عليه، وقد اتسعت في الآونة الأخيرة لتشمل حماية ممتلكات المواطنين. فبسبب الوضع الراهن ونزوح عشرات الآلاف من منازلهم وقراهم، يحاول البعض استغلال الظروف وسرقة الممتلكات والمواسم الزراعية. في هذا السياق حصلت سرقات كبيرة لمحاصيل زراعية، لكنّ التحقيقات أدت إلى كشف الفاعلين وتوقيفهم.
لن يتوقّف الأمر على ما سبق ذكره، فالمهمات تحدّدها الحاجات، ومع حلول الربيع ينبغي للمزارعين تحضير أراضيهم لزراعة مواسم جديدة، وهذا ما يتطلب رش المبيدات وإزالة الأعشاب وسوى ذلك من أعمال. لذلك لم يكن مفاجئًا أن نرى العسكريين إلى جانب مواطنيهم في الحقول، يستودعون الأرض تعبهم وعرقهم فتنبت في ترابها الآمال وتفيض خيرات يستحقها أهلنا.
هذه الخطوة بالذات اقتضت خطة قسّمت بموجبها المناطق المستهدفة إلى قطاعات يجري العمل فيها تباعًا، إذ يُخصّص عدد من الأيام لإنجاز الأعمال في كل منها.
مع كتابة هذه السطور، كانت حقول كثيرة في بلداتنا الحدودية التي يعتاش 80% من أهلها من عائدات الزراعة، على موعد مع الأمل بمواسم خيّرة. الفلاحون والمزارعون انطلقوا إلى أراضيهم بفرح، الجيش يرافقهم والأمل أيضًا.
من قيادة القطاع إلى آخر مركز على الحدود، روح معنوية عالية يعكسها التزام العسكريين كافة، من أعلى الرتب إلى أدناها. الضباط والجنود معًا في مهمات من دونها لما بقي أثر للحياة في بلدات تحوّلت المئات من منازلها إلى أكوام من الركام، وبات التنقُّل فيها للحصول على أساسيات الحياة رديفًا للموت.