معالم تاريخية

قلعة الاستقلال: حكايات التاريخ دروس للحاضر
إعداد: جان دارك أبي ياغي

تكتسب قلعة راشيا دلالاتها الوطنية والجغرافية انطلاقًا من رمزيتها التاريخية كشاهدٍ على صمود الشعب اللبناني وتجذّره بأرضه. فداخل أسوارها احتضنت في العام 1943 رجالات الاستقلال الذين صمدوا في وجه سلطات الانتداب حتى بزغت شمس الحرية والاستقلال. إلى رمزيتها الوطنية تتميّز القلعة بموقعها، إذ تُشرف على حدود الوطن، وجبل حرمون بشموخه ومهابته وقدسيته.

 

قاعة الشرف

تُفتح قاعة الشرف فقط في مناسبة ذكرى الاستقلال لممثلين عن الرؤساء الثلاثة وسفراء وقادة جيش سابقين حيث يدوّنون في السجل الذهبي كلمات من وحي المناسبة.

وتضم القاعة أسماء رؤساء الجمهورية، وزراء الدفاع الوطني، قادة الجيش، قادة منطقة البقاع، الضباط الذين تولوا قيادة كتيبة المشاة الثامنة وموقع راشيا. 

 

متحف السلاح القديم

يقع متحف السلاح القديم الذي أسهم الجيش اللبناني في إنشائه، داخل القلعة في المبنى الشهابي الذي يعود إلى العام 1370، وهو يتألف من قسمين: القسم الأول يضمُّ السلاح الخفيف (بنادق، سيوف...) والقسم الثاني يضم السلاح المتوسط (هاون، مدفع فرنسي من العام 1918، مضاد للدروع فرنسي الصنع، مدفع مضاد للطائرات، مدفع رشاش 58 ملم، مدفع 160 قصير، رشاش عيار 12,7 و14,5...).

في بلدة راشيا الوادي المعروفة باسم "بلدة الاستقلال" تنتصب قلعة راشيا التاريخية على مساحة تبلغ 8000 متر مربع في موقعٍ استراتيجي تحيط بها المنحدرات من ثلاث جهات، فيما تواجه الرابعة قمة جبل حرمون.

يعود تاريخ بناء القلعة التي تُعرف باسم "قلعة الاستقلال" أو "حصن 22 تشرين الثاني" إلى العام 1172، إذ شُيّدت خلال الوجود الصليبي في لبنان. فقد اهتم الصليبيون ببناء برج في راشيا الوادي على ارتفاع 1400 متر عن سطح البحر لحماية قوافل التجار ومواكب الحجاج والمسافرين عبر منطقة وادي التيم من دمشق إلى القدس في فلسطين.

ومرَّ بناء القلعة بثلاث مراحل، ففيها آثار رومانية (دهاليز وأبنية)، وآثار صليبية (الآبار المنحوتة في الصخر والأقبية والبرج الصليبي وهو أعلى نقطة في القلعة). وثمّة أبنية وآثار شهابية تعود إلى العام 1370 عندما تولى الأمير أبو بكر الشهابي ولاية حاصبيا، وكان يأتي برفقة زوجته وابنته إلى راشيا للصيد والقنص، فبنى له منزلاً داخل القلعة. كما بنى الشهابيون مدخل القلعة والسور والقناطر من الجهة الجنوبية الغربية. من بعدها، غرقت القلعة في النسيان حتى العام 1837 عندما استخدمتها جيوش إبراهيم باشا مركزًا لها، وحاولت فرض التجنيد الإجباري على سكان البلدة وتجريدهم من سلاحهم، فثاروا ضد قواته وتمكنوا من دخول القلعة وطرد المصريين منها.

مع بداية القرن العشرين وصل الجيش الفرنسي إلى وادي التيم وتمركز في قلعة راشيا، وفي العام 1920 بنى الجنود الفرنسيون السور الشرقي للقلعة.

 

ثورة 1925

إبّان الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وقعت معركة 22 تشرين الثاني 1925 حيث تمّ اقتحام أسوار القلعة لتحريرها من الحامية الفرنسية، فحصلت معارك عنيفة أدت إلى مقتل مئة وثلاثين فرنسيًا، والعديد من الشهداء من أبناء راشيا والجوار. وردًا على ذلك، قام الجيش الفرنسي بحرق بيوت البلدة التي عانت نكبة كبيرة حيث قُتل العديد من أهاليها وشُرّد القسم الأكبر باتجاه فلسطين. وبعد جلاء القوات الفرنسية عن لبنان في العام 1946، تمركزت في القلعة قوات من الدرك اللبناني وبعض الإدارات الرسمية. ثم تسلّمها الجيش اللبناني بتاريخ 1 أيلول 1964. وقد أدرجت القلعة على لائحة الأماكن السياحية في لبنان فأنارتها وزارة السياحة، وبات يؤُمّها العديد من السياح من لبنان وخارجه.

