قراءات في الثورة الروسية فلسفة الإرهـاب : من العنف الفردي حتى الثورة المنظمة

قراءات في الثورة الروسية فلسفة الإرهـاب : من العنف الفردي حتى الثورة المنظمة
إعداد: دلال بسما
بـــاحثة

الإرهاب والفوضوية والعدمية
ليست الفوضوية, كما ننعتها في لغتنا العربية ــ ونحن العرب مبدعون بنقل الفكر الغربي بالشكل الذي يناسب إتجاهاتنا الفكرية ــ ظاهرة عرضية, وليدة القرن التاسع عشر, كما يروق للكثيرين كتابته. حتى ولو كانت إمتداداً للثورة الفرنسية[1], التي سجلّت انتصاراً هائلاً للتحررية ــ يستحق الرؤوس التي سقطت في عهد روبسبير, والذي شجبنا إرهابه سابقاً [2]ــ وأعلنت أن الفرد غاية في ذاته, وأن جميع الأطر الإجتماعية والسياسية لم تكن إلاّ لتخدم تفتحه. إنها, إذن, ترفع شعار الحرية المقدس[3]. وبتركيز المؤرخين على أعمال, هذه الحركة, العنفية, خلقوا لغطاً لغوياً تعبّر عنه الترجمة العربية بشكل أكثر وضوحاً من اللغات الأخرى. وهذا ما نريد أن نعالجه أولاً. ثم سوف نعطي لمحة تاريخية عن هذه الحركة, وبعدها نلقي نظرة على فلسفتها, قبل أن نعالج تأثير هذه الفلسفة على ظاهرة الإرهاب.
 

فوضوية أم تحرريةAnarchisme)): اللغط اللغوي[4]:
ان كلمة انرشية Anarchie )) , هي قديمة, قِدم نزعة النفس الإنسانية إلى الحرية. تعني كلمة أنرشي في أصلها اليوناني القديم ــ من أنارخيا anarkhia))ــ غياب السلطة, وبالمعنى السياسي يُقصد غياب السلطة القمعية[5].
ومعروف أن برودون)[6] استخدمها للمرة الأولى, أي إبتكرها, من قبيل النكتة والإستفزاز. وكأنه كان يريد أن يصدم الناس على نحوٍ شديد فأجرى مع الإنسان العادي هذا الحديث غير الخالي من الإستفزاز:
­-  هل أنت جمهوري ؟
­-  جمهوري, نعم؛ لكن هذه الكلمة لا تعني شيئاً, إنه الشيء العام ... الملوك هم أيضاً جمهوريون.
­-  إذن, فأنت ديمقراطي.
-­  كلا.
-­  ماذا, هلا تكون ملكياً ؟
-­  كلا
-­  دستوري ؟
-­  معاذ الله.
-­  أنت إذن أرستقراطي ؟
-­  إطلاقاً.
-­  هل أنت تطمح لحكومة مختلطة؟
-­  كلا وكلا.
-­  ماذا تكون إذن ؟
 ] -تحرّريanarchiste [­-  أنا أنرشي.
بهذه اللفظة “أنرشي” أراد برودون أن يعني عكس ما تعنيه كلمة فوضى تماماً, فهو إنسان بنّاء, رغم الظواهر, أكثر مما هو هدّام[7], غير ان المقولة التي سادت على مر السنين والتي تقول بأن الناس لا يملكون ان يعيشوا دون سلطة أو حكومة, أضفت على اللفظة Anarchie) ) معنىً محقراً: أصبحت مرادفة للفوضى, للبلبلة, لعدم التنظيم[8]. ولكن من الخبث بمكان الإعتقاد أن المقصود رفض السلطة التنظيمية العادلة, والتي لا يمكن الإستغناء عنها. وقد عمد الأنرشيون إلى تغيير تسمية هذه السلطة فسمّوها تارةً المجلس العمالي وطوراً الهيئة الفدرالية او اللجنة المنتخبة. ولكنهم لم يكونوا يوماً ضد تنظيم المجتمع عبر هيئاته المنتخبة, ولا ضدّ وجود قوة رادعة وقامعة للإعتداءات المخلّة بأمن الناس[9]لك سوف نستعمل في نصنا كلمة أنرشية عودةً إلى مصدر الكلمة, كما سوف نفهم من دراسة أسس الفلسفة التحررية.

أسسها التاريخية[10]:
لم يعالج المؤرخون التحررية في توسع, بل مروّا على تشنجاتها القوية, ونتائجها, فبقيت تلك الحركة خارج كل اطار سياسي أو إجتماعي محدّد. وصفحاتهم عنها, لا تصورها أكثر من دخيل حمله جيل عفوي على أرض فاسدة بالفضائح, في أواخر القرن التاسع عشر, ولم يلبث أن خبا.
وهذا مغالط للواقع, فالتحررية, لم تخرج عن حركة العصر عامة, بل كانت في صلبها لافتاً أصيلاً. ومن الناحية الايديولوجية البحتة, تتخذ الفوضوية طابع الضرورة المنطقية, مما لا تكتسبه نظريات وعقائد كثيرة تبدو متأقلمة مع تطور القرن التاسع عشر.
إن الثورة الفرنسية سجلت انتصاراً هائلاً للتحررية, وأعلنت أن الفرد غاية في ذاته, وأن جميع الأطر الاجتماعية والسياسية لم تكن إلاّ لتخدم تفتحه. إنها, إذن, ترفع شعار الحرية المقدس. على أن هذه الحرية, ليست سوى وهم خادع : انها من جهة, لعبة التنافس الحرة التي تسحق كل من ليس مهيأ كفاية للصراع, ومن جهة أخرى, هي سند الملكية الخاصة التي ــ إن ضمنت استقلال المالكين ــ تحيل غير المالكين إلى أرقاء.
وهذا تناقض مستعصٍ ترتهن به التحررية. فالتنظيم السياسي يرتكز على المبادىء الواسعة للحرية, والمساواة والأخوة, في حين أن الحياة الإجتماعية ترتهن بالإسترقاق الإقتصادي واللامساواة الإجتماعية وصراع الطبقات. من هنا, قول هيغل Hegel) ) حول الثورة الفرنسية: “كادت السماء تُحّمل إلى الأرض”. لكن هذه السماء, تحت شكل الدولة, اذا كانت تبدو في متناول الجميع, فهي تزيد في إبراز الظروف البائسة للحياة الإجتماعية.
هذا التناقض الثابت في التحررية, ازاء طابعه المعقد حول مبدئه الأساسي, غير القابل للتحقيق إلا في المجرّد, والذي ينقلب على نفسه فور تطبيقه على الحياة الواقعية, خلق للتحررية أخصام مبدأ, ينقسمون فريقين:
أ- ­ أنصار الثورة المضادة: كما بُوركِه[11]جوزف دي ميستر[12]اللذان دافعا عن النظام العقلاني الذي أنشأته العنايه ضدّ تجاوزات التعقلية المطلقة, رافضة تكوين دولة معاصرة على أسس تجريدية عقلانية. وهؤلاء الأنصار, وعوا الهوة التي حدثت بين الدولة ــ الرزق المشترك بين الجميع ــ والمجتمع الذي يتوزع رزقه وفق قوانين الميراث. لذلك أرادوا من المجتمع ــ في مدى ما ينجم عن تطور عضوي وتقليدي ــ أن ينعكس من جديد على تكوين الدولة.
ب-  ­ المتحمسون للثورة : وهم منطقيون متصلبون, يتهمون عقائديي الثورة الفرنسية بأنهم لم يكملوا تنفيذ أفكارهم حتى النهاية. وعلى عكس التقليديين مؤكدي هيمنة الحياة الإجتماعية المسلسلة, مسبقاً, يجزمون بأن المبادىء المعروفة والمطبقة في المجال السياسي, تهيمن كذلك على المجتمع, وبأن الحرية السياسية لا تُتَرجَم إلاّ بالمساواة الإجتماعية التي بدونها الفوضى, وبأن يكون المجتمع على صورة الدولة.
هذا التيار الأخير من الأفكار, هو الذي غذّى الإرادة الثورية في القرن التاسع عشر. وأول مظاهرها العلنية, ما أُسمي في حينها, أي عام 1796, “بمؤامرة المتساوين” بقيادة بابوف[13]وفي بيانهم[14], قام المتساوون ضد المساواة كما أطلقتها الثورة الفرنسية, مؤكدين أنها ليست سوى “خرافة جميلة للقانون, إنما... عاقر”. صارخين بلهجتهم المؤثرة التي تشبه عصرهم: “ولتختفِ التفريقات بين الأغنياء والفقراء, بين الكبار والصغار, بين الأسياد والعبيد, بين الحاكم والمحكوم”.
بهذا, كانوا أوّل من أحسّ, سلفاً, مشكلة العالم المعاصر الأساسية: كيف جمعُ الفردية مع حرية المجتمع؟ وهي مشكلة مهمة, طالما المساواة الإجتماعية ــ وهي ضمان حرية الجميع ــ تصادر تحديداً للحرية الفردية, فيما المساواة السياسية لا تنفصل عن ملء الحرية الفردية.
هذا الموقف المضاد للتحرر ــ مع قناعة بأنّ المواطن لا يتمتع بالحرية الحقيقية في مجتمع لا يضمن حياته المادية ــ تبناه جميع من يمكن تصنيفهم رواد الإشتراكية[15]. أمثال فيكتور كونسيديران[16], لويس بلان[17], وموس هيس الذي بقي وفياً لموضوع رواد الإشتراكية التقليدي, وعبر عن فكره بما لخّصه حول الثورة الفرنسية بقوله: “تغيّر الطغاة, إنما الطغيان لم يتغير”.
على أن موقف كارل ماركس أضاء على جميع الإنتقادات السابقة للثورة الفرنسية, معطياً موقفه[18]وهو, في وضعه النظام الليبرالي أمام الإقطاع ــ متأثراً بأفكار هيغل ــ توصّل الى إستخلاص خواص الموضوع. فمنذ زمن الإقطاع, كانت الدولة استجابة مخلصة للمجتمع: توزيع خيرات الأرض ينعكس في الإقطاع, وتنظيم الأسرة ينعكس في الطبقة الشعبية, ونمط العمل ينعكس في النظام النقابي. ولكن, حين التطورات السريعة في وسائل الإنتاج, وحين تداولات الثروات, تضغط على التأثيرات الإقطاعية وتنشر حرية أوسع, يكون لهرم العصور الوسطى أن ينقسم إلى قسمين غير متشابهين: أولهما المجتمع البورجوازي الذي يشكل حقلاً غير محدّد لتحركات الفردانية والأنانية, وثانيهما الدولة, كرة الغيريةL'altruisme) ) التي تتناغم فيها غاية الفرد, مع غايات الجماعة. وكان لمفهوم هيغل حول الإستلاب, أن أتاح لماركس توضيح معنى هذه الإزدواجية. وهو اعتبر الإنسان كائناً إجتماعياً, فلم يرى في التحقيق النظري الذي يعرفه المثال الإجتماعي في حرم الدولة, سوى استلاب للجوهر الإنساني, لأن الدولة تأسر المثال الإجتماعي, الذي ينقص المجتمع فعلياً.
من هنا, تأكيد كارل ماركس أن “التفتح السياسي هو إعادة الإنسان من جهة, عضواً في المجتمع البورجوازي, فرداً أنانياً مستقلاً, ومن جهة ثانية مواطناً, شخصاً معنوياً”. وهو يعتقد أن إزدواجية الدولة والمجتمع, تتجلى في فصل حقوق الإنسان عن المواطن. فحقوق الإنسان هي: المساواة والحرية والأمان والملكية. والحرية هي حق الفرد محدوداً في ذاته, وهي تبرير للأنانية. وبإسم هذه الحرية يشعر الإنسان أنه مضمون في إمتلاك ملكية خاصة. والمساواة هي حق الجميع في عيش حياة معزولة وأنانية. والأمان هو الحماية التي تتمتع بها الأنانية.
وتستخلص حلول كارل ماركس من الملامح الهيغلية, على ان كل إستلاب يتبعه استملاك جديد. ويكمل ماركس معتبراً ضرورة العودة إلى “الدولة في المجتمع” ومصالحة “المواطن والبورجوازي”. والمثال, بعد انفصاله عن الحقيقة, يجب أن يعود إلى الحقيقة ويحييها.
بهذا نجد تفسيراً واضحاً لجذور التحررية تاريخياً. وانطلاقاً, كما ماركس, من المسلّمة التي بها تنتظم حياة الإنسان, تحت الحكم الليبرالي, في إزالة الدولة والمجتمع البورجوازي, يمكن استخلاص حلّ ثان للموضوع. فعوض تخطّي المضادّه, ومصالحة التعبيرين المتنافرين, يمكن رفض الدولة واقامة مجتمع وفق المبادىء الخارج دولية. وهذا ما تبناه التحرريون.
هكذا نتبيّن في وضوح القرابة الروحية بين الإشتراكية والتحررية رغم الهوة العميقة الفاصلة بينهما. وإذا في نقد الدولة, يتفق التياران ويتكاملان, فإنما جهودهما تتناقض في إعادة تكوين الحياة الإجتماعية.
فالتحررية تعكس ردة فعل إنسان القرن التاسع عشر الذي أوهموه بالحرية, حتى قام ضدّ تجاوزات الحياة الإجتماعية التي منها يعاني. وإذ ظن نفسه مخدوعاً من الدولة, يشيح عنها, ويتقوقع في داخل ذاته. ووعيه هذا, يؤدي به إلى هرب من أمام واقع الدولة.
أما الإشتراكية, فعلى العكس, رغم اقتناعاتها أن الدولة تجرد الفرد من جوهره الحقيقي, تحاول النهدة إلى مستقبل التاريخ, طموحاً لإكتشاف وتدعيم وحدة أساسية, خلف الواقع المتناقض, وفي ما بعد التناقض الحاصل بين الدولة والمجتمع.
من زاوية التاريخ, تبدو التحررية, اذن, ظاهرة من ظواهر الإشتراكية. فبعدما بقيت, زمناً, مركز ثقل, ابتلعتها الإشتراكية. وكان للتاريخ أن يفصل بينهما, مبيناً امكان الدولة ــ كما تقول الإشتراكية, أن تفرض مثال حريتها على المجتمع.
هكذا, تكون تحدّدت المكانة التي إحتلتها التحررية في القرن التاسع عشر. انها بين الليبرالية ــ التي كانت تناقضاتها الداخلية من أسباب إيجادها ــ والإشتراكية التي تتجاوزها بفكرها الثقيف.
إنها حركة آنية أعطت القرن التاسع عشر طابعه الخاص. على أن قضية الليبرالية كانت بقيت ناقصة, لو لم تدخلها المعارضة العفوية التي للتحررية.

أسسها الفلسفية
كما الفوضوية صدرت عن الليبرالية التي تتّهمها بطابعها المتناقض, هكذا تجد أسساً لها فلسفية في الحركات الفكرية التي كوّنت بنية تحتية ايديولوجية للنظام الليبرالي, سواء في نقضها أو في تطويرها عبر مدّ نتائجها إلى أقصى الحدود.
قبل ظهور الأسس الفلسفية للتحررية تعتبر هذه نزعة طبيعية في النفس الإنسانية. وهي الشعور بأن أسمى مطالب الحياة وأحبها إلى النفس, وأقربها إلى القلب, هو الحرية الإجتماعية والإقتصادية للفرد والجماعة, وترمي التحررية إلى إيجاد مجتمع يحظى فيه الأفراد بالحرية الكاملة لإنماء شخصياتهم وتفتح مواهبهم, ويكون هذا المجتمع خالياً من وسائل القهر والإرغام, وأغلال الفقر والحاجة والحرمان, التي تعوق الإنسان عن إستكمال شخصيته, واستغلال مواهبه وقدراته[19].
ومنذ ميلاد الحضارة وهذا الأمل يراود الناس في أخيلة الشعراء, وأحلام الفلاسفة وتطلعات البشر بوجه عام, ففي اليونان القديمة وفي الصين وفي غيرهما من أقطار العالم جاهد الناس من أجل الحصول على الحرية وحاربوا الطغيان والإستبداد حرباً شعواء متواصلة, وهذا النزوع العام إلى الحرية الذي نتبين ملامحه ونلمح آثاره في الأحداث المتتابعة خلال التاريخ يوضح لنا أن متابعة المثل الأعلى للحرية أصيل في الإنسان, وانه يقوى يتشتد كلما قوي شعور الإنسان بشخصيته وذخائر قدرته, وقد أعيا طغاة الأباطرة والقياصرة وسائر المستبدين والحاكمين بأمرهم التغلب على هذا النزوع إلى الحرية, وإخماد أنفاسه, والقضاء عليه, وكان للحرية دائماً الكلمة العليا في النهاية, والتاريخ في رأي هيغل يبين تقدم الشعور بالحرية من جانب الروح, وتحقيقها نتيجة لذلك[20].
لذلك تبدو الأسس الفلسفية للتحررية, مغرقة في ماض سحيق, وقديمة قدم الإنسان والحضارة. ولكنها معقولة الإستيضاح من خلال دراسة كبرى التيارات الإيديولوجية الملازمة, وهي, من جهة, الفردانية [21] العقلانية الفرنسية, ومن جهة ثانية المثالية المطلقة الألمانية, ودون نسيان التأثير المسيحي على التحررية.
العقلانية: تتمحور العقلانية الفرنسية حول أوليّة قَبْلية أخلاقية : فالإنسان, على خلاف سائر الكائنات, يتمتع بالعقل, فيملك ــ مهما كان أصله ــ موقفه الإجتماعي أو طاقاته, كما يمتلك بعض الحقوق التي لا يحق لأحد التصرف بها, وهي سابقة لكل تنظيم سياسي. هذا هو مفهوم الحق الطبيعي المساوي والشامل, الذي انطلقت منه شرعة حقوق الإنسان عام 1789.
لكن هذا الفرد الذي يشترك في المنطق الشامل, وله الحق في الحرية, يتجاذبه شعوران متضادّان: أولهما الغريزة الإجتماعية التي تكشف له سعادته في السعادة العامة, أي الغيرية, وثانيهما غريزة البقاء. وخلال تطور الإنسانية, تقدمت الأنانية على الغيرية, فصار الإنسان ذئباً مع أخيه الإنسان.

وخلقت الدولة لإخضاع الأفراد على إحترام الحرية الفردية التي يهددها صراع ولّده إنتصار الأنانية. وتدين هذه الدولة بوجودها للضرورات التي نجمت عن تعايش الأفراد, وهي ترتكز على الإتفاق بين أفرادها, وفق “عقد إجتماعي”. ولكي يشرح ولادة هذا “العقد الإجتماعي”, يرى روسّو أن البشر اجتمعوا ليتفقوا على “شكل تعايش يحمي الفرد من القوة المشتركة, ويحمي ممتلكات المتعايش؛ وفي هذا الشكل, يلتحم الفرد بالجماعة, دون الإنصياع لها بل لنفسه, ويبقى على حريته السابقة”.

ما هي امتيازات هذه الدولة ؟
يجب, في البدء, إقصاء فكرة الهيمنة العلوية المفترضة التي تأمر الدولة أن تضحي بالسعادة الفردية لصالح القضية العلوية. اذن, مهمة الدولة, أولاً, حماية “العقد الإجتماعي”, وحماية الحريات الفردية. وللقيام بهذا الدور فعلياً, لها حق الضغط. إنما, لجميع القوانين عقوبة خلقية لتحمي الفرد. ورغم قيام التنظيم الجماعي, بقي الفرد, في عمق, معزولاً.
وهذه القاعدة التي ترتكز عليها الدولة, ليست محدودة فقط, بل واهية جداً. وان كان صحيحاً أنّ كل فرد يتمتع بحق من الحرية, فلا يمكن للعقد )وإن لحمايته(  أن يكون أكثر من رابط مؤقت, مشروط وقابل للنقض.
وتبقى للفرد حرية الإنسحاب من أي تنظيم لا يقدم له حقه. بل من واجبه المقدس أن يرفض كل عقد لا يناسبه, طالما من مهمة الإنسان محاربة كل ما يعيق تفتحه الفردي. من هنا يؤكد فيشته Fichte)) , حول “العقد الإجتماعي”: “ما أن يهضم حقٌ لمواطن في عقد, ويكتشف أن العقد مع مواطن آخر, أضرّه, له الحق المطلق في فسخ العقد غير الملائم”.
إن مفهوم “العقد الإجتماعي”, انطلاقاً من الفردانية العقلانية, يفترض, حكماً, مبدأ حق النقض. وأحس روسو عميقاً بذلك حتى لحظ أن “بنود ذلك العقد”, لم تُكتَب قط, ومن هنا أن “العقد الإجتماعي”, ليحفظ قيمة عامة ونهائية, لم يكن ممكناً تصوره إلاّ في شكل تخيُّل.
وهكذا, يؤدي مفهوم الدولة, انطلاقاً من “العقد الإجتماعي”, إلى ذوبانه كلياً. وحده يبقى, مفهوم الشراكة الحرة, المتطورة دائماً وتباعاً, وفق الحاجات ورغبات الأفراد. من هنا أن الفردانية العقلانية, رغماً عنها, تحمل التحررية في ثناياها.
المثالية الألمانية: كما تبعيَّتُها للعقلانية الفرنسية, كذلك تتبع الفوضوية للمثالية الألمانية المطلقة. والفكرة الرئيسية التي ترتكز عليها الأحدية الهيغلية: ليس الواقع الموضوعي سوى إختراع العقل, فالشخص والموضوع اللذان يبدوان منفصلين, يتحدان في هذه الوحدة العميقة التي يشكلها المثال الشامل: العقل.
فما هو هذا العقل الهيغلي الذي منه ينبثق كل شىء, وإليه يعود, بعد زمن من التجربة هو تاريخ العالم؟ هل هو عقل لا متناه, متفوق على العقول الزائلة, مما هو نقل فلسفي للإله الشخصي؟
إن العقل الهيغلي لا يتحقق إلاّ بفضل وعي متطور للعقول الزائلة, ويتعلق بها حتى يمكن الشك إن لم يكن هو العقل البشري وعى نفسه بنفسه.
في هذا المنحنى أقام قسم من أتباع هيغل. والتوازن الذي حافظ هو عليه, في نظام تفكيره بين التعالي والمثالية, مال, بعد موته, نحو الحضورية. وأتباعها ممن يشكلون “اليسار اليهغلي”, أطلقوا الأحدية الهيغلية حتى آخر حدودها المنطقية. هذه العقلنة, تنامت في طريقين مشروطين:
أ-  ­ العقل الهيغلي تأنسن أكثر: صار إنساناً, أي كائناً بشرياً في المعنى الشامل للكلمة, مع مساهمة فورباخ[22]. ثم صار عقلاً بشرياً مع برونو باور)[23] ( )النقد النظري(, وهذه نظرية نجدها مشوهة في هجاء كارل ماركس[24], حتى إتخذ طابع “الأنا” الأصلية, الأنا الوحيدة في كتاب ماكس شترنر “الوحيد وملكيته”[25].
ب-  ­ البحث عن الوحدة, الذي يتحقق في حرم العقل الهيغلي, بات يبهت. وقامت حرب إبادة ضد كل الثنائيات, وكل الإستلابات: الديني منها, أي ضد الكنيسة, والسياسي, أي ضد الدولة, والإنساني, أي ضد الإنسانية التي, عكس ادعاءات الأنا, تريد الغلبة للــ “نحن”.
في كتابه “فورباخ أو نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”[26], يحاول فريدريك إنجلس إظهار أن الفلسفة الهيغلية تؤدي منطقياً إلى المادية التاريخية والجدلية. ولكنّ التحررية, التي تبشّر بسلطان الأنا الوحيدة وتحرض على الثورة ضدّ جميع إستلابات الطاغية على الأنا, تتحدر هي الأخرى من هذه الإستلابات, مما يؤكد اللحمة بين التيارين.
من هنا أن الخط الجامع بين كلٍ من هيغل وفورباخ وشترنر وباكونين, ليس أقل شرعية من الخط الواصل بين هيغل وماركس, يُظهر أن هيغل أعطى الأولية للتحررية. وهو آخر مراحل الفلسَفة الكلاسيكية الألمانية, وآخر إمتداداتها, في حين أن المادية التاريخية هي تجاوز لها, لأنها جمعت عناصر بعيدة عن الهيغلية, كما الإقتصاد السياسي الإنكليزي, والمادية الفرنسية في القرن الثامن عشر.
على أن جدول هذه التلاقيات يبقى ناقصاً. فتيار رافق عصراً كاملاً, لا يمكنه أن يفلت من الـتأثيرات المختلفة. لكن هذه التأثيرات, لم تأتِ إلاّ في تطور لاحق للعقيدة, ولم يكن لها دور مصيري.

علاقتها بظاهرة الإرهاب
كان تأثير التحررية والعدمية على معنى الإرهاب وعلى مجراه وأوضاعه السياسية واحداً مشتركاً. وهذا يعني أن كلا من هاتين الحركتين, لم تكن لتشكل مرحلة قائمة بذاتها بحيث تكون الاضافة التي قدمتها الواحدة منهما لمضمون الإرهاب مختلفة عن الاخرى, بل تتشارك الحركتان سوية في بلورة الموقف الجديد والمعنى الجديد الناتج عنه. وسبب ذلك يعود إلى ارتباطهما بمصدر ايديولوجي واحد, من جهة, وإلى التأثير المتبادل الذي كان لكل واحدة منهما على الأخرى في مجال الأعمال والوقائع, من جهة أخرى. ما يهمّنا من أمر هاتين الحركتين, هو الكشف عن البعد الجديد الذي أضافتاه إلى معنى الإرهاب. ولذلك فسنقتصر على البحث في الموقف الايديولوجي الذي كان له الدور المباشر في مفهوم الإرهاب الذي نتج عن الثورة الفرنسية.
تعود الايديولوجية التحررية في مصدرها إلى الافكار الاشتراكية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر, ولكنها لم تجد بين روادها من يصوغها في نظام فكري مترابط, وفي مؤلفات منهجية وبشكل دقيق وكامل. ولقد حاول بعضهم وضع مؤلفات بهذا الصدد ولكنها جاءت عرضاً مبسطاً للنظريات والمواقف الايديولوجية بقصد الدعاية والتعميم بين الناس. أضف إلى ذلك أن هناك أشكالاً عديدة وأساليب مختلفة للفوضوية, قد تبدو متعارضة في بعض الاحيان, وذلك بالنظر إلى المفكر الذي تنتسب اليه. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي حالت دون صياغة الفوضوية في نسق واحد ومترابط. فهناك مثلاً تياران عريضان تندرج في خطهما أكثرية المبادئ الفوضوية: الأول هو الذي يقوده ماكس ستيرنر Max Stirner)), ويسمى الفوضوية الفردية, والثاني الذي يجمع بين نظريات المفكر, برودون Proudhon)), والمناضل الروسي ميشال باكونين Bakounine)), ويسمى بالفوضوية المجتمعية أو الشعبية. ولكن بالمقابل, لو رحنا إلى عمق الامور لوجدنا ان النظريات الداعية إلى الحرية المطلقة, ليست بعيدة عن تلك الداعية إلى التنظيم الإجتماعي ذلك البعد الذي يتراءى للنظرة الأولى, إذ أن رفض السلطانL'Autorité) ) والتركيز على أولوية الحكم الفردي Jugement individuel)) قد دفعا التحررين من كلا الأتجاهين إلى اعلان رفضهم للدوغماتيةDogmatisme) ) فقد كتب برودون إلى ماركس “فلنتجنّب أن نكون زعماء دين جديد؛ حتى ولو كان هذا الدين دين المنطق, دين العقل”[27]. وفي رسالة كتبها الإرهابي الفوضوي أميل هنري إلى مدير سجن الكونسيرجري[28], قبل وقت قليل من إعدامه, قال: “لا تعتقدوا ان التحررية عقيدة لا تُنقَدُ, لا تناقش, وتُجلّ من قبل أتباعها كما يُجلّ القرآن من قبل المسلين. كلا: ان الحرية المطلقة التي نطالب بها تطور أفكارنا بإستمرار, ترتقي بها نحو آفاق جديدة وترفعها خارج الأطر الضيقة لأي تنظيم وأي تقنين: نحن لسنا مؤمنين”[29]. وبهذه الرسالة كان يعبر إميل هنري عن موقف التحرريين من “الإيمان الأعمى” الذي كان يسمُ الماركسيين الفرنسيين في ذلك الوقت.
رغم تنوع الفكر التحرري, ورغم تناقضاته ونزاعاته العقائدية التي تدور غالباً حول مشاكل واهية, فإن التحررية هي مجموعة مفاهيم متجانسة. ويمكننا ان نحصر مرتكزاتها الأساسية الجامعة والمتفق عليها في موقف رئيسي هو رفض السلطانL'autorité) ) بمختلف تعبيراته وأشكاله. وقد تفرعت عن هذا الموقف عدة مواقف أخرى مترابطة سنعمد إلى عرضها بإيجاز حتى يتسنى لنا استيضاح الأثر الذي تركته الفوضوية في مفهوم الإرهاب والعلاقة التي ربطتها بمعناه الجديد.
تقوم الفوضوية في أساسها على رفض جميع اشكال السلطان المتمثل بالاشخاص والمؤسسات والقوى التي من طبيعة وجودها ان تسيطر على الانسان الفرد أو على الجماعة وتملي عليهما ارادتها ونفوذها. فكل ما هو تنظيم مقونن يحد من حرية الفرد, وكل ما هو سلطة تقوم على الاكراه يجب محاربتها والغاؤها لأن الفوضوية, كما يتفق على تحديد دورها برودون وباكونين, تهدم وتبني في آن واحد: انها الفوضى العارمة والتفكك الكامل للمجتمع, وبعد هذا الانفصام الثوري الهائل تتحول الفوضوية إلى بناء نظام جديد مستقر وعقلاني يقوم على أساس الحرية والتضامن.
ان هذا الموقف الأساسي الذي تنطلق منه الفوضوية يجعلها في مواجهة مبدئية مع الدولة مفهوماَ وواقعاً لأنها تمثل السلطة, يعني الحكم والسيطرة والاكراه. يقول ستيرنر: “نحن الاثنان, الدولة وأنا, أعداء )... (فكل دولة انما هي طغيان, أكانت طغيان فرد أم طغيان مجموعة ... وليس للدولة إلا هدف واحد: تحديد الفرد وتكبيله والحلول مكانه. وهي تسعى بواسطة الرقابة والبوليس إلى وضع العراقيل في طريق كل نشاط حر, وتعتبر هذا القمع واجباً لأن غريزة البقاء عندها قد فرضته عليها”[30]. ويرد برودون هذه الاقوال بشكل آخر اذ يقول: “ان حكم الانسان للآخر هو استعباد... فكل من يضع يده علي ليحكمني انما هو مراب وطاغية. لذلك فأنا أعلنه عدوي”[31]. أما باكونين, وبالرغم من اتفاقه الايديولوجي مع ستيرنر وبرودون بشأن السلطان وما يمثله من سلطة سياسية وروحية, فانه يذهب إلى نهاية المنطق الرافض للسلطان ويجمع بين فكرة الدولة وفكرة الله. يقول: “ان العنصر الثاني أو المرحلة الثانية للحرية هي سلبية. أنها تمرد الانسان ضد كل سلطان الهي او بشري, جماعي أو فردي. انها اولاً التمرد ضد طغيان الشبح الأول الذي هو اللاهوت, يعني ضد الله. أما بعد, ونتيجة لذلك, فهي تمرد كل واحد ضد طغيان البشر, ضد السلطة الفردية والمجتمعية المتمثلة والمكرسة بالدولة”[32]. يكمّل هذا الموقف الذي تتخذه الفوضوية تجاه الدولة موقف آخر يتناول الديمقراطية البورجوازية التي حلت مكانها أنظمة الحكم المطلق من ملكية واقطاعية, والتي اعتبرت نظاماً سياسياً أكثر عدالة ومساواة وحرية من سابقيه. يقول ستيرنر عن هذا النظام الليبرالي: “ليست الليبرالية سوى استمرار لأحتقار الأنا. صحيح أن كثيراً من الامتيازات قد انتزعت مع الزمن, ولكنها ليست الا لمصلحة الدولة”[33]. والدولة, كما أشرنا, ليست بنظر ستيرنر إلا ذلك الشر الذي يجب استئصاله من حياة البشر والمجتمعات لأنه يسحق الحرية الفردية. فبدل أن تتمثل السلطة بالملك أصبحت تتمثل مع الديمقراطية البورجوازية بالجهاز الحاكم باسم الأمة. أما بالنسبة لبرودون فان نظرية سيادة الشعب التي اطلقتها الديمقراطية, تحمل في ذاتها مبدأ انتفائها. لأنه اذا كان الشعب سيداً حقيقياً فهذا يعني انه لم يعد هناك حكام ومحكومون, وتفقد الدولة كل مبررات وجودها, اذ يقتصر الوجود على المجتمع وعلى النظام الصناعي. وهذا يعني بالنهاية, انه ليس هناك سيد ومسود وليس ثمة دور لمفهوم السيادة. ولكن الواقع غير ذلك بنظر برودون. ففي الديمقراطية البورجوازية, الشعب يملك ولا يحكم, بل هو ملك دون مملكة. وعندما يوكل أمر سيادته إلى الآخرين بواسطة الانتخابات العامة التي تحصل دورياً فذلك يعني أن الشعب يجدد تنازله عن السيادة كل ثلاث او خمس سنوات. ولكن اذا لم يكن برودون منطقياً مع ذاته ومع مبادئه ــ إذ انه ترشح للانتخابات النيابية في حزيران 1848 وفاز فيها, وشارك في الانتخابات الرئاسية في كانون الأول من السنة ذاتها ــ فان باكونين لم يتخل أبداً عن مبادئه, بل كان أكثر واقعية وتطرفاً من جميع الفوضويين, اذ نقل صراعه ضد الدولة والديمقراطية البورجوازية من مجال النظريات إلى ميادين النضال الفعلي العنيف, إذ يقول: “ان النظام التمثيلي ليس مكفولاً لصالح الشعب, بل على العكس فانه يخلق ويكفل وجوداً مستمراً لأرستقراطية حاكمة ضد الشعب”. أما بالنسبة للانتخابات العامة فهي, بنظر باكونين, مجرد خدعة, أو صمام أمان وقناع “تختبئ وراءه سلطة الدولة الاستبدادية المبنيّة على المصرف, على البوليس وعلى الجيش”[34]. انها وسيلة ممتازة لأضطهاد الشعب باسم الارادة الشعبية.
لم يقتصر موقف زعماء التحررية من الدولة على نقد الديمقراطية البورجوازية بل تعداه إلى نقد ألإشتراكية السلطوية بصورة لا تقل عنفاً وحدّة عن النظام الليبرالي. ولكن المهم في ذلك هو ما توصل اليه ميشال باكونين في مواجهته مع كارل ماركس ورفضه للشيوعية. فبالنسبة لماكس ستيرنر مثلاً, هناك مبادئ ومقولات أساسية في الشيوعية يجدر القبول بها, ولكن لا يمكن للبروليتاري أن يتحرر كلياً ويظهر فرديته ما لم يتجاوز الشيوعية. وكذلك يرفض برودون هذه الايديولوجية السلطوية والعقائدية المقوننة لأنها تنطلق من مبدأ تبعية الفرد للمجموع. أما باكونين فقد قاده تطرفه إلى موقف عملي فتح صفحة جديدة في تاريخ التحررية على الصعيد العالمي. فقد حصل خلاف بينه وبين كارل ماركس وأتباعه خلال المؤتمر الشيوعي العالمي الاول الذي انعقد في جنيف عام 1866 )الأممية الأولى(, قال باكونين بعد هذه الحادثة شارحاً موقفه: “انني اكره الشيوعية لانها نفي للحرية ولأنني لا استطيع تصور اي شيء إنساني بدون حرية. أنا لست شيوعياً لأن الشيوعية تمتص كل قوى المجتمع وتركزها في الدولة, ولأنها تؤدي حكماً إلى مركَزَة الملكيةLa propriété) ) بين أيدي الدولة, بينما أريد الغاء الدولة واقتلاع المبدأ السلطوي ووصاية الدولة اقتلاعاً جذرياً. ان الدولة تحت ستار تخليق الناس وتمدينهم, قد استعبدتهم واضطهدتهم واستغلتهم. انني أريد تنظيم المجتمع والملكية الجماعية او الإجتماعية من أسفل إلى أعلى عن طريق التداعي الحر. وليس من أعلى إلى أسفل بواسطة أية سلطة كانت”[35]. وما ان انعقد مؤتمر لاهاي عام 1872 )المؤتمر الإشتراكي العالمي ( حتى كان الطلاق قد تم نهائياً بين باكونين وكارل ماركس أو بين الفوضوية والشيوعية.
من خلال هذا العرض الموجز للايديولوجية التحررية يظهر الفرق واضحاً بين منطلقاتها الأساسية والمنطلقات التي كانت للايديولوجية الجاكوبية أبان الثورة الفرنسية. فالقضية التي ناضل من أجلها الجاكوبيون تختلف تمام الاختلاف عن التي كانت توجه التحرريين وترسم لهم مخططات أعمالهم. فمن جهة, كان ثمة دولة يجب بناؤها على صورة معينة, ومن جهة أخرى هناك من يدعو إلى الغاء الدولة وكل ما يمت اليها وإلى اجهزتها بصلة. الفرق اذن بين المنطلقات والمبادئ الأولى واضح. وطالما نحن بصدد دراسة المعنى الذي يحمله الإرهاب, فان الايديولوجية الأولى قد قادت إلى إرهاب يمارسه الحكام أو الدولة ضد المحكومين أو الشعب وستؤدي الايديولوجية الثانية ــ في حال التطبيق ــ إلى ممارسة الإرهاب من قبل المحكومين او الشعب ضد الحكام وضد المؤسسة الكبرى التي هم عليها قيّمون. من هنا يبرز الانقلاب الجذري في مفهوم الإرهاب الذي كرسته الثورة الفرنسية حتى أواخر القرن التاسع عشر من حيث العلاقة بين الذات الفاعلة والموضوع المفعول به.
لقد سبق وذكرنا عند دراسة الايديولوجية الجاكوبية[36], أن كل إيديولوجية تقضي بأن تتحقق, يعني انها تقتضي وسائل معينة قادرة على جعل النظرية واقعاً متيناً. ومنذ هذا الحين تشكل الوسائل كلا واحداً مع النظرية لا تنفصل عنها تحت طائلة انهيار الايديولوجية بأكملها. فلندع جانباً المفاهيم والتصورات النظرية البحتة ولنفحص عن كثب الاتجاهات العملية التي اقتضتها التحررية حتى يتسنى لنا ابراز علاقة هذه الايديولوجية بمفهوم الإرهاب وبالعناصر الجديدة التي اكتسبتها هذه العبارة. عام 1881, انعقد في لندن مؤتمر عالمي ضم مؤيدي مبدأ رفض السلطة, وخرج على اثره المؤتمرون بمقررات جاءت بمثابة توصيات وتعليمات عملية لجميع المؤيدين في مختلف انحاء العالم. لقد جاء في بيان المؤتمر ما يلي: “ان ممثلي الإشتراكيين الثوريين في العالمين, والمجتمعين في لندن في 14 تموز 1881, وجميعهم مؤيدون لتهديم المؤسسات السياسية والاقتصادية الحالية تهديماً كاملاً وبالقوة..., يتمنون على جميع المنظمات التي تنتسب إلى الجمعية العالمية للعمال ان تأخذ بعين الاعتبار المقترحات التالية: بعد ان خرجنا من المجال القانوني الذي بقينا ضمنه حتى اليوم لندخل في عملنا الميدان غير القانوني الذي هو الطريق الوحيد المؤدي إلى الثورة, يجدر بنا اللجوء إلى وسائل تطابق هذا الهدف ... إن العلوم التقنية والكيميائية قد ادت خدمات جلّى للقضية الثورية وهي مدعوة لأن تؤدي للمستقبل أيضاً خدمات أكبر وأجل. فالمؤتمر يوعز إلى المنظمات والأفراد المنتسبين إلى الجمعية العالمية للعمال ان يعطوا أهمية كبرى لدراسة وتطبيق تلك العلوم كوسيلة للدفاع وللهجوم”[37].
تكمن اهمية هذا البيان, بالاضافة إلى مضمونه الداعي إلى العمل الثوري العنيف, في انه كرس اتجاهاً جديداً في الايديولوجية التحررية. لقد كانت هذه الايديولوجية تقوم بالدعاية, قبل هذا التاريخ, بواسطة الخطب والمؤتمرات والمساجلات والكتابة والاتصال بالأفراد وغيرها من الوسائل السلمية القانونية. ولكن ثبت لها بعد ذلك ان الدعاية الكلامية عاجزة عن تأليب الناس ضد السلطة وأجهزتها بالشكل الكافي لتدمير مؤسسة الدولة وبلوغ الهدف الايديولوجي الرئيسي. فما كان بعدئذ إلا أن هذه الستراتيجية الجديدة في العمل السياسي لم تمر في تاريخ التحررية دون ان تترك فيه اثراً عميقاً. فلقد كثرت الأعمال الإرهابية التحررية في فرنسا مثلاً وفي ايطاليا واسبانيا وروسيا, وليس ادل على ذلك من أعمال رافاشول واميل هنري وفافيان في فرنسا, وكافييرو ومالاتيستا وسيتشاريللي في ايطاليا, أو أعمال الثوريين الروس من أمثال جيليابوف وستبنياك وكالياييف... فقلّ أن تصدر صحيفة يومية في أوروبا وليس فيها ذكر لعملية إرهابية ندر ان يعرف فاعلها, حتى ان كثيراً من الصحف قد كرست زاوية معينة على صفحاتها تحت عنوان “الديناميت”.

يقودنا هذا الوضع الإرهابي إلى ملاحظة عنصر اساسي جديد. فأبان الثورة الفرنسية كان الإرهاب نظاماً في الحكم ووسيلة يقتصر على من بأيديهم زمام السلطة. يعني ان استعمالها أصبح “قانونياً”. أما مع التحرريين فقد أصبح الإرهاب وسيلة تستعمل ضد الحكومات والسلطات, يعني بصورة غير قانونية بل خارجة عن القانون. وهذا ما كان يريده التحرريون ويعملون من اجله عن سابق تصور وتصميم. ذلك لأن القانون بنظرهم هو ثمرة من ثمار السلطة القائمة ونتيجة لها ووسيلة لدعمها. وبحيث انهم يرفضون السلطة والدولة فانهم يرفضون بالنتيجة كل ما يصدر وينشأ عنهما.
ولقد كان للحركة العدمية)[38] (تأثير مباشر على الاعمال الإرهابية التحررية بالأساس, وإلى التيارات الاشتراكية الثورية. لم تكن تعني العدمية )عُرِف بهذه الصفة التحرريون الروس) ([39](نظاماً فلسفياً للعدم بل تحريراً ذاتياً يقوم به الفرد تجاه الأعراف والتقاليد الموروثة. ولم يكن يعني العدمي ذلك الإرهابي أو ذلك الانسان الذي يرفض جميع القيم الانسانية من حيث هي قيم, بل ذلك الانسان الذي يتمرد على الأعراف السائدة التي تحدّ من حريته. ولكنه بالمقابل انسان مخلص في جميع علاقاته الإجتماعية شرط الا يكون ثمة امتياز لطبقة على أخرى ولجنس على آخر, وهو مستعد في سبيل ذلك لكل التضحيات القصوى وحتى التضحية بذاته. أما وقد تبنى الاشتراكيون الثوريون الروس هذا المبدأ, فانهم لم يكتفوا باعلانه نظرياً بل نزلوا بين صفوف الشعب ليحملوه على تأييد مبادئهم, لذلك قادهم هذا الموقف إلى أعمال إرهابية كان لها وقع اعمق بكثير من جماعة التحرريين الأوروبيين. يقول التحرري الفرنسي جان غراف في مذكراته, بعد أن ذكر الاغتيالات التي قام بها العدميون الروس ضد القيصر اسكندر الثاني وضد الجنرال تريبوف قائد مدينة سان بترسبورغ: “لقد ابهرتنا تلك الأعمال, وكنا نحلم بالقنابل, بالاغتيالات وبالأعمال الباهرة والقادرة على سحق المجتمع البورجوازي”[40]. لقد ركز العدميون الروس على استعمال الإرهاب كوسيلة سياسية وأوضحوا موقفهم منه كلما كان لهم سبيل إلى ذلك. ففي برنامج المنظمة الإرهابية العدمية التي اطلقت على نفسها اسم “نارودنايا فولياNarodnaia Volia) ) أو إرادة الشعب أو الإرادة الشعبية”[41], يمكننا الاطلاع على دور الإرهاب في عملها السياسي: “يقوم العمل الإرهابي على تصفية رجال الحكم الاكثر ضرراً منهم, وعلى دفاع الحزب ضد الجاسوسية, وعلى معاقبة الاعمال العنيفة والكيفية التي يقوم بها الحكم والادارة الحاكمة. إن هدف الإرهاب هو الحط من مكانة القوة الحكومية واعطاء البرهان الثابت على امكانية النضال ضد السلطة ثم اثارة الروح الثورية في الشعب وتقوية ايمانه بانتصار القضية, وهدف الإرهاب أخيراً تشكيل كوادر قادرة ومدربة على النضال”[42]. وبالإضافة إلى التوجيهات الثورية التي كانت تصدر تباعاً وفي المناسبات, فقد كان لكتاب التعليم الثوريLe catéchisme révolutionnaire) ) المنسوب إلى باكونين ونيتشاييف الأثر الكبير في تحديد أعمال الثوار ونمط تصرفاتهم مع الرفقاء والجواسيس وأجهزة السلطة ورجالها. وكان من جراء هذا التبني لمفهوم الإرهاب الجديد ان نجحت عملية أغتيال القيصر الكسندر الثاني على يد منظمة “ارادة الشعب” بالإضافة إلى عدد من القتلى بين صفوف الجنود, وعناصر المخابرات الروسية, ونسف الجناح القيصري في قصر الشتاء, وغيرها من الأعمال الإرهابية المشابهة.
وبعد ان انحلت منظمة “ارادة الشعب” على أثر موجة الاعتقالات الواسعة بين صفوفها وعمليات القمع الرهيب التي قامت بها اجهزة الحكومة القيصرية, تشكلت مجموعات قتالية اقتصر نشاطها الأساسي على تصفية الحسابات بين العدميين والثوريين وممثلي السلطة. ففي سنة 1893 عقد بعض القياديين الثوريين مؤتمراً في مدينة ساراتوف بهدف توحيد مختلف الجمعيات في “حزب اشتراكي ثوري” وذلك بمبادرة من كارل كوتشاروفسكي, وصدر على أثره بيان حددوا فيه برنامج النضال جاء فيه: “ان من بين جميع مناهج النضال ضد الحكومة بهدف تحقيق الحرية السياسية, يبدو حالياً أن الإرهاب السياسي هو المنهج الوحيد الذي يقدم لنا الحظ الأوفر بالنجاح ... اننا نقصد بهذا التحديد سلسلة من الاعتداءات على الحكومة تنفذ في المكان والوقت اللذين يراهما الحزب مناسبين, ويدعمها الشعب والمجتمع بمختلف الطرق وذلك بهدف ترويع الحكومة وتثبيط معنوياتها وانتزاع التنازلات التي نريدها”[43].
يتضح مما تقدم أننا أمام نوع جديد من الإرهاب السياسي لم نعهده منذ الثورة الفرنسية: انه الإرهاب الطالع من بين صفوف الشعب نحو رأس الهرم المتمثل بالسلطة والدولة في موازاة مع الإرهاب النازل من رأس الهرم نحو القاعدة الشعبية. انهما النموذجان الرئيسيان لظاهرة الإرهاب السياسي التي ما تزال مستمرة حتى اليوم في جدلية العلاقة بين السلطة والشعب. فمن جهة, إرهاب الدولة او إرهاب الاقوياء من حيث انهم في السلطة, ومن جهة اخرى. إرهاب الجماعات والأفراد أو إرهاب الضعفاء من حيث انهم ليسوا في السلطة او انهم يطمحون اليها. وبين هذين النموذجين تتراوح مختلف اشكال الإرهاب التي نعانيها في التاريخ السياسي والإجتماعي لشعوب العالم. ومهما يكن من أمر, فان بين هذا الإرهاب وذلك فارقاً أساسياً ترتبط به الايديولوجيات التي تحرك كلا منهما. ان إرهاب الأقوياء وسيلة لتثبيت الحكم ودعمه, أما إرهاب الضعفاء فهو وسيلة ضد الحكم القائم : اما لازاحته والحلول مكانه وأما لازالته نهائياً كما تدعي التحررية. وفي كلا الحالين جاءت الثورة الفرنسية لتثبيت فعالية تلك الوسيلة في ممارسة السلطة ولو لوقت محدد, كما استطاعت ثورة 1917 البولشفية أن تستولي على السلطة بعد ان لعب إرهاب الضعفاء, اكثر من نصف قرن, دوراً مهماً في تفكيك النظام القيصري وفي تهيئة الظروف المناسبة لنجاح مثل تلك الثورة.
يمكننا أن نستنتج مما سبق ان عبارة الإرهابTerrorisme) ) قد حافظت على الركنين الأساسيين : السيكولوجي والسياسي, الا أن التحررية والعدمية قد غيّرتا مضمون الركن الثاني وتوجّهاته بصورة جعلت تلك العبارة تشتمل على عنصرين رئيسيين جديدين:
1-  ­ يبدو الإرهاب نسقاً في الصراع السياسي يعتمد على وسيلة الرعب بهدف تغيير نسق سياسي أو نظام سياسي.
2-  ­ انه وسيلة يعتمدها المحكومون, بصورة غير قانونية, ضد الحكام الذين يمارسونها بصورة قانونية. فالإرهاب, بهذا المعنى, هو إرهاب مضاد[44].
عند هذا الحدّ نكون قد احطنا بالمعاني المختلفة التي طرأت على مفهوم الإرهاب وحدّدت أطره ومدلولاته, انطلاقاً من ايديولوجيات ومواقف يمثل كل منها بحد ذاته نموذجاً معيناً من ظاهرة الإرهاب وبشكل عام. أما في التجربة الثورية البولشفية فان مفهوم الإرهاب قد عايش النموذجين السابقين معاً. وكان للمواقف السياسية الفعلية والاجراءات العينية التي نتجت عن نضالها, دور حاسم في فهم الإرهاب واعطائه المضمون المناسب لكل ظرف.

الإرهاب في تجربة الثورة الروسية
حتى نهاية القرن التاسع عشر كانت ظاهرة الإرهاب قد اكتملت معالمها الموضوعية واتضح معناها الإجتماعي / السياسي, اذ أن ما قدمته الثورة الفرنسية والحركتان التحررية والعدمية لمفهوم الإرهاب كان كافياً لتقرير العناصر الأساسية والمركبات الثابتة التي من شأنها تحديد مضمون تلك العبارة من حيث دلالتها على وسيلة عنيفة تستعمل بهدف سياسي. بيد أنها قد استمرت, منذ بداية القرن العشرين حتى يومنا هذا, في أغواء بعض المجموعات الثورية والحكومات للوقوع في تجربتها, وفي تحريض الايديولوجيات المعاصرة إلى اتخاذ موقف ازاءها, أما مؤيد وأما رافض.
لقد كان للتجربة الثورية الروسية أثر بالغ الأهمية في الحركات الثورية وايديولوجيتها في القرن العشرين. ويعود أحد اسباب ذلك, ليس فقط لأنها تتوجت بنجاح ثورة 1917 البولشفية, بل للمثال الذي قدمته لشعوب العالم في اختيار الوسائل والطرق السياسية والعسكرية التي من شأنها ان تقود العمل الثوري إلى النجاح. أن ما يهمنا في هذا المجال هو مسألة الإرهاب في ممارسة العنف السياسي من قبل الثورة الروسية, تلك المسألة التي تصدى لمعالجتها لينين وتروتسكي بشكل خاص واتخذا منها موقفاً يقتضي ابرازه واستخراج معناه.
عند استعراضنا الايديولوجية التحررية قلنا انها قد انشقت عن التيار الشيوعي الذي كان يقوده كارل ماركس. وذلك على اثر الخلاف الذي حصل بين هذا الأخير وميشال باكونين خلال المؤتمر الاشتراكي الذي انعقد في لاهاي عام 1872. صحيح ان التحررية تؤمن بالأفكار الاشتراكية وتتبناها فاذا كانت الفوضوية تتفق مع التيارات الاشتراكية في تشخيص المرض الإجتماعي الكامن في العلاقة بين العمال وأرباب العمل, في النظام الطبقي وفي استغلال مالكي وسائل الانتاج للعمال المنتجين, فهي ترفض, بالمقابل, جميع انواع السلطة والقيود الإجتماعية والتنظيمية التي تؤدي إلى الحدّ من حرية الانسان المطلقة وتوجب عليه الخضوع للسلطة, اية سلطة مهما كان نوعها, حتى ولو كانت سلطة العمال على الهيئة الإجتماعية: سلطة البروليتاريا. من هنا كان الخلاف الناشئ بينها وبين باقي التيارات الاشتراكية, وبالمناسبة بينها وبين الشيوعية, خلافاً قائماً على طبيعة العمل السياسي ونوعيته وهدفه الواقعي المحسوس. وهذا ما يفسر جانباً سياسياً من موقف كل من التحررية والشيوعية ازاء الإرهاب.
لقد صرف لينين جل اهتمامه, كما هو معروف, في مسألة تنظيم الثورة الشيوعية ورسم الخطط والمناهج العملية لها حتى يتحقق نجاحها وحتى تتم السيطرة على السلطة في البلاد. وكانت الأعمال الإرهابية التحررية, بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, تتوالى وتشتد, كما كانت تشتد معها اعمال القمع والتنكيل من قبل الحكم القيصري ضد جميع الحركات الاشتراكية والتنظيمات الثورية دون تمييز, لأنها وحدها المسؤولة عن أعمال العنف وتفجير الأحقاد بين صفوف الشعب. فكان على لينين, والحالة هذه, أن يتخذ موقفاً جذرياً من الإرهاب كوسيلة من وسائل العمل السياسي: هل يتبناه ام يرفضه؟ وفي هذا الصدد كان عليه ان يتصدى للفوضوية لأنها كانت المحرك الرئيسي لجميع عمليات الإرهاب في روسيا القيصرية.
في عام 1901 كتب لينين عن التحررية بعض ملاحظات جاءت كما يلي: “في مدى 35­40 سنة )باكونين والمؤتمر الاول 1866 (من وجودها )ومنذ ستيرنر قبل ذلك بكثير(, لم تقدم التحررية شيئاً سوى بعض العموميات ضد الاستغلال. هذه الجمل هي قيد التداول منذ أكثر من 2000 سنة. ينقصها بعد:
1­-  ادراك أسباب الاستغلال.
2­-  ادراك تطور المجتمع المؤدي إلى الاشتراكية.
3­-  ادراك صراع الطبقات بإعتباره قوة خلاقة في تحقيق الاشتراكية.
)... (ان التحررية مذهب فردي بورجوازي مقلوب على قفاه. فالفردية هي القاعدة الفلسفية للتحررية. انها ترفض مبدأ قوة الوحدة والتنظيم في السلطة... التحررية هي نتيجة اليأس في تاريخ أوروبا الحديث. ما هي النتيجة التي اعطتها الفوضوية؟
1­-  لا عقيدة, لا تعليم ثوري, لا نظرية.
2­-  تجزئة الحركة العمالية.
3­-  فشل كامل في تجارب الحركة الثورية )البرودونية 1871, الباكونينية 1873(.
4­-  خضوع الطبقة العمالية للسياسة البورجوازية تحت ستار الرفض لكل شكل من أشكال السياسة[45].
إن اهم ما يفيدنا هنا من ملاحظات لينين حول التحررية, هي مسألة التنظيم: تنظيم العمل الثوري على ضوء الادراك الشامل والعميق لطبيعة القضية التي يناضل العمال من اجلها, لنوعية الشروط المفروضة على فعل المواجهة في النضال السياسي الثوري. ان رفض الفوضوية لمبدأ السلطة ولجميع اشكال التنظيم انما هو موقف فردي يؤدي, بنظر لينين, إلى بعثرة القوى وتفكيك اللحمة المفروض توفرها لدى كل مجموعة ذات عقيدة تناضل من اجلها لا سيما وان النضال لن يستثني طريق الثورة المسلحة لتسلم السلطة. ولقد ركّز لينين على هذه الناحية الرئيسية في معرض نقده للفوضوية في مناسبات عديدة. ومن أهم ما كتب في هذا الصدد هو ما جاء في مقالته التي نشرتها صحيفة "نوفايا يتسن"في 25 تشرين الأول 1905. ففي تلك الفترة قدّم التحرريون طلباً للجنة التنفيذية لمجلس سوفيات مندوبي العمال يطلبون فيه قبول ممثلين عنهم في مجلس المندوبين, فرفضت اللجنة التنفيذية ذلك الطلب. فما كان من لينين إلا أن كتب مقالته تلك مؤيداً فيها موقف اللجنة وموضحاً السبب الذي من أجله كان ذلك الرفض واجباً. يقول: “لقد عرضت اللجنة التنفيذية نفسها اسباب قرارها كما يلي:
1­-  باعتبار العرف الدولي, لا يعترف أصحاب الفوضوية بالنضال السياسي كوسيلة لبلوغ فكرتهم المثلى, فلن يتمثلوا في المؤتمرات والمحافل الاشتراكية.
2­-  كل تمثيل يجب ان ينبثق من حزب, والحال ان الفوضويين لا يشكلون حزباً.
)... (ان سوفيات مندوبي العمال ليس برلماناً ولا جهازاً للادارة الذاتية, بل هو تنظيم قتالي يرمي إلى أهداف معينة )... (اما التحرريون فسيكونون فيه عنصراً سلبياً وليس إيجابياً : لن يقدموا له سوى التفكك وسيضعفون فيه بالتالي امكانية المجابهة )... (أن الاشتراكيين في مؤتمراتهم الدولية, لم يقرروا عبثاً رفض قبول الفوضويين في صفوفهم. ان بين الاشتراكية والفوضوية هوة سحيقة يسعى عملاء البوليس الجنائي والصحف المأجورة لحساب الحكومات الرجعية إلى ردمها دون ان يفلحوا. ان مفهوم العالم لدى التحرريين مفهوم بورجوازي مقلوب على قفاه. ونظرياتهم الفردية ومثالهم الفردي على تناقض قاطع مع الاشتراكية”[46].
قد يبدو هذا الموقف الذي اتخذه لينين من التحررية غريباً, بل ومناقضاً لمساعيه من أجل القيام بثورة تطيح بالحكم القيصري وبرجاله البورجوازيين الرجعيين. لا سيما وأن التحرريين قد قاموا بأعمال ثورية عنيفة ضد من يعتبرهم لينين, ايديولوجياً وتاريخياً, اعداء له وللمثال الذي يناضل من أجله. ولكن اذا امعنا النظر في هذا الموقف, على ضوء التكتيك السياسي الذي كان يخطط له لينين, مرحلة بعد أخرى من مراحل نمو الوعي الطبقي والنضج الثوري في روسيا, لتبدلت الامور رأساً على عقب واتضحت معالم الرفض اللينيني للإرهاب التحرري. فالتحررية لا تطمح اساساً إلى تسلم السلطة, بل على العكس, فهي ترفض السلطة في جميع اشكالها, وهذا ما أدى بالتحررية إلى رفض التنظيم الجماعي للنضال السياسي. غير ان طبيعة نضال من هذا النوع تفرض على الافراد الملتزمين به نسبة من الطاعة لمن هم في مركز التخطيط والامر والا بطلت فعاليته. وهذا ما عناه لينين عندما رفض التحررية لأنها تفكك تنظيم الاشتراكيين وتضعف امكانيتهم في المجابهة. واما اذا كانت التحررية تدرك ما للنظام الرأسمالي القمعي من سيئات, وإذا كانت تدرك مدى الاستغلال الذي يلحق بالعمال المنتجين في ظل الاقلية البورجوازية, فهي بالمقابل لم ترسم اي مخطط لنظام بديل ولصيغة اجتماعية وسياسية مثالية, او على الاقل صيغة أقل سوءاً. من هنا انها لم تقدم شيئاً, كما يقول لينين, سوى بعض العموميات التي يقل نفعها عندما لا تكون مؤيدة ومدعومة بخطة عملية منظمة للنضال السياسي في سبيل هدف واضح المعالم يقوم على رؤيا معينة لنظام جديد. أما لينين, فان له موقفاً آخر. فهو لا يرفض السلطة على الاطلاق, بل يرفض سلطة الحكم القيصري وما يرافقها من استغلال وقمع واضطهاد. ويدعم رفضه هذا بواقعية عملية تعبر عنها اجراءات ومخططات يتوسم فيها القدرة على اسقاط الحكم القائم وتسلم السلطة مكانه. انه يخطط للثورة وما تقتضيه من تنظيم دقيق لمختلف النشاطات والاجهزة السياسية والعسكرية والادارية. فالتنظيم الثوري يفرض انضباطاً تاماً من قبل المؤيدين والمحازبين, لأن الاخطاء التي تحصل بسبب التجاوزات والتصرفات الفردية قد تؤدي إلى فشل الثورة في المهد او إلى تفككها او إضطهاد عناصرها من قبل السلطة القائمة. وبالأخص اذا كانت هذه السلطة, كالتي كان يعمل تحت ظلها لينين, تتربص بأعدائها وتتحين الفرص للإيقاع بهم بين لحظة واخرى. أن هذه المسألة الدقيقة لم تكن مطروحة بالنسبة للتحررية بقدر ما كانت مطروحة بالنسبة للينين. فبالرغم من ان الاعمال التحررية الإرهابية كانت تتعرض للقمع الشديد من قبل البوليس الروسي, فإن ذلك القمع بقي محصوراً ببعض الافراد المشبوهين او الذين يقع عليهم الجرم المشهود, اذ ان العمل الفوضوي لا يتعدى في تنظيمه والتخطيط له سوى البضعة الأشخاص الذين ينفذونه. وتجدر الملاحظة هنا ان هذا الواقع لم يكن نتيجة تكتيك سياسي وعسكري أو نتيجة خطة منظمة للحفاظ على السرية, بل مجرد أعمال فردية عفوية كما سبق وأشرنا.
انطلاقاً من هذه النقطة يبدو الفرق واضحاً بين لينين والتحررية أو بين هذه الاخيرة والماركسيين بصورة عامة. فبالنسبة لماركسيي تلك الفترة, لم يكن الإرهاب التحرري إلا سلاحاً تتركز أهميته على الواقع الذي يتركه في النفوس وليس على القضية التي يستعمل من أجلها. وبعد عشرات السنين من الممارسة الفعلية, لم تنجح التحررية إلا بضرب الأفراد وليس المؤسسات, وبالقضاء على بعض الرأسماليين وليس على الرأسمالية القادرة على افراز الخَلَف لأي كان. لقد نجحت في تصفية القيصر الكسندر الثاني, ووزير الخارجية فون بليف, والغراندوق سيرج... ولكنها لم تسقط الحكم ولم تلغ مبدأ السلطة من روسيا. غير ان هدف لينين والقياديين الماركسيين لم يكن القيصر بالذات ولا الحكومة القيصرية بل النظام القيصري ومؤسساته والسياسة القيصرية والاقتصاد الرأسمالي. وهذا لن يتم الا بعد عمل دؤوب ومنظم وطويل النفس.

 

أما اذا لم يكن للتحررية شيء تخسره في ممارسة الإرهاب الفردي: لا هدفها الواقعي الذي تسعى لتحقيقه. ولا تنظيماتها ولا أجهزتها ولا شيء من هذا القبيل, فأن لدى لينين أشياء عديدة يخسرها في ممارسة الإرهاب الفردي. انه وسيلة تنقلب على الذين يستعملونها, كما يرى لينين, ويؤدي إلى تأخير عملية تنظيم الجماهير تنظيماً ثورياً خاضعاً لسلطة ادارية مركزية. فاذا كان حمل السلاح من قبل الافراد واستعماله ضد رجال السلطة كافياً لانتصار الثورة فلا يعود ثمة معنى لوجود الحزب, ويقود هذا الواقع, بالتالي, إلى تفكك المؤيدين والمحازبين وإلى تهورهم في أعمال إنتحارية فردية لا تؤدي المنفعة المرجوة, لا بل تسهل على السلطة القائمة مهمة القضاء على منفذيها. ولهذا السبب لم يسمح لينين لنفسه ولحزبه بارتكاب الاخطاء المميتة وتعريض الثورة للفشل. لقد نجح تروتسكي في ابراز هذه الناحية من الموقف الماركسي ازاء الإرهاب الفردي الفوضوي, وذلك في مقالة نشرتها له مجلة الكفاحDer kampf) ) النمساوية عام 1911, حيث يقول: “هل باستطاعة الاغتيال ان يلقي الاضطراب في اوساط الحكم ؟ هذا متعلق بالظروف السياسية الواقعية. وفي مطلق الاحوال, لن تكون مسألة الاضطراب هذه الا قصيرة الأمد. فالدولة الرأسمالية لا تقوم على وزراء ولا يتم القضاء عليها بمجرد القضاء على وزرائها, لأن الطبقات التي تخدمها تلك الدولة قادرة على ايجاد خدام آخرين, فتبقى آليتها وتستمر بالعمل. اما الاضطراب العميق الذي تحدثه الاغتيالات فإنما يكون في صفوف الطبقة العمالية. واذا كان التسلح بمسدس كافياً لادراك الهدف, فما الفائدة اذاً من جهود صراع الطبقات ؟ واذا كانت حفنة من البارود والرصاص كافية لاختراق رأس العدو, فما الفائدة من التنظيم الطبقي؟ واذا كان تخويف أصحاب المقامات العليا ممكناً بفرقعة انفجار. فما الفائدة من الحزب؟)... ( ان الإرهاب الفردي مرفوض بالنسبة الينا لأنه يحط من قدر الجماهير ويحبّب اليها عجزها ويوجه انظارها وآمالها نحو المنتقم الكبير, ذلك المحرر الذي سوف يأتي يوماً ليتم عنها عملها”[47].
بيد أننا لو تفحصنا الأعمال الإرهابية الفوضوية عن كثب لظهرت لنا أمور لم نشر اليها عند عرضنا الموقف الشيوعي من التحررية. ذلك ان العمل الإرهابي, في حد ذاته, ليس من الأمور السهلة والبسيطة اذ ليس من العبث ان يعرض الإرهابي نفسه للخطر وغالباً للموت. ان من يعرض نفسه للموت بملء ارادته ووعيه لا يمكن ان يكون سوى واحد من اثنين : فأما ان يكون معتوهاً او ان يكون مؤمناً بقضية وملتزماً بها التزاماً يدفعه إلى الموت في سبيلها. والإرهابيون التحرريون جماعة ذات موقف سياسي ملتزم. وهذا ما لم يغب عن بال لينين, اذ انه بالرغم من رفضه للايديولوجية التحررية وللعفوية البدائية التي تسودها, فقد وجد في أعمال العنف الصادرة عنها معنى ايجابياً. ففي معرض حديثه عن الاضطرابات وأعمال العنف المختلفة التي حصلت في روسيا بين عام 1860 وعام 1890, قال: “نتبين من ذلك ان العنصر العفوي هو, في العمق, شكل للوعي. فالفتن البدائية تعبر عن ثمة يقظة للوعي. لقد فقد العمال ايمانهم السابق في استمرار النظام الذي كان يكبلهم, وقد بدأوا, ولا اقول بدأوا يدركون بل يشعرون بضرورة المقاومة الجماعية, وقطعوا صلتهم بالخضوع الذليل للسلطات. ومع ذلك, كانت تلك الاعمال تعبيراً عن اليأس والانتقام اكثر مما هي نضال”[48]. وبديهي ان نفهم عبارة “نضال”, التي ذكرها لينين, بمعنى المواجهة المنظمة والهادفة إلى تحقيق هدف ايديولوجي معين, والتي يقوم بها الشعب او جماهير الطبقة العمالية. ولكن لو رحنا ابعد من ذلك في استطلاع موقف لينين من الإرهاب الفردي, وموقف الماركسيين عامة, لوجدنا ثمة تعاطف ضمني بلغ في بعض الاحيان حد المجاهرة به, ولكن دون التورط في محاذيره وأخطاره تورطاً يشكل نقضاً للمواقف السابقة وللايديولوجية الشيوعية.
لقد بدأت نشأة لينين الثورية في مدينة سامارا حيث بدأ في ممارسة مهنة المحاماة. وكانت تلك المدينة من اهدأ مدن روسيا اذ لم يكن فيها طلاب ولا بروليتاريا. وهذا ما جعل السلطة في اواخر القرن التاسع عشر, ترسل اليها السجناء السياسيين الذين يتم اطلاقهم من السجون للاقامة الجبرية فيها. في تلك الفترة, أي عام 1892, انتمى لينين إلى الماركسية, ولكنه استمر في زياراته المتكررة للمناضلين القدامى في صفوف مجموعة نارودنايا فوليا الإرهابية, وذلك بهدف معين: ان يتعلم أصول ممارسة الأعمال النضالية على يد الذين مارسوها واختبروها. فكان يغمرهم بالاسئلة التي تتناول العمل السري : الجوازات المزورة, كلمات المرور, الحبر السري, تطوع المناضلين, الكفاح ضد المخبرين السريين... الخ. وعندما شعر بأنه قد حقق غايته انقطع عن زيارة هؤلاء المناضلين الذين اهملوا التاريخ والذين لم يبق لديهم شيء يقدمونه له. وبعد مرور ثلاث سنوات عمد لينين إلى نشر افكاره الثورية بين العمال في مدينة سان بترسبورغ حيث كانت تسود موجة اضرابات واضطرابات, ومن بين تلك الافكار كان يدلي من وقت لاخر بالتعليمات والدروس التي لقنه اياها قدماء الإرهابيين في سامارا. وكان من نتيجة هذه النشاطات أن زج لينين في السجن مع اكثرية أعضاء المجموعة التي أنشأها.
لقد تركت هذه النشاة في نفس لينين أثراً عميقاً ظهر في كتاباته ومواقفه في مناسبات معينة كان من اهمها حادثة يوم الاحد الأحمر التي حصلت في 22 كانون الثاني )9 كانون الثاني حسب التقويم الغريغوري (من عام 1905, عندما فتح رجال البوليس النار على عمال سان بترسبورغ الذين كانوا يطالبون القيصر بجعل يوم العمل ثماني ساعات وهم ينشدون: ليحم الله القيصر. ولقد سقط في تلك المجزرة خمسمئة قتيل وثلاثة آلاف جريح بمن فيهم النساء والاولاد. لقد اثرت هذه الحادثة على لينين إلى درجة انه كتب رسالة إلى لجنة القتال التابعة للحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في سان بترسبورغ, يصعب التمييز من خلالها بينه وبين الإرهابين القدماء الذين تتلمذ على ايديهم. يقول: “أعزائي الرفقاء. أشكركم لإرسالكم لي : 1 (تقرير لجنة القتال. 2 (التقرير عن تنظيم الاجراءات العصيانية. 3 (مخطط التنظيم. )... (ان جميع هذه المخططات, وجميع هذه التصاميم المتعلقة بتنظيم لجنة القتال توحي بأنها حبر على ورق )...( في ظروف كهذه, ان المخططات والمناقشات والجدال حول وظائف وحقوق لجنة القتال, كلها امور في غير أوانها )... (أرى, والخوف ينتابني, انكم تتكلمون عن القنابل منذ اكثر من ستة أشهر دون أن تصنعوا منها واحدة )... (دونكم والشباب. شكلوا على الفور, في كل مكان, مجموعات قتالية. شكلوا منها بين صفوف الطلاب وخاصة العمال. فلتشكل فوراً فصائل من 3, 10و30 رجلاً, وليتسلحوا فوراً بأنفسهم, منهم بالمسدس, منهم بالسكين)... (يجب على جماعة الاعلام ان يتولوا اعطاء كل فصيلة تعليمات عن القنابل السهلة الصنع, وايضاحات أولية عن نوع العمل, وان يطلقوا بعدئذ أيديهم للعمل. ثم يجب على الفصائل ان تبدأ فوراً تدريباتها العسكرية بعمليات قتالية. بعضها يتولى قتل جاسوس أو نسف مركز للبوليس, ويتولى البعض الآخر مهاجمة مصرف ما من أجل الاستيلاء على الأموال الضرورية للعصيان المدني)...( لا تخشوا هذه المحاولات العدوانية. فقد تكون بالطبع, أعمالاً منحطة. ولكن سيكون هذا شر الغد. ان السوء الذي نعانيه اليوم هو في خمولنا, في تصلبنا العقائدي, في جمودنا العاقل وفي خوفنا من المبادرة”)51(.
نستنتج مما ورد في هذه الرسالة ان لينين لا يظهر ميلاً نحو الإرهاب او تعاطفاً ضمنياً معه وحسب, بل انه يدعو إلى الاعمال الإرهابية بكل عزم وصراحة. لقد أصبح الإرهاب في هذه الفترة السبيل الوحيد لاعداد المجابهة الكبرى ولتهيئة الأجواء العامة للثورة. قد يبدو هذا الاتجاه وكأنه قد طرأ جديداً على موقف لينين السياسي. أما في الواقع فان لينين اذا كان قد رفض الايديولوجية الفوضوية والإرهاب الفوضوي فأن ثمة إرهاباً آخر يمكننا ان نجد له دوراً مهماً في فكره السياسي وفي الفكر الشيوعي عامة قبل تسلم السلطة عام 1917.
فمنذ عام 1901, اي قبل حادثة يوم الاحد الاحمر بأربع سنوات, ولكن بعد ان بدأ بتنظيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأدرك أهمية التنظيم والانضباط الثوريين وأهمية مشاركة الجماهير في النضال, كتب لينين في الصفحات الاولى من كتابه “من أين نبدأ” ما يلي: “مبدئياً نحن لم نرفض أبداً ولا يمكننا أن نرفض الإرهاب. انه وجه من وجوه الحرب الذي بامكانه ان يتوافق مع مرحلة من مراحل المعركة, وربما لا يمكن الاستغناء عنه في بعض الظروف”[49]. فانطلاقاً من هذا الموقف الجديد يجدر بنا ان نطرح السؤال التالي: ما الذي يميز الإرهاب اللينيني عن الإرهاب الفوضوي ؟ لقد أعطى لينين نفسه جواباً في كتابه “من أين نبدأ” اذ يقول متابعاً ما ذكرناه: “ولكن المشكلة هي في أنهم يقترحون علينا الإرهاب, ليس كعملية من عمليات الجيش المحارب, مرتبطة بنظام النضال بأكمله, وإنما كوسيلة للهجوم قائمة بذاتها, منعزلة ومستقلة عن الجيش. وليس الإرهاب إلا كذلك مع منظمات ثورية محلية وضعيفة, وطالما انه لا يوجد تنظيم ثوري مركزي. لهذا السبب نعلن بكل عزم ان الإرهاب, في الظروف الحالية, سلاح في غير أوانه وغير فعال, من شأنه ان يحيد بالمقاتلين الأكثر حمية عن مهتهم الحقيقية والأكثر اهمية بالنسبة للحركة كلها, وأن يفكك, ليس القوى الحكومية, وانما الحكومة الثورية”. [50]وفي هذا الاتجاه ايضاً كتب تروتسكي في احدى مقالاته التي نشرت عام 1902, معدداً مآثر الثوريين من الرعيل السابق الذي نفذ فيهم حكم الاعدام: “ان هذه الخيالات الموجعة تستصرخ الانتقام, ولكن ليس الانتقام الشخصي: انه الانتقام الثوري. اعدام الأوتوقراطية وليس اعدام وزراء”[51]. وفي مكان آخر يقول: “كانت مسألة الإرهاب بالنسبة الينا, نحن الثوريين الروس, مسألة حياة او موت بالمعنى السياسي للكلمة كما بمعناها الحرفي والشخصي. لم يكن الإرهابي, بالنسبة الينا, بطل الرواية, بل كان انساناً حياً وقريباً منا”[52].
من خلال ما تقدم تبرز الفروقات الرئيسية التي تميز بها الإرهاب الشيوعي قبل ثورة 1917 والإرهاب التحرري. لم يعد الإرهاب الشيوعي تلك المؤامرة التي يحوكها افراد قلة من اجل القضاء على شخصية سياسية او عسكرية ممقوتة, ولم يعد انتقاماً وعملاً يائساً, كما لم يعد ايضاً اجراء عنيفاً للتهويل. لقد أصبح مدخلاً لأعمال فصائل الجيش الثوري. انه عمل ناضج ومدروس من وجهة نظر علاقة التوازن بين القوى. ان زمن البطولات الفردية التي كانت تظن انها تصنع الثورة بقنبلة, قد ولىّ وأصبحت القنبلة عنصراً ضرورياً في عملية تسليح الشعب الذي لن تحصل الثورة بدونه. ان الإرهاب الشيوعي اجراء وقتي مرتبط باستراتيجية وبتكتيك سياسيين وعسكريين يرسمهما ويتبناهما الحزب في نضاله ضد المؤسسات والانظمة, وليس وسيلة وحيدة ومنعزلة يقتصر هدفها على نتيجتها الآنية والسريعة. ان الإرهاب التحرري يدل على وضع سياسي متأخر في البلاد, كما يدل ايضاً على ضعف في القوى التقدمية, أما الإرهاب الشيوعي الذي برز بين عام 1905 و1917 فقد وضع حداً لرومنطيقية القتال الفردي ضد النظام الأوتوقراطي الرأسمالي القائم, واتخذ معنى سياسياً برزت من خلاله قوة الجماهير الثورية وشمولية نضالها. إن ممارسة الإرهاب من قبل الشيوعيين في تلك الفترة, كانت مشروطة بأوضاع وحالات معينة أو, بعبارة أخرى, انها كانت مشروطة بنوعية المعركة, بمكانها وبزمانها. وخلاصة القول, ان الإرهاب الشيوعي مرحلة تكتيكية مر بها البولشفيون خلال نضالهم الثوري إلى ان سنحت الفرصة التاريخية التي أثبتت جدواها, وكان ذلك عام 1917.
لكن مسألة الإرهاب السياسي الشيوعي, لم تنته بقيام ثورة أكتوبر بل استمرت تتفاعل وتتخذ وجوهاً عديدة, وخصوصاً في كتابات لينين. ويمكننا حصر تلك الوجوه المختلفة في اتجاهين رئيسيين:
اولاً: ان مفهوم الإرهاب الذي سبق وأوضحنا ملامحه, وابرزها كونه تكتيكاً من ضمن التنظيم العام للنضال الشعبي, قد تحول إلى أساس عملي للنظرية التي قدمها لينين في حرب المحازبين, وهي وجه آخر لما يسمى بحرب العصابات. وقد برزت بشكل واضح في الحرب الأهلية التي حصلت في روسيا بعد انتصار الثورة وتسلم لينين الحكم.
ثانياً: اذا كان إرهاب الضعفاء, اي الذين ليسوا في السلطة, قد اكتسب معنى سياسياً جديداً مع لينين, غير الذي قدمته التحررية, فان إرهاب الاقوياء, اي الذين في السلطة, قد استمد في القرن العشرين اصولاً ايديولوجية غير التي استمدها في القرن الثامن عشر من الثورة الفرنسية. هذه الاصول يعود الفضل فيها ايضاً إلى لينين الذي اختبر الإرهاب على مستوييه : الضعيف والقوي, قبل تسلم السلطة وبعده. فما هو اذن موقف لينين من الإرهاب السياسي, أبان اضطلاعه بشؤون الحكم؟
بعد ان استلم لينين السلطة بفترة وجيزة, قال في احدى خطبه: “سوف نبني الآن, على أرض رفعت منها انقاض التاريخ, صرحاً راسخاً ومشرقاً للمجتمع الاشتراكي, وسوف نخلق نموذجاً جديداً للدولة لم يعرفه التاريخ بعد, نموذجاً مدعواً من قبل ارادة الثورة إلى تنظيف الأرض من كل استغلال, من كل عنف ومن كل عبودية )... (من الآن وصاعداً لن يتحول الفكر والعبقرية البشريان إلى وسائل عنف واستغلال”[53]. بيد ان هذا الطموح سرعان ما اصطدم بالواقع المعاش وبالوسائل المحدودة. فالمشاكل التي نجمت عن الثورة. لم تكن تكفي العودة إلى العقيدة حتى يحصل حلّها. ذلك ان بناء الاشتراكية, كما قال لينين نفسه “مشروع جديد, لم يسبقه مثيل في التاريخ ولم يعالج موضوعه اي كتاب”[54]. لقد بذلت الايديولوجية الشيوعية قصارى جهدها, حتى ذلك الحين, في انجاح عمل انقلابي بحت يهدف إلى تهديم النظام القائم آنذاك. أما وقد برزت الآن مشكلة البناء فان من شأنها اضافة صعوبة أخرى على الذهنية المتمرسة على الهدم بصورة شبه كاملة. لقد خمد غليان الاندفاع والطموح الثوريين, وانحصر نشاط المنتصرين, في اكتوبر, في أعمال روتينية يومية, تفصيلية ومبتذلة. تجري في ظروف فائقة الصعوبة : في بتروغراد, مثلاً, واجهت الحكم الجديد مقاومة ضارية من قبل البورجوازيين, وامتدت ذيولها إلى موسكو وكييف وغيرها من المدن والمقاطعات الروسية. أضف إلى ذلك أعمال التخريب وعرقلت اجهزة الادارة الحكومية من قبل بعض الموظفين وكبار الضباط, واقفال البنوك واضرابات العمال واقفال الشركات والمعامل التي أضافت إلى تلك المشاكل مشكلة البطالة التي بلغ عدد ضحاياها مئات الألوف من العمال. ولقد كان للتدخل السياسي والعسكري الخارجي أثر عميق في مسيرة الحكم الثوري, أدى في كثير من الأحيان إلى تعريض النظام بأكمله للسقوط.
في هذا الجو الإجتماعي والسياسي العام كان على لينين ومعاونيه في السلطة ان يبدأوا أعمال البناء في روسيا السوفياتية : البناء الإجتماعي والبناء السياسي والاقتصادي. وكانت المهمة آنذاك , ليس في اصلاحات جزئيّة وتعديلات طفيفة على النظام القديم, بل في اعادة بناء جذرية لجميع مقومات المجتمع الروسي: في النظم, في القوانين, في الحريات, في نظام الطبقات, في تنظيم الرأسمال وفق المفاهيم الجذرية الجديدة. بعبارة أخرى, كان على المجتمع الروسي ان يستوعب المفاهيم الجديدة ويتأقلم مع الأوضاع الجديدة بصورة فورية, كما كان على البلاشفة ان يخوضوا سباقاً مع الزمن في ارساء القواعد الجديدة والدفاع عنها. وتجاه هذا الواقع الجديد, اثبتت الديمقراطية الشعبية, التي كانت شعار الثورة قبل 1917, تقصيرها في ردم الهوة التي تفصل النظرية عن التطبيق.


ان اول اجراء احترازي قام به جهاز الثورة الحاكم من اجل الحفاظ على الحكم ضد أعمال التخريب والثورة المضادة هو انشاء الجهاز البوليسي “التشيكا”. وفي هذا الصدد نشر في 10 كانون الاول 1917 المرسوم التالي نصه: “بموجب المرسوم الصادر في 7 كانون الاول 1917 عن مجلس سوفيات مندوبي الشعب تم انشاء التشيكا الروسية للنضال ضد التخريب والثورة المضادة”[55]. ولكن عمل هذا الجهاز بقي محصوراً في نشاطات ادارية وأحياناً في اجراءات لم تتجاوز اوامر القبض على المشبوهين والتحقيق معهم. وقد استمرت البولشفية في تسامحها طيلة الاشهر الثلاثة الأولى تقريباً من تسلم السلطة. وقد ظهر هذا التسامح في اطلاق سراح المسجونين او الاسرى الذين تم القاء القبض عليهم من قبل الجيش الاحمر, كما حصل مثلاً مع طلاب المدرسة الحربية الذين حاولوا القيام بانقلاب على الحكومة البولشفية. بيد انه تم القضاء على تلك الحركة في المهد وأفرج عن المعتقلين الذين عادوا إلى الانضمام إلى صفوف الثورة المضادة. وكذلك الأمر بالنسبة للجنرال كراسنوف قائد قوات الثورة المضادة الذي كان مكلفاً باستعادة بتروغراد من أيدي الثوار الحمر. وقد أفرج عنه لقاء وعد بعدم التعرض للثورة, ولكنه عاد وانضم إلى صفوف القوى المعادية للبولشفية التي كانت تتشكل في جنوب البلاد. والامثلة على ذلك التسامح كثيرة ولا يتسع لها المجال هنا.
غير ان الاخطار المحدقة بالثورة أصبحت تضيق الخناق شيئاً فشيئاً, مما جعل القادة البولشفيين يدركون مدى ضرورة الاختيار بين حياة الثورة وموتها. هذا ما أكده لينين في قوله في 8 آذار 1918: “لن يغيب عن بال الماركسيين, بأن العنف يلازم الانهيار الكامل للرأسمالية وولادة المجتمع الاشتراكي”[56]. وفي نفس الشهر من ذلك العام صدر عن “التشيكا” المركزية القرار التالي:
1­-  أننا نهيب مجالس السوفيات المحلية ان ينشئوا أجهزة “تشيكا” فوراً.
2­-  ان “التشيكا” تحارب الثورة المضادة والدسائس واساءة استعمال السلطة.
3­-  من الآن وصاعداً, ان اتخاذ اجراءات التوقيف والمداهمة والمصادرة وغيرها من الاجراءات المتعلقة بالجرائم الملحوظة أعلاه, يعود الحق فيها إلى “التشيكا” فقط, كما في موسكو كذلك في أي مكان توجد فيه”[57].

 

لقد جاء هذا القرار بمثابة رد احترازي آخر على أعمال العنف والإرهاب التي كان يمارسها أعداء الثورة ضد الجيش الاحمر وقياديي البولشفية. ان اعطاء الحق المطلق لأجهزة التشيكا المحلية باتخاذ الاجراءات الضرورية يهدف إلى الاسراع في تنفيذ الاحكام دون الوقوع في متاهات المشاورات الادارية والقانونية التي تفرضها الديمقراطية. وبالرغم من ذلك فأن الحكومة البولشفية لم تطلق لأجهزتها ولمؤيديها سبيل الانتقام وأعمال الإرهاب الا بعد شهرين من هذا التاريخ, وذلك عندما استفحل أمر الإرهاب البورجوازي واغتيل فولودارسكي, احد قياديي الثورة, وتعرض لينين وتروتسكي لمحاولات اغتيال كادت تودي بحياتهما. وقد زاد الوضع الداخلي خطورة اندلاع الحرب الاهلية وبدء التدخل الخارجي مع نزول اليابانيين في فلاديفوستوك )نيسان 1918 (والخلاف بين النظام الثوري والتشيكوسلوفاكيين )في أيار (وتدخل الانكليز في مورمانسك )حزيران(.. في هذه الفترة بالذات كتب لينين إلى زينوفييف احد قياديي الثورة والمسؤول عن أجهزة التشيكا في بتروغراد ­ وذلك بمناسبة مقتل فولودارسكي, رسالة يقول فيها: “لقد علمنا اليوم في اللجنة المركزية ان العمال في بتروغراد قد أرادوا الرد على اغتيال فولودارسكي بإرهاب جماهيري فلم تدعهم يفعلون ليس انت شخصياً ولكن رجال التشيكا في بتروغراد. أنني اعارض بحزم )..( سيعتبرنا الإرهابيون كخرق مهلهلة. ان عَسْكَرة الجماهير لهي على جدول الاعمال. يجب تشجيع الاندفاع الجماهيري والإرهاب الجماهيري ضد اعداء الثورة, وخاصة في بتروغراد حيث يجب ان يكون المثل حاسماً”[58]. ولم يكن موقف لينين هذا سوى حلقة من سلسلة تشابكت حلقاتها لخلق جو عم روسيا كلها, ويطالب بمبادلة الإرهاب بالإرهاب. فقد كتبت احدى الصحف المؤيدة للبولشفية مقالاً حول محاولة اغتيال لينين, جاء فيه: “كل نقطة دم من لينين يجب ان يدفع ثمنها البورجوازيون والبيض مئات القتلى )... (ان مصالح الثورة تفرض الابادة الجسدية للطبقة البورجوازية. انهم بلا رحمة فلنكن بلا رحمة”[59]. وما ان حل شهر آب حتى أعلن زينوفييف الإرهاب في بتروغراد. وفي اوائل أيلول حصلت في بتروغراد وفي موسكو وبعض الضواحي مجازر قامت بها الجماهير المؤيدة للثورة ­ تماماً كما حصل في باريس أبان حكم الإرهاب الجاكوبي ­ )63 (وكانت حصيلتها حسب المصادر الرسمية 800 قتيل من الجيش الابيض المناهض للثورة ومن البورجوازيين الذين كانوا محتجزين في سجون بتروغراد وحدها. ولكن لم تنته حملة الإرهاب بعد مجازر أيلول كما ادعت بعض الصحف في ذلك الوقت. يقول فيكتور سيرج بهذا الصدد: “لم يتوقف الإرهاب بعد ايام أيلول, بل خفف حدته وأصبح نظاما”[60]. ومعنى ذلك ان الاجراءات الإرهابية قد أصبحت وقفاً على الدولة وعلى مؤسساتها واجهزتها البوليسية وعلى رأسها التشيكا. ففي الخامس من أيلول عام 1918 صدر مرسوم عن مجلس سوفيات مندوبي الشعب, جاء فيه: “بعد الإستماع الى التقرير الذي قدمه رئيس التشيكا عن النضال ضد أعداء الثورة والتخريب, ونظراً للحالة الراهنة, يعتبر مجلس سوفيات مندوبي الشعب ان ضمان الامن في الداخل بواسطة الإرهاب هو ضرورة رئيسية )... (وحتى نحمي الجمهورية السوفياتية من اعدائها الطبقيين يجب ان نعزل هؤلاء في معسكرات الاعتقال. وكل شخص قد اشترك في تنظيمات الحرس الابيض, او في مؤامرات او في اعمال عصيانية, يجب ان يُرمى بالرصاص”[61].
لقد ارتدى إرهاب الدولة, أبان حكم لينين, طابعين رئيسيين: الاول هو ان الاشكال التي اتخذتها عمليات القمع الإرهابية والشمول التي اتصفت به كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالظروف العسكرية التي كانت تمر بها البلاد. فكلما اشتدت الأزمة وعنفت المعارك التي كان يخوضها الجيش الاحمر كانت ترافقها حملات إرهابية داخلية واسعة النطاق, وكلما حقق الحكم البولشفي انتصارات حاسمة واتجهت البلاد إلى نسبة معينة من الاستقرار كانت تخف وطأة الإرهاب العلني وتهبط نسبة احكام الاعدام إلى حدها الادنى, وتقتصر أعمال القمع على احتجاز الرهائن كي تتم تصفيتهم عندما تحتدم الظروف. أما الطابع الثاني فهو ان الإرهاب قد اتخذ صفة الصراع الطبقي بصورة واضحة. يتضح ذلك من خطاب ألقاه تروتسكي بعد أحداث أيلول بوقت قصير إذ قال: “تهدف المعركة التي نخوضها إلى معالجة السؤال في معرفة من تخص المنازل والقصور والمدن وحتى الشمس والسماء: هل هي للعمال وللفلاحين أم للبورجوازيين ولملاكي الاراضي”[62]. وقد ذهب لاتزيس احد رؤساء التشيكا, ابعد من ذلك عندما قال: “لا تبحثوا عن اثباتات حتى تتحققوا ان سجينكم قد تصدى للسلطة السوفياتية بالقول او بالفعل. أن واجبكم الأول هو ان تسألوه إلى أية طبقة ينتمي, ما هو اصله, ما هي درجة ثقافته وما هي مهنته. هذه هي الاسئلة التي يجب ان تقرر مصيره. وهذا هو معنى وجوهر الإرهاب الاحمر”[63].
لقد واجه الإرهاب البولشفي كثيراً من الانتقادات من قبل بعض الماركسيين البارزين وعلى رأسهم كارل كاوتسكي. فقد نشر كتاباً بعنوان “الإرهاب والشيوعية” رفض فيه ان يتحول مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا إلى مبدأ إرهاب الشعب, معللاً ذلك بقوله أن هذا التحول انما يعود بالواقع إلى طبيعة الثورة وهو يلازمها بالضرورة. لكن تروتسكي رد عليه بكتاب يحمل ذات العنوان, قدم فيه المبررات والدوافع التي دعت إلى اللجوء إلى الإرهاب من قبل السلطة الثورية الحاكمة, واوضح ان الإرهاب وسيلة وقتية تبرز ضرورتها في ظروف معينة وفي اوضاع قاهرة, ولا يمكن الاستغناء عنها الا في حال الاستغناء عن الهدف الايديولوجي الذي ترمي الثورة إلى بلوغه. ففي كتابه عن نقد الإرهاب البولشفي ظهرت عند كاوتسكي نقطة ضعف أساسية اتخذها تروتسكي منطلقاً لتبرير ذلك الإرهاب. لقد برّر كاوتسكي الإرهاب الجاكوبي أبان الثورة الفرنسية بإعتباره الوسيلة الوحيدة التي لم يكن من الممكن اللجوء إلى سواها لانقاذ الجمهورية, نظراً إلى الوضع الفائق الصعوبة الذي عانته فرنسا الثورة في تلك الحقبة. لكن الحدة التي أظهرتها ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا الثورة, يجيب تروتسكي, قد اقتضتها ظروف لم تكن اقل صعوبة من ظروف الاولى. “هناك جبهة متصلة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. وبالاضافة إلى جيوش أعداء الثورة التابعة لكولتشاك ودنيكين... الخ. كان يهاجم روسيا بصورة متواصلة كلٌ من الالمان, النمساويين, التشيكوسلوفاكيين, الرومانيين, الفرنسيين, الانكليز, الاميركيين, اليابانيين, الفنلنديين, الاستونيين, والليتوانيين. ولم يكن في داخل البلاد التي كانت تموت جوعاً بسبب محاصرتها من جميع الجهات, سوى المؤامرات المستمرة, العصيان وأعمال الإرهاب, وتدمير المخازن وسكك الحديد والجسور”[64].


وأما في معرض تبريره للإرهاب الفرنسي الذي قامت به “كومونة” باريس, فيقول كاوتسكي ان المراسيم التي اصدرها الثوريون في ما يتعلق بالرهائن وتصفيتهم, كانت بالواقع رداً على الفظاعات التي قامت بها جماعات فرساي. وبالرغم من ذلك فلقد كان إرهاب الثوريين المضاد ناجماً عن ميل إلى المحافظة على حياة الناس وليس على غريزة القتل. وعلى هذا يرد تروتسكي بأنه خلال الحرب الاهلية “كنا نبيد الحرس الأبيض حتى لا يبيد العمال. وعليه فان هدفنا هو المحافظة على أرواح الناس وليس قتلهم”[65]. ولكن موقف تروتسكي لم يقتصر على مناظرة خصمه والرد على حججه بحجج اخرى. بل تعدى ذلك إلى رسم استراتيجية سياسية للعنف انطلاقاً من واقعية الصراع الايديولوجي الطبقي. لم يدرك تروتسكي واقع الحرب بصورة عامة والحرب الاهلية بصورة خاصة. ففي صراع الطبقات, بمنظور تروتسكي, وعندما يبلغ هذا الصراع حد الحرب, يصبح كل عدو عدواً ايديولوجياً, يعني عدواً مميتاً ينتظر اللحظة السانحة حتى يطعن في الظهر. وفي هذه الحال, يجب أن يوضح العدو وبمعزل عن الاضرار, ولا يمكن تفسير هذا, في زمن الحرب, الا بتصفيته. وفي الثورة كما في الحرب يجب ان نحطم ارادة العدو ونرغمه على التسليم وقبول شروط المنتصر. يقول تروتسكي: “اذا نشأت ديكتاتورية البروليتاريا في احد البلدان وضمن اطار ديمقراطي, فهذا لا يعني ان نستبعد الحرب الاهلية. فأن مسألة لمن ستكون السلطة في البلد, يعني هل يجب ان تموت البورجوازية أم يجب ان تعيش, لا يمكن حلها بالرجوع إلى مواد الدستور وانما باللجوء إلى كافة اشكال العنف )... (وبقدر ما تكون مقاومة العدو الطبقي المهزوم عنيفة وخطرة, يتحتم على نظام القمع ان يصبح نظام إرهاب”[66]. نستنتج من ذلك ان الطبقة العاملة, عندما تتسلم السلطة بالصراع, يصبح من واجبها الدفاع عنها وتأمين سيطرتها نهائياً. وإلا فلا داعي إلى تسلم السلطة. ولذلك فالثورة, يقول تروتسكي, “لا يلزم عنها الإرهاب منطقياً, كما ولا يلزم عنها العصيان المسلح )...( ولكن بالمقابل تفرض الثورة على الطبقة الثورية ان تمارس جميع الوسائل لبلوغ اهدافها: بالعصيان المسلح اذا اقتضى الامر, واذا كان ضرورياً فبالإرهاب”[67].
ان الواقعية السياسية التي يوحي بها تروتسكي تبرر جميع نماذج الإرهاب ومستوياته. ولم تغب هذه الحقيقة عن باله. ولكن اذا كان منطق القوة بخدمة من تتوفر لديه القوة, فان ثمة فارقاً أساسياً وايديولوجياً يميز بين جميع الاطراف ويعطي للفعل السياسي, بما فيه الإرهاب معناه المميز ومضمونه القيمي. وبهذا الاتجاه ينهي تروتسكي ردة على كاوتسكي ويقول له: “لقد كان الإرهاب القيصري موجهاً ضد البروليتاريا. وكان العسكر القيصري يذبح العمال المناضلين من اجل نظام اشتراكي. أما لجاننا الاستثنائية فتعدم رمياً بالرصاص الملاكين الكبار, الرأسماليين والقواد الذين يحاولون اعادة النظام الرأسمالي إلى نصابه. هل ادركت هذا الفرق البسيط؟ نعم؟ بالنسبة لنا, نحن الشيوعيين, انه فرق كاف بالتمام”[68].
بالنتيجة, ان التمييز الذي وضعت الثورة الفرنسية حدوده بين عبارتي إرهاب Terrorisme)) ورهبةTerreur) ), قد زال تماماً خلال الثورة البولشفية الروسية. وذلك بفضل ممارسته على مستوييه: مستوى الضعفاء ومستوى الاقوياء. كما ان النظرة إلى الإرهاب بإعتباره الوسيلة الوحيدة والفضلى التي تستطيع تحقيق الهدف الايديولوجي ­ كما فعلت الفوضوية والعدمية ­ قد تبدلت بفضل وضوح الهدف ورسم استراتيجية متكاملة في النضال السياسي من اجل بلوغه. لقد أصبح الإرهاب وسيلة مرتبطة بالعنف الايديولوجي الثوري المنظم, والموجّه ضد العدو الايديولوجي بإعتباره مجرماً اخلاقياً وتاريخياً وايديولوجياً. وبالتالي فليس هناك مجال لاعتبار نوعين من الإرهاب متمايزين جوهرياً, واحد قبل تولّي السلطة والثاني بعده. انه في كلتا الحالتين إرهاب واحد, مهما اختلفت الاساليب والأجهزة التي تنفّذه. أما اذا كان ثمة مجال للتمييز فعلى مستوى الشكل وليس على مستوى المضمون, وهذا ما يجعل اشكاله المختلفة تتدرج ضمن نماذج تختلف بالنظر إلى مقولتي الحاكم والمحكوم.

لينين فيلسوف الإرهاب في القرن العشرين
ليس كارل ماركس, الفيلسوف وعالم الإقتصاد, هو الذي يجب على الرأسمالية أن تمسك بخناقه, على نبوءته أن الرأسمالية يجب حتماً, وبالضرورة, أن تنهار. ولكن الذي يجب محاسبته في النهاية هو لـــيـنـين. إذ عليه تقع مسؤولية إبادة عشرات الملايين من البشر[69], عدا جرائم الغولاغGoulag) ) التي نفذها من أتى بعده... إن لينين لم يبنِ مطلقاً ثورته البلشفية على ذلك “التـنـبـؤ العلمي” الماركسي الذي أقامت الشيوعية صرحها عليه. إن لـيـنـين وتروتسـكي )وهذا الأخير لم يكن أقل دموية من خصمه جوزف سـتـالـيـن...(, عند تسلمهما السلطة, بادرا على الفور إلى تدمير كل بنية إشتراكية وديمقراطية تبلورت في مجرى الثورة, بقصد تحويل ذاك المجتمع الروسي الإقطاعي­الفلاحي المتخلف إلى “جيش عمل” يعمل تحت إمرة القيادة الحزبية. وبمعزل عن التطبيق العملي الذي إبتدعه لـيـنـيـن, فإن “الماركسية تسلك على العموم سبيلاً أقل عنفاً مع الواقع من أي نظام آخر بين جميع “النـظـم الـفـكـرية” التي جاء بها أصحابها على امل تنوير المجتمع البشري وترقيته”[70].
ولكن المفارقة الكبيرة, أن أعمال ماركس الفكرية لم تلعب إلا دوراً محدوداً في الثورة البلشفية. فرغم إعلان لينـــيـــن الدائم أرثوذكسية ماركسيته )إستقامة معتقده(, إلا أنه كان بعيداً جداً عنها. وحتى في نقاط رئيسية لم يكن ماركسياً مطلقاً[71]. ولكنه كان بارعاً في إستعمال المنهجية الماركسية ويستعمل بكل دقة الديالكتيك لتبرير إستنتاجات كان يتوصل إليها سلفاً بالبديهة والحدس. حتى أنه تجاهل كلياً الجوهر الاساسي للإيديولوجية الماركسية, أي “الحتمية التاريخية للثورة”. لـــيــنـين, لم يكن يملك نفـــس “الإنسان الحتمي”, ولكنه كان متعلقاً بفكرة “الإرادة البحته”, إذ كان يؤمن بأن الإرادة الإنسانية تلعب الدور الحاسم في تحريك الثورة[72]. هذه الإرادة هي إرادته هو فقط... ولكن بالنسبة لرجل, يدعي تملك المعرفة العلمية المتخصصة في طرق “صيرورة القوانين التاريخية”, يظهر أن لــــينيـن قد تفاجأ كلياً في مسار الحوادث إبتداءً من إنفجار ثورة 1905 وإجهاضها. ولكن تعامل لينين مع الأحداث وإستغلاله الظروف التاريخية ­ إبتداءً من الحرب العالمية الأولى وحتى إعادته إلى روسيا بواسطة الحكومة الالمانية المستقلة كلياً عن الإيديولوجية الماركسية, إلى السلطة. بإختصار, لقد كان, كما كان ينعت أخصامه: إنتهـــازيـــاً[73].
في الحقيقة, كان لــيـنــيـــن متعصباً لمفهومـــــه العقائدي, وغير متسامحIntolérant) ), ان تعصب لينين لمفهومه العقائدي وعدم تسامحه كانا لدرجة أن ذلك ­ لا يُمَكِنَه بأن يكون ماركسياً أرثوذكسياً. نستطيع أن نفهم عدم التسامح عند لينين من درجة حقده على الدين, بعكس ماركس الذي كان فقط يسخر منه. فالواقع أن إعتبار ماركس عدواً ملحداً للأديان هو مبالغ به إذ أن أكثر كتاباته في هذا المجال فيها الكثير من السخرية والقليل من العداء, وحتى أننا نستطيع أن نقول أنه كان مهادناً مع الأديان طالما الرب يمتلك السماء... أما لينين فقد كان يكنّ للأديان كرهاً رهيباً وعداءً مطلقاً وأكثر من ذلك كان يـــكــنّ كرها منظماً لرجال الدين. فقد كان أول ضحاياه رجال الدين الأكثر عفـة إذ كان يعتبرهم الأكثر خطورة وقد بدأ “بتنظيف” أي بإبادة رجال الدين الأكثر تعاطفاً مع البروليتاريا والأكثر محاربةً للإستغلال... وكأن لينين كان يجد في رجل الدين القريب من الرب والأكثر عفة والأكثر قرباً إلى الكمال, غريماً له في الحمية التي يريد أن ينتزعها منه لكي يحل مكانه[74]...
لقد إرتاع لـــينــين لتنبؤات إنجلـــز التي صاغها بهذه العبارات: “إن أســــوأ ما يحدث لرجل يقود حزباً متطرفاً, هو أن يجد نفسه مضطراً لقلب نظام حكم في لحظة تكون الطبقة التي يمثلها غير مستعدة لتولي السلطة...”[75]. فالــــروسيــــا كـانت وطـن نصف مصنـّعsemi-industrialisée) ) حيث الرأسمالية كانت ضعيفة والبروليتاريا الصناعية قليلة الأهمية عددياً, والشروط الموضوعية للثورة لم تكن كلها متوفرة. هذا المأزق دفع لـــيـنين للهرطقةHérésie) ). إذا كان “الوعي البروليتاري” غير موجود. أليس من واجبات المثقفين الماركسيين ­ كأمثاله, الإستعجال بصيرورة التوعية ؟ ففي عام 1902, إستعمل لـيـنـيـن للمرة الأولى عبارة “مناضلو الطليعة”[76], بصدد شرحه للدور الجديد الملقى على عاتق نخبة من الثوريين المحترفين)81(. ويدعو إلى إنشاء “منـــظــمــة ثوريـــة” ­ تتخطى مفهوم “منظمــــة العمـــال”)[77]) (أو حزب الطبقة العاملة ( تألف بصورة رئيسية من أناس يجعلون النشاط الثوري مهنة لهم, وهذه المنظمة تتناسب مع البلاد الروسية حيث يسودها الإستبداد[78]. هذه المنظمة لا تترك مجالاً للإنخراط بها إلا للنخبة الثورية المحترفة والمدربة تدريباً مهنياً على فن النضال ضد الشرطة السياسية[79], مع مراعاة القواعد الدقيقة للعمل السري[80]. وهكذا تخلى لينين ومنذ العام 1902 عن “مبدأ الديمقراطية” الذي يحتم النشاط العلني والإنتخاب لكل مركز أو مسؤولية حتى في داخل حـــزب أو منظمـــة...
إن هرطقة لـــيــنـيــن ليست ناشئة فقط بحكم الظروف, ولكنها جزء من فلسفته ومن مساوىء شخصيته وطباعه التي أوصلته إلى تدمير كل ما يوجد من مثالية في الماركسية[81], كل ذلك لكي يتوصل إلى طلب السلطة المطلقة لرئيس الحزب. هذه السلطة المطلقة حوّلت الحركة الماركسية الروسية إلى جهاز عسكري بعيد كل البعد عن الأسس العـــلمية للعـــقــيدة الماركسية[82]. اللينينية ليست هرطقة فقط ولكنها الهرطقة نفسها التي أوجدت الفاشستية[83]. وتظهر الفاشستية بوضوح في تنظيم الحزب البلشفي أثناء ثورة أكتوبر, إذ كان لينين يعتمد كلياً على العصابات المسلحة التي نظمها تروتســــكيTrotski) ) في بتروغراد[84]. كان لينين مقتنعاً بأن العنف هو ركن أساسي من أركان الثورة, ولم يتورع مطلـقاً عن الدعوة إلى الإرهاب[85]. ولتبرير إستعماله العنف, كان يعتمد على تراثين مزدوجــي التقاليد: أولاً, الثورة الفرنسية, إذ كان يروق له أن يذكر)[86] (حدى مقولات روبسبيير :Robespierre))“في الثــــــورة, إن خاصيةLes attributs) )[87] الحكم الشعبي هي, في الوقت عينه, الفضيلة والإرهاب: الفضيلة التي بدونها يكون الرعب مشؤوماً, والرعب الذي بدونه تكون الفضيلة عاجزة. والرعب ليس سوى العدالة الفورية, القاسية والصلبة؛ إنه إذاً منبثق عن الفضيلة؛ إنه نتيجة للمبدأ العام للديمقراطية المطبقة على حاجات الوطن الأكثر إلحاحا” أكثر من كونه مبدأ خاصاً ... فالحكم الثوري هو إستبداد الحرية في وجه الطغيان”[88]. لننسَ التاريخ المشؤوم للرعب, ولنقلْ ثانيـــــاً, أن لينين تمسك بمقولة لكارل ماركس, الذي لم يدعم العنف إلا كرصاصة رحمة على المجتمع الزائل أو كنوع من القتل الرحيم Euthanasie)), وبهذه العبارات: “... ليس هناك وسيلة لتقصير عمر, ولإختصار الإحتضار الأليم للمجتمع المنحل )الزائل (والمخاض المؤلم للمجتمع الوليد, إلا واحدة: العنف الثوري”[89]. بالواقع لينيين لم يكن مطلقاً يؤمن بالثورات المنبثقة من الحتميات التاريخية ولكن ثوريته كانت حسب المدرسة الفرنسية القديمة أو ممثلها الأحدث جورج صوريلGeorges SOREL)) التي تقول “أن الثورة هي من صنع مجموعة محدودة من الرجال شديدي الإنضباط تحت إمرة قائد مقرر...”. وكان أيضاً متأثراً بدرجة أقل بالماركسيين العفويين الألمان الذين يعتبرون “أن إنتصار البروليتاريا ليس إلا تتطوراً حسب الصيرورة الداروينيةComme processus d'évolution darwinien) ). عـــــدا الإستشهاد بمقولات روبسبيير وكارل ماركس, فإن “إرادة القــــوة الخارقة”) (La volonté extraordinaire de puissanceجزء ملازم لشخصية لـيـنـيــن, ويظهر ذلك في أدبياته وخطاباته التي لا تخلوا مطلقاً من كلمات من مثل الدعوة للقتل والإبادة وإلى آخره...[90] (وحتى في أدبياته السابقة للثورة بعشرات السنوات. وهذا ما ترجمه عملياً في بداية الثورة حينما أسس مجلس الحرب والثورة ) Le Comité Militaire Révolutionnaire de Petrograd) والذي كان يملك السلطة الفعلية, كما إعترف ستالــيـن لاحقاً, رغم أنها منبـثـقـة عن السوفناركومSovnarkom) ) ( وهي أول قوة عسكرية للبلاشفة كانت مهمتها محاربة النشاطات “المعادية للثورة” بواسطة وحدة خاصة تدعى التشيـكاLa Tchéka) )وهي البوليس السياسي الذي أعطى التعريف الرسمي للإرهــاب المنظم على لسان قائده لاتسيز..M.YLatsis)): “إن السؤال الأول الذي نوجهه إلى الفرد: إلى أي طبقة تنتمي, ما هو وسطك العائلي, تربيتك, دراستك أو مهنتك؟ هذه الأجوبه تحدد مصيره...”[91].
منذ اللحظة التي تخلى فيها لــيـنـيـن عن “الــذنـب الفردي” وأحل محله “الذنب الجماعي”[92], وبــدأ يبيد )حسب العبارة التي كان يستعملها( طبقات بكاملها, فقط بسبب الإنتماء العائلي أو الطبقي أو المهنة أو الولادة أو حتى لنوع الدراسة التي تلقاها الشخص أو المجموعة[93]... أصبحت هذه الآلية بدون حدود ولا رادع ... فمن الناحية الأخلاقية, ليس هناك فرق بين محاربة طبقة, بنية إبادتها ومحاربة جنس بشري Une Race)), بنية إبادته. إن من يضطهد فئة أو طبقة أو طائفة, لا يمكن أن يكون حامياً للحرية والعدالة والمساواة بإسم فئة أخرى, ويعلن بذلك عن نفسه عدواً للفئات الأخرى[94]. وهــكـــذا خلــق لـــيــنـــيـــن, بإسم طــبقــــة البروليتاريا ­قبل هتلـــــر[95] “الفلسفة التجريبية للإبادة الجماعية” la Génocide moderne)  Ou ) في العصر الحديث[96]. إنه من السذاجة أن نصدق لـــينــين حينما يستشهد بماكسيميليان دي روبسبيير, فصحيح أن إسم هذا الأخير إرتبط بالرعب ولكن ضحاياه لم يتعدوا تقريباً الـ350 من النبلاء. ولكن روبسبيير إستطاع أن يبني إحدى أعرق الديمقراطيات في تاريخ الإنسانية وأكثرها حفاظاً على إستمراريتها, وحتى الإرهاب عنده كان مبنياً على الفضيلة ومن أجل الفضيلة. ولكن لينين لم يضع أي أسس للديمقراطية ولكنه وضع أسس “القانون الجنائي الإستبدادي السوفياتي” المبني على منطق “ما هو غير مسموح فهو ممنوع”. وفي رسالة إلى وزير عدله كورسكيKoursky)) بتاريخ 17 أيار 1922, يقول لــينـيــن: “يجب صياغة مواد القانون الجزائي بالطريقة الأكثر شمولية ممكنة, لأن مشاعر العدالة الثورية والوعي الثوري فقط بوسعها تحديد شروط تطبيقه...[97] ولهذا المنطق يجب مقارنة لينين مع هــتـلـــر الذي برر أعماله عدة سنوات لاحقاً “بالقوانين العليا للحزب”La loi suprême du Parti) ) [98](وهكذا فعل لينين كما “... تكلم زرادشت Ainsi parlait Zarathoustra)[99] (.
 

دلالة إرهاب الضعفاء
في هذه الحالة من مجريات الأمور يعبّر إرهاب الضعفاء عن يأس في قرارة نفوس الذين يمارسون هذه الوسيلة. فهم يترجمون هذا اليأس بموقف متطرف شديد التشنج والخطورة من شأنه أن يؤدي إلى أعمال شرسة وفظيعة ضد الآخرين, وإلى أعمال انتحارية يذهب ضحيتها عادةً الإرهابيون أنفسهم[100]. ففي عالم لا تجد فيه الجماعات مكاناً لقيمها, لحرياتها ولحقوقها المشروعة في الأرض والإنتماء وتقرير المصير والحياة السياسية الكاملة, لا يسعها إلاّ أن تجد في قضيتها الحقيقة المطلقة, فلا تعود ترى غير حقيقتها هذه, ولا تعود تؤمن إلا بها, فتنقاد إلى إستعمال الإرهاب كحلّ أخير تلوح فيه بوارق الأمل. كما لا يعود بوسع أحد أن يفرض على إرهابي من هذا النوع قواعد وقوانين من خارج مفاهيمه وحقائقه, لأنه هو الذي يحدّدها ويختارها ويلتزم بها بمقدار ما تخدم قضيته, وبمقدار ما تتناسب مع الظروف التي يناضل فيها. فهو لا يراعي أي عرف وأية حرمة إجتماعية أ, سياسية, كما أنه لا يراعي قاعدة أخلاقية تشكل عائقاً في سبيله, إذ أنه يضع بتصرفه جميع الطرق والوسائل الممكنة دون أن يتراجع أمام الصعاب مهما بلغت خطورتها لأنه يلعب لعبة الموت فقط, الموت من أجل حياة بعينها يريدها دون سواها. فكل ما هو ممكن هو مسموح, وكل ما هو نافع وفعّال هو ضروري ولا يمكن التخلّي عنه لأي سبب من الأسباب خارج مستلزمات حاجته وارادته التي تهدف بالأساس الى التغلب على العدو وتحقيق الأهداف المرجوّة وانتصار القضية الحقيقية على الإطلاق. فالمهم ان ينجح, ولذلك لا يفرّق إرهاب الضعفاء بين الوسائل العادية والقانونية وبقية الوسائل الأخرى مهما بلغت حداً قصياً من العنف الجنوني واللاعقلاني. فهو لا يتوانى عن ضرب أي هدف يقع على مطال يده, أكان من الممتلكات الخاصة أو العامة أو كان إنساناً أو أية شخصية سياسية أو إجتماعية, عندما يرى هو أن مصلحته قائمة في هذا الفعل[101].

إرهاب الضعفاء يولد من رحم إرهاب الأقوياء
هذه العدمية في الإرهاب لدى الضعفاء تبرز أيضاً في إرهاب الأقوياء, أي إرهاب الدولة والدول القوية ضد الدول والجماعات الضعيفة)108(. فإن من شأن الممارسات العنيفة التي تقوم بها الدول والأنظمة بصورة علنية ضد شعوبها أو الشعوب الأخرى, أن تؤدي إلى أعمال ارهابية يقوم بها الأفراد أو الجماعات والمنظمات السياسية[102].
ومن هنا فإن الإرهاب يولّد الإرهاب. فحيث تُستغَل السلطة ويساء إستعمالها, وحيث يفرض المنتظم الإجتماعي /السياسي والأخلاقي بالقوة ويسود بالإكراه وليس بالتوافق, وحيث يؤدي الظلم والتفرقة إلى اختلال التوازن في المنتظم العام, يظهر الإرهاب وينتشر. والإرهاب يدعو الإرهاب المضاد, كما يدعو هذا الأخير مقاومة الإرهاب المضاد ... ويدور الإرهاب في الحلقة المفرغة, وتزداد الضحايا وتهضم الحقوق على خط مستقيم ومتصاعد. انطلاقاً من هذه الزاوية, يبدو أن النزاع بين سياسة الإضطهاد التي تمارسها الدولة وإرادة الشعب, يؤدي بالدولة إلى إستعمال العنف, وهذا ما يدعو الشعب بدوره إلى الرد بالعنف. وهذا يعني أن ما يسبّب العنف ضد الدولة, أي إرهاب الضعفاء ضد الأقوياء أصحاب السلطة, هو العنف الذي يمارسه هؤلاء من خلال السلطة التي يمتلكونها, كما يسببه أيضاً, وضع يقوم على اللاعدالة السياسية, أو على التفرقة الإقتصادية والإجتماعية. أما الذي يرجّح كفة اللجوء إلى هذه الوسيلة بالذات فهو كون جميع الوسائل الأخرى التي يمتلكها الضعفاء قد فشلت في إيجاد الحلول المناسبة[103].
إن هذه الإستنتاجات, تنسجم مع تقرير للأمم المتحدة حول “الإرهاب الدولي”, إذ يعود السبب في نشوء الإرهاب السياسي, حسب هذا التقرير, الى “أعمال القمع التي تمارسها الأنظمة الإستعمارية والعنصرية والأجنبية ضد الشعوب التي تناضل من أجل تحرّرها وحقوقها المشروعة وتقرير مصيرها واستقلالها ومن أجل حرياتها الأساسية الأخرى”[104].

مشروعية الإرهاب وقانونية المقاومة
لعلّه من السذاجة, أننا بحثنا في المقالات المنشورة في وسائل الإعلام, عن تبرير لمشروعيةLégitimité)) الإرهاب وقانونيةLégalité) ) المقاومة. وكأن “قانون السادة الأقوياء” يحدّد عدالة قضية ــ تخص الضعفاء ــ ويشرّعها. وهنا السذاجة الكلية. إذ ليس القانون هو الذي يشرّع المقاومة. ذلك لأن الإرادة السياسية, للأقوياء, هي التي تضع القانون وتفرضه بواسطة السلطة الإستنسابية التي تتمتع بها طبيعياً. بهذا يُفهم أن القانون شأن إصطلاحي وإن حصل يحصل بقبول الجماعة به, ويسود بخضوعها له. وإن “حصل القبول بالإذعان التلقائي أو تحت تأثير شخصية بارزة Le charisma)) , أم حصل بالخوف والرهبة أو بالإحترام الأخلاقي أو بالقناعات الدينية, فهذا شأن قليل الأهمية بالنسبة لجوهر القانون ولماهيته”[105]. إن ما ينتج عن هذا الواقع هو أن القانون لا ينطوي في ذاته على حقيقة يقينية وضرورية من شأنها أن تسند إليه سلطة مطلقة في تقرير العدالة, لأن هذه الأخيرة, انما تكمن خارج كل قانون وعرف. انها قيمة إنسانية أوجدتها الجماعة من أجل الجماعة. وكذلك الأمر بالنسبة للشرعية التي يكمن أساسها في الجماعة نفسها. فالسلطة السياسية لا تستطيع أن تفرضها من فوق على الجماعة لأنها تنبع من تحت, من الجماعة نفسها, وهي التي تكّون الأساس للسلطة السياسية وتدعمها. وبالتالي فإنه يعود إلى الجماعة أمر تقرير ما هو شرعي وما ليس كذلك[106].
في الواقع ليس هناك من منتظم سياسي /قانوني /أخلاقي في العالم من شأنه أن يسمح بالثورة أو بالمقاومة المسلحة أو أن يعتبرها امكانية من مجموع الإمكانيات المتوفرة أمام حرية الإختيار : الثورة ممنوعة, المقاومة المسلّحة ممنوعة, التمرد ممنوع, العصيان المدني ممنوع ... وإلاّ تعطّلت انظمة اللعبة السياسية وقوانينها. ولكن ما حيلة المقهور أو صاحب الحق عندما يصار إلى إتفاق ضمني أو علني على قهره أو سلبه حقه من ضمن المنتظم السياسي-القانوني-الأخلاقي الذي يُطلب منه التقيد به والإلتزام بأحكامه؟ في وضعية كهذه, وطالما أن حق الحياة مهدّد في مطلق الأحوال, لا يسع صاحب هذا الحق إلا أن يختار الفعل الذي يناسب حجم حقه, والذي يراه ضرورياً وفعّالاً, بغض النظر عن قانونيته وانتظامه, وحتى لو أدى به هذا الإختيار إلى فقدان حقه وحياته[107]...
فالكفاح الإرهابي يتأرجح بين الحق وإرهاب الأقوياء. فحق سلطة الأقوياء المكتسب أصلاً من إرادة الجماعة يتجسد في القوانين الوضعية الصارمة. وتجاوز هذه القوانين أو إساءة إستعمال الحكام للسلطة المنبثقة أصلاً من إرادة الجماعة, تؤدي إلى قوانين كيفية تتجلّى غالباً بإرهاب الدولة أو بإرهاب دولة قوية ضد دولة ضعيفة. إذاً, فكما على مستوى الحكام “الأسياد” تجاوز للقوانين, فهناك على مستوى المحكومين, حق الشعوب الذي تحدّده القوانين والأعراف السياسية ولكن هو أيضاً قابل للتجاوز, في الحالات الإستثنائية. وهذا التجاوز يتجسد برفض القوانين والأنظمة المفروضة بقوة السلطة إن كانت محلية أو دولية. وإمكانية الرفض هذه تعرف عادةً بإسم “حق المقاومة”. ان هذا الشكل من الرفض, على مستوى المحكومين, لا يندرج في قانون ولا يحدّده نظام, بل إنه مرفوض من القانون لأنه يتعارض معه. فالمنطق الداخلي لحق المقاومة انما يقوم على الصراع ضد القوانين وضد الأنظمة والسلطات التي تمثلها وتحميها, وذلك عندما تكون القوانين جائرة وعندما تسىء السلطات ممارسة سلطتها أو تتجاوز حدودها. وهذا ما يدعونا إلى التساؤل عن حدود القانون الوضعي, أي ما هي الحدود التي لا يمكن للقانون أن يتجاوزها, وفي حال تجاوزها يصبح الحكم الشرعي الذي فرضها معرّضاً للرفض في شرعية وجوده[108]...
ان العدالة والشرعية مفهومان يحدّدان منتظماً سياسياً-قانونياً-أخلاقياً يتمتع فيه اعضاء المتحد السياسي والمجتمع الدولي, أفراداً ودولاً بحقوقهم الكاملة وبحريتهم التامة على قدم المساواة.
في منطق الإرهاب, إن الأقليات والإتنيات والشعوب المضطهدة والمتمردة, الثائرة, تجد نفسها مستثناة من المنتظم السياسي-الأخلاقي, أو مبعدة عنه قسراً: فحريتها مدجّنة ومقهورة بقوة السلاح التي تمتلكها سلطة الدولة والدول الجبارة, وحقوقها في الحياة السياسية الكاملة وفي نمو شخصيتها المعنوية والإجتماعية على مستوى المواطنية ــ تلك التي أعلنتها شرعة حقوق الإنسان باعتبارها حقوقاً غير قابلة للتقادم ولا يمكن التنازل عنها أو التصرف فيها ــ حقوقها هذه مهضومة ومطموسة بفعل سيطرة الحكومات أو من قبل شعوب أخرى أقدر وأقوى. وبالإضافة إلى ذلك فإن الإضطهاد الذي يقع على كاهل الشعوب والأقليات الضعيفة انما يؤيده دائماً ويدعمه نسق من الحقوق والقوانين الوضعية والنظم الدولية تفرضه قوى قاهرة وتجعل منه بالإكراه قاعدة سياسية قانونية وأخلاقية مطلقة لا تجوز مخالفتها تحت طائلة الخروج عن النظام العام أو الدولي, وهو نظام الأقوياء المفروض على الضعفاء. وهذا ما يستتبع بالنتيجة ان الذين يقاسون لا عدالة الآخرين يواجهون المطلق في موقف الآخرين بمطلق آخر يتبنّونه لأنفسهم من أجل تحقيق عدالة هم يريدونها ويرتضونها[109].

 


[1]  انظر: هنري أرفون, ترجمة هنري زغيب, الفوضويَّة, منشورات عويدات, بيروت, 1983, ص7.

[2]  انظر: دلال بســـمـــا, “ظاهـرة الإرهاب: جذورها الفكرية والتاريخية ــ دراسة في أبعادها الإجتماعية والسياسية حتى نهاية الثورة الفرنسية”, الدفاع الوطني اللبناني, العدد 39, كانون الثاني, 2002, ص. ص. 55 ­ -78

[3]  انظر: هنري أرفون, ترجمة هنري زغيب, الفوضويَّة, منشورات عويدات, بيروت, 1983. ص.10

[4]  تترجم فوضوية باللغة العربية ولكن بمعانيها الفلسفية هي بعيدة عن ما تعبر عنه الكلمة في لغتنا والأجدر بتبني ترجمتها بكلمة تحــرريـــة, فهي نظرية سياسية تتبنى التعاون الطوعي بين الأفراد والجماعات. وترى أن الدولة هي العدو الأكبر للفرد. ومن هنا ضرورة العمل على إزالتهـــا ... انظر : هنري أرفون, ترجمة هنري زغيب, الفوضويَّة, منشورات عويدات, بيروت, 1983, ص5 , الهامش رقم 1.

[5]  د. جورج سعد, مقدمة لترجمة : دانييل غيرين Daniel GUERIN)), التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص.12 - ص.27.

[6]  بير جوزف برودونPierre-Joseph PROUDHON, 1809-1865) ): كاتب إجتماعي فرنسي. إقتصادي. أحد مؤسسي التحررية. ولد برودون من أبوين مزارعين في الريف الفرنسي. إلى جانب عمله في الحقل عمل خمس سنوات راعي بقر, أي حتى الثانية عشر من عمره. حصل على منحة ودخل المدرسة لمدة ستة سنوات فقط, أي حتى العام 1833. في العام 1837 )في الثامنة والعشرين من عمره( حصل على جائزة أكاديمية بيزونسون, وهي عبارة عن منحة لمدة ثلاث سنوات درس خلالها الإقتصاد السياسي. يبدو أن حياة برودون لا تختلف عن ابناء أولاءك المزارعون أو ملاكوا الأراضي الصغار في الريف, الذين لا يملكون المستوى الطبقي لإستغلال العمال المأجورين, فيبرعون وبوحشية فائقة في إستغلال أطفالهم, أو وضعهم بتصرف أرباب عمل على مثيلهم. هؤلاء الأطـــفـــــال التعساء الذين تذهب صحتهم ضحية لجشع والديــهـــم وأرباب العمل الصغار. وتشغيل هؤلاء الأطفال يسبب الشيخوخة المبكرةVieillissement précoce) ) في خلايا أجسادهم وتكلس وتفتت العظام ونتائج أخرى هي أكثر من إختصاص الأطباء, عدا الأذى النفسي لأن “جروح الطفولة لا يمكن أن تـنـتــسى”, حسب عبارة أرنست رينان Ernest RENAN:
Souvenirs d'enfance et de jeunesse, Paris, 1883)). وهذه الظاهرة ليست لزمن غابر, ولكن تجد كل معانيها في العالم الثالث اليوم, وخصوصاً في الزراعات العائلية, كالتبغ في الشرق الأوسط ... والفستق في أفريقيا, وألخ...انظر:
Daniel GUERIN, Ni Dieu ni Maître, Tome I, Petite collection, Maspero, Paris, 1980, pp.17-45.

[7]  بدأت إهتمامات المـــنـظـمـات غير الحكـومـية, مدعومة بوسائل الإعلام, بظاهرة تشغيل الأطفال وإستغلالهم وحتى إستعبادهم منذ مطلع التسعينات. وقد إحتفظنا بعدد من مجلة)  (L'EVENEMENT DU JEUDI الفرنسية يحوي ملفاً عن: “عودة الرق في عصرناً”.
)Franois LANDON & alii, Le retour de l'esclavage", L'EVENEMENT DU JEUDI, 9/15 septembre, 1993, pp. 38-55.). ونتساءل هل غاب الإستعباد في يوم ما عن الكرة الأرضية ؟

[8]  Cf. Le rapport de l'UNICEF dans ce domaine.

[9]  يعتبر برودون أيضاً من المفكرين الإقتصاديين. وقد خصصت له كتب الفكر الإقتصادي عشرات الصفحات بينما لم تخصص إلا صفحتين لفريدريك ليست مثلاً, انظر: Henri DENIS, Histoire de la pensŽe Žconomique, P. U. F., Paris, 1966, pp.381-389 & 407 & 414 & 417 & 460, etc... . وله الكثير من الأفكار والأعمال التي مازال تأثيرها حتى اليوم في مجال الإقتصاد. فهو صاحب مذهب الموتويلية  Mutuel الذي كان يلم بتحويل المجتمع بصورة سلمية عن طريق تنظيم التعاضد, أي إنشاء التعاونيات وجمعيات التعاضد )ماركس, رسائل مختارة, ص385(. وهو صاحب نظرية المصرف مع فائدة صفر, وقد قام برودون بمحاولة تأسيس بنك التبادل, عام 1848, وأسس بنك الشعب)Banque du peuple)في باريس في 31 كانون الثاني 1849 )انجلس, ضد دوهرنغ, ص443(. ويكون فعلياً أباً لصناديق التعاضد وللبنوك التعاونية الذي نعرفها اليوم.

[10]  د. جورج سعد, مقدمة لترجمة : دانييل غيرين )Daniel GUERIN) التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص12وص.27.

[11]  د. جورج سعد, مقدمة لترجمة : دانييل غيرين )Daniel GUERIN) , التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص12 وص.28, الهامش 1.

[12]  انظر : هنري أرفون, ترجمة هنري زغيب, الفوضويَّة, منشورات عويدات, بيروت, 1983, ص10­16.

[13]  بوركِه, إنطباعات حول الثورة في فرنسا, 1790, بالإنكليزية.

[14]  وجوزف دي مستر, سهرات سان بترسبورغ أو الحكومة المؤقتة للعناية, 1821.

[15]  غراشيوس بابوف )Gracchus BABEUF, 1760-1797) إسمه الحقيقي فرونسوا نويل بابوف, ثوري فرنسي, ممثل الشيوعية التعادلية الطوباوية. أنظر: Le tribun du peuple, Edition10/18, Paris, 1969. . أنظر أيضاً: انجلس , ضد دهرنغ, دار التقدم موسكو, 1984, ص24­27.

[16]  الذي نشره رفيق بابوف, بيوناروتي )Buonarroti) , عام 1828, في بروكسيل. أنظر : Claude MAZAURIAC )Ecrits prŽsentŽs par)BABEUF, Messidor / Editions sociales, Paris, 1988.

[17]  Gian Mario BRAVO, Les socialistes avant Marx, Trois Tomes, Petite collection Maspero, Paris, 1979.

[18]  Gian Mario BRAVO, Les socialistes avant Marx, Tome I, op. cit., pp.200-204.

[19]  Gian Mario BRAVO, Les socialistes avant Marx, Tome II, op. cit., pp.130-134.

[20]  كارل ماركس [1844], المسألة اليهودية, دار مكتبة الجيل, بدون تاريخ, 63 صفحة.

[21]  أ. علي أدهـــــم, “الفوضوية”, عالم الفكر, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, يوليو ­ أغسطس ­ سبتمبر, الكويت, 1970, ص 219­239, الصفحة : ص219.

[22]  أ. علي أدهـــــم, “الفوضوية”, عالم الفكر, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, يوليو ­ أغسطس ­ سبتمبر, الكويت, 1970, ص 219­239, الصفحة : ص219.

[23]  انظر: Louis DUMONT, Essais sur l'individualisme, Editions du Seuil, Collection Points -Essais, Paris, 1983, pp.112-133.

[24]  Ludwig FEURBACH, The essence of christianity, Harper & Row Publishers, New York, 1957.

[25]  برونو باور )1809­1882(, كاتب سياسي ألماني من أتباع هيغل اليساريين )اليسار الهيغلي(. انظر: Bruno BAUER, Die Judenfrage, Brunschweig, 1843.

[26]  كارل ماركس وفريدريك إنجلز [1888], العائلة المقدسة, ترجمة حنا عبوّد, دار دمشق, سوريا, بدون تاريخ.

[27]  انظر: Daniel GUERIN, Ni Dieu ni Ma”tre, Tome I, Petite collection, Maspero, Paris, 1980, pp.35-36.

[28]  فريدريك إنجلس [1844], لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية, دار التقدم, موسكو, 1974.

[29]  انظر: دانييل غيرين )Daniel GUERIN) , التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص.19.

[30]  سجن في باريس تابع لقصر العدل.

[31]  انظر: دانييل غيرين )Daniel GUERIN) , التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص.19. انظر أيضاً: Jean MAITRON, Ravachol et les anarchistes, Ed. Julliard, Paris, 1946, p.79.Max STIRNER, L'unique et sa propriŽtŽ, Paris, 1960, p.65.

[32]  انظر : د. أدونيس العكرة, الإرهاب السياسي, بحث في أصول الظاهرة وأبعادها الإنسانية, دار الطليعة, بيروت, 1993, ص.41.

[33]  دانييل غيرين )Daniel GUERIN) , التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص.19

[34]  Michel BAKOUNINE, Dieu et l'Etat, Ed. Stock, Paris, 1892, pp.282-283. Max STIRNER, L'unique et sa propriŽt, Paris, 1960, p.50.

[35]  انظر : د. أدونيس العكرة, الإرهاب السياسي, بحث في أصول الظاهرة وأبعادها الإنسانية, دار الطليعة, بيروت,  1993, ص.41.

[36]  Michel BAKOUNINE, Dieu et l'Etat, Ed. Stock, Paris, 1892, p.176.

[37]  دانييل غيرين )Daniel GUERIN) , التحررية, من العقيدة إلى الممارسة, دار الحداثة, بيروت, 1981, ص26.

[38]  دلال بســـمـــا, “ظاهـرة الإرهاب: جذورها الفكرية والتاريخية ــ دراسة في أبعادها الإجتماعية والسياسية حتى نهاية الثورة الفرنسية”, الدفاع الوطني اللبناني, العدد 39, كانون الثاني, 2002, ص. ص. 55­78.

[39]  Jean MAITRON, Ravachol et les anarchistes, Ed. Julliard, Paris, 1946, p.11.

[40]  العدمية أو النهلستية : نظرية تقرّر انه لا وجود لشىء في المطلق )1801(. ترفض حقائق القيم الأخلاقية والتقاليد والقوانين, وتراتبية القواعد. نظرية حزب سياسي في روسيا تدور على تحرير الفرد من كل سلطة, أي تمجيد الحرية المطلقة )1877(,)Dictionnaire petit Robert) انتشر مصطلح العدمية بعد صدور رواية تورغينييف “الآباء والبنون, 1862”, التي استعمل فيها المصطلح بحق, بطل الرواية ­ بازاروف. )عبد الرزّاق الصّافي , القاموس السياسي, دار الفارابي, بيروت, 1978, ص.217(.

[41]  وقد عُرِف بهذه الصفة التحرريون الروس, نسبة للصفة التي اطلقها الشاعر ايفان تورغينييف )Ivan TOURGUENIEV) على احد أبطال روايته "أباء وبنون" الصادرة عام 1862.

[42]  Jean GRAVE, Le mouvement libŽrtaire sous la IIIme RŽpublique, Ed. Stock, Paris, 1930, p.100.

[43]  كان هناك أيضاً جماعة أخرى تسمى:)Zemlia I Volia) هي “الأرض والحرية” مع إشارة معلومة واردة في كتب غير سوفياتية إلى أن هذه الجماعة يمكن أن تكون أيضاً “الأرض والإرادة”. انظر: ترجمة إلياس مرقص, العبودية, دار الحصاد, دمشق, 1994, ص.227.

[44]  Roland GAUCHER, Les Terroristes, Ed. Albin Michel, Paris, 1965, p.24.

[45]  A. SPIRIDOWITCH, Histoire du terrorisme russe, Ed. Payot, Paris, 1930, p.23 & p.25.

[46]  قد يكون من الضروري, في هذا المجال, ذكر النص التالي: “في مناطق كهذه, يسود مناخ شنيع من الإرهاب العسكري القوزاكي, هذا الإرهاب الذي ينطلق في عملياته من القصر. وللردّ على هذا الإرهاب, يبدو الإرهاب الآتي من قبل الفلاحين ضرورياً ومحتماً”.
A. SPIRIDOWITCH, Histoire du terrorisme russe, Ed. Payot, Paris, 1930, p.23 & p.311.

[47]  LENINE, Oeuvres, Tome 5, Editions sociales, Paris, 1965, pp.333-334.

[48]  LENINE, Oeuvres, Tome 10, Editions sociales, Paris, 1965, pp.67-69.

[49]  LŽon TROTSKY, Les crimes de staline, MaspŽro, Paris, 1973, pp.42-43.

[50]  LENINE, Oeuvres, Tome 5, Editions sociales, Paris, 1965, p.381.

[51]  LENINE, Oeuvres, Tome 9, Editions sociales, Paris, 1965, pp.356-358.

[52]  LENINE, Oeuvres, Tome 5, Editions sociales, Paris, 1965, p.15.

[53]  LENINE, Oeuvres, Tome 5, Editions sociales, Paris, 1965, pp.15-16.

[54]  LŽon TROTSKY, Les crimes de staline, MaspŽro, Paris, 1973, pp.42.

[55]   LŽon TROTSKY, Les crimes de staline, MaspŽro, Paris, 1973, pp.43.

[56]  LENINE, Oeuvres, Tome 26, Editions sociales, Paris, 1965, pp.501-503.

[57]  LENINE, Oeuvres, Tome 26, Editions sociales, Paris, 1965, p.480.

[58]  Jacques BAYNAC, La terreur sous LŽnine, Sagitaire, Paris, 1975.

[59]  LENINE, Oeuvres, Tome 27, Editions sociales, Paris, 1965, p.26.

[60]  Jacques BAYNAC, La terreur sous LŽnine, op. cit., p.55.

[61]  Jacques BAYNAC, La terreur sous LŽnine, op. cit., p.56.

[62]  Marcel LIEBMAN, Le LŽninisme sous LŽnine, Tome 2, Seuil, Paris, 1973, p.158.

[63]  دلال بســـمـــا, “ظاهـرة الإرهاب: جذورها الفكرية والتاريخية ــ دراسة في أبعادها الإجتماعية والسياسية حتى نهاية الثورة الفرنسية”, الدفاع الوطني اللبناني, العدد 39, كانون الثاني, 2002, ص. ص. 55­78.

[64]  Victor SERGE, L'An I de la RŽvolution russe, Maspero, Tome 2, Paris, 1971, p.118.

[65]  Jacques BAYNAC, La terreur sous LŽnine, op. cit., p.57.

[66]  Marcel LIEBMAN, Le LŽninisme sous LŽnine, Tome 2, Seuil, Paris, 1973, p.159.

[67]  Marcel LIEBMAN, Le LŽninisme sous LŽnine, Tome 2, Seuil, Paris, 1973, p.159.

[68]  LŽon TROTSKY, Terrorisme et Communisme, Ed. 10-18, Paris, 1963, p.87.

[69]  LŽon TROTSKY, Terrorisme et Communisme, Ed. 10-18, Paris, 1963, pp.91-92.

[70]  LŽon TROTSKY, Terrorisme et Communisme, Ed. 10-18, Paris, 1963, pp.93-94.

[71]  LŽon TROTSKY, Terrorisme et Communisme, Ed. 10-18, Paris, 1963, pp.93-94.

[72]  LŽon TROTSKY, Terrorisme et Communisme, Ed. 10-18, Paris, 1963, pp.99.

[73]  Harrison SALISBURY, La Neige et la Nuit, 2 vol., Belfond, Paris. Black Night, White Snow: Russian's Revolution, 1905-1917, Londres, 1978, 565 pages.

[74]  جون ستراتشــــــي, الرأسمالية المعاصرة, ترجمة عمر الديراوي, دار الطليعة, سلسلة السياسة والمجتمع, بيروت, 1964, ص. 10.

[75]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, Robert Laffont, Paris, 1985, p. 66.

[76]  روبرت هـيلـبـرونـر, قادة الفكر الإقتصادي, مصدر ذكر سابقاً, ص. 171.

[77]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, op. cit., p. 66.

[78]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, op. cit., pp. 62-63

[79]  F. ENGELS, The Class War in Germany, p. 135.

[80]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 27.

[81]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 114.

[82]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 115.

[83]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 128.

[84]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 128.

[85]  لينين[1902], ما العمل ؟ دار التقدم, موسكو, ص. 129.

[86]  Rosa LUXEMBURG, )uvres, Maspero)

[87]  Rosa LUXEMBURG, La RŽvolution russe, Spartacus.

[88]  إذ أن التاريخ أعطانا مهرطقين لا يمكن إحصاؤهم ... فمن الملفت للنظر أن الأممية الثانية التي إنعقدت قبل الثورة البلشفية قد ضمت إشتراكيين من طراز رجال مثل برنارد شــــــــو ورمزي مكدونلد وبلسودسكي فضلاً عن لينين ولافال )رئيس حكومة فيشــي الذي أعدم عام 1945, بعد تحرير فرنسا( وموسيليني. ولكن موسيليني يبقى المهرطق الماركسي الأكثر صدقاً مع نفسه ومع البروليتاريا ومع التاريخ. إنظر: )A. James GREGOR, Italian Fascism and Development Dictatorship, Princeton, 1979. Benito MUSSOLINI, Opera Omnia, 36 Vol., Florence, 1951- 1963, Vol. II, p.32 & 126, Vol. I, p. 92 & 103 & pp. 185-189, Vol. V, p. 69. Ernst NOLTE, Les Mouvements fascistes, Franaise Lib., voir Žgalement l'essai de NOLTE, "Marx & Nietzsche dans le socialisme de Mussolini", Historische Zeitschrift, CXCI-2.)

[89]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, Robert Laffont, Paris, 1985, p. 78.

[90]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, Robert Laffont, Paris, 1985, p. 78.

[91]  لم يكن يناسب لينين مطلقاً أن يذكــر عن روبسبيير, إحدى خطاباته ­ حينما أسس مجلس مفوضي الشعب )

Le Conseil de Commissaires du Peuple ou Sovnarkomإن الشعب طيب ومفوضوه قابلون للفساد, وإنه يجب البحث في الفضيلة وفي السيادة الشعبية عن واق من عيوب الحكم وإستبداده .
)G. LABICA, ROBESPIERRE, Une politique de la philosophie, Presses Universitaires de France, Paris, Traduction Arabe, p. 96.)

[92]  هنا نذكر نص المقولة عن المصدر الأصلي. إذ كان يروق للينين ان يحرفها كما يناسبه.

[93]  G. VALLAY )Editeur) , Discours et Rapports de Robespierre, Paris, 1908, p. 332.

[94]  MARX & ENGELS, Historisch-Kritische Gesamtausgabe. E. H. CARR, La RŽvolution bolchŽvique, Tome I, Edition de Minuit, Paris, 1969-1974 )3 Tomes) , p. 155, in Paul JOHNSON, Une histoire ... , Tome I, op. cit., p. 78.

[95]  Paul JOHNSON, Une histoire du monde moderne, Tome I, Robert Laffont, Paris, 1985, pp. 66-67.) إنظر أيضا: موقف ماركس من أصحاب فكرة “الإرادة البحته”, في, روبرت هـيــلـبـرونـر, قادة الفكر الإقتصادي, ذكر سابقاً, ص. ص. 170­171.

[96]  هناك 25 عبارة على الأقل, تبدأ بكلمة حصــــــــــــار وحتى عبارة الإبـــــــادة, يستعملها لينينن في مؤلفاته. إنظر)Paul JOHNSON, Tome I, op. cit., p. 67 et p.79.)

[97]  Harrison SALISBURY, La Neige et la Nuit, 2 vol., Belfond, Paris. Black Night, White Snow : Russian's Revolution, 1905-1917, Londres, 1978, 565 pages, in Paul JOHNSON, Une Histoire du ... , Tome I, op. cit. p. 83.

[98]  Paul JOHNSON, Une Histoire du monde moderne, Tome I, op. cit. p. 83.

[99]  إن هذه الفلسفة البائسة ما زالت سائدة, حتى اليوم, في العقل الباطن لأكثر الشيوعيين وعلى أساسها يصنف شخص ما, إذا كان "مع, أو ضد" اليسار اللينيني.

[100]  يذهب بنا الفكر طبعاً إلى ملاحظة لروبسبيير دونها في زمن إصلاح الدستور الفرنسي )Complet de DŽclaration des droits de l'homme et de citoyen, 24 avril 1793, in Georges LABICA, ROBESPIERRE, ... op. cit., p. 95. )

وبشكل خاص في المادة 2 الشهيرة : "إن من يضطهد أمة يعلن نفسه عدواً للأمم قاطبة". كــذلــــك يذهب بنا الفكر بالطبع إلى صيغة ماركس التي ليست أقل شهرة : "إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون شعباً حراً". )Texte sur la Pologne, 1857, 1863)                  

[101]  P. JOHNSON, Tome I, op. cit. p. 98.

[102]  T. H. RIGBY, Lenin's Government : Sovnarkom, 1917-1922, Cambridge, 1979; p. 191 & 230)

[103]  T. H. RIGBY, Lenin's Government : Sovnarkom, op. cit., p. 191 & 230)

[104]  P. JOHNSON, Tome I, op. cit. p. 98.)

[105]  إنـــظــــــر فريدريك نيتشه, هكذا تكلم ذرادشــــــت)1883­1885(, منشورات المكتب العالمي, توزيع دار مكتبة الحيـاة, بيروت, لبنان.

[106]  التمييز بين الإنتحار الفردي ... البير كامـــو, الإنسان المتمرد, منشورات عويدات, بيروت, 1983, ص12. العكرة ص 155­156.

[107]  د. أدونيس العكرة, الإرهاب السياسي, ... المرجع السابق, ص151.

[108]  د. أدونيس العكرة, الإرهاب السياسي, ... المرجع السابق, ص151.

[109]  د. أدونيس العكرة, الإرهاب السياسي, ... المرجع السابق, ص135.