 

هنا بزغ فجر الاستقلال

تشير المرشدة السياحية في القلعة وفاء زاكي إلى أنّ القلعة باتت ملتصقة بالذاكرة الوطنية للبنانيين منذ 11 تشرين الثاني 1943، حين اعتقلت سلطات الانتداب الفرنسية مدة 11 يومًا كلًا من رئيس الجمهورية اللبنانية الشيخ بشاره الخوري، ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح والوزراء: كميل شمعون، وعادل عسيران وسليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي، ووضعتهم في غرف منفردة داخل القلعة، ما زالت قائمة حتى اليوم، كرد على تحركاتهم الاستقلالية حين حرَّرت الحكومة اللبنانية دستور 1936 من النصوص التي تعطي صلاحيات مطلقة للمفوض السامي. وهي تلفت إلى أنّ اختيار منطقة راشيا لسجن الرؤساء لم يكن صدفة، بل لكونها نقطة الوصل بين لبنان، سوريا، وفلسطين.

ومعلوم أنّه بنتيجة الضغط الشعبي والاتصالات الدولية، أفرج الجنرال الفرنسي كاترو عن المعتقلين في راشيا صبيحة 22 تشرين الثاني 1943، بعد أن عمّ العصيان المدني جميع المناطق اللبنانية واندلعت سلسلة من التظاهرات. وهكذا اعتُبر هذا التاريخ عيدًا وطنيًا لاستقلال لبنان. وكانت أولى الاحتفالات بهذا العيد حين خرج إلى حرم القلعة مئات اللبنانيين فور الإفراج عن المعتقلين، وحملوا الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح على أكتافهم إلى أن وصلوا إلى أسواق راشيا المحاذية للقلعة حيث احتفلوا بالمناسبة في مهرجان كبير.

ويروي رئيس جمعية محترف راشيا شوقي دلال تفصيلًا سمعه من أحد كبار السن وفحواه أنّ "الرسائل كانت تنتقل بين المعتقلين والثوار في الميادين من خلال حلّاق في راشيا، كان يخفي الرسائل داخل موس الحلاقة كي لا يتمكن الجنود الفرنسيون من اكتشافها".

 

جناح الاستقلال

تعتبر القلعة من المعالم البارزة في منطقة البقاع خصوصًا بعد أن أدرجت على لائحة الأماكن السياحية (في العام 1997). ويمكن للزوار التجوال داخل غرفها المقبّبة القديمة، وزيارة جناح الاستقلال المؤلف من 11 غرفة كبيرة تضم، إلى الغرف التي سُجن فيها الرؤساء وأعضاء الحكومة، مكتب الجنرال شارل ديغول حيث كان يجتمع مع الضباط الفرنسيين عندما كان يحضر إلى لبنان، الغرفة التي تروي تفاصيل رسم العلم اللبناني وتطوره، معرض لصفحات الجرائد التي صدرت خلال الأيام الـ11 المرافقة لفترة اعتقال رجال الاستقلال من بينها جريدة أسموها "أيام الاستقلال" كانت توزّع سرًّا توثق وتروي يوميات احتجازهم في القلعة، وما زال ناشرها مجهولًا إلى اليوم، بعض الواجهات التي تضم أسلحة قديمة، وغرفة مخصصة لمشاهدة وثائقي عن حقبة الاستقلال تُشكّل المحطة الأخيرة في جولة الزائرين. 

زُيّنت جدران الممرات بصور تاريخية قديمة كصورة للرئيس فؤاد شهاب يسلّم الجنرال كاترو نسخة من العلم اللبناني بعد أن شهد تغيّرًا في الألوان، وصورًا لجنود فرنسيين. هناك أيضًا نشاهد صورة  للتظاهرات في بيروت العام 1943 ترافقت مع اعتقال الرؤساء، وجدارية بحجم 250 سم وارتفاع 125 سم من أعمال طلاب مدرسة الشانفيل لرجالات الاستقلال عندما زاروا القلعة في العام 2018.

في الذكرى الـ80 لمعركة استقلال لبنان، تبقى قلعة راشيا منارة تحتضن حكاية نضال وتضامن ووقفة عز جمعت اللبنانيين في سبيل وطنهم متجاوزين كل ما يُفرّق، عسى أن يكون في حكايات التاريخ دروس لحاضرنا...

 

وقفة عز

ترتدي القلعة بعدًا وطنيًا آخر يضاف إلى سجلها الذهبي من خلال وقفة المقدم الشهيد عادل أبو ربيعة ومعه مجموعة من عناصر الجيش اللبناني عند مدخل القلعة الجنوبي في وجه دبابات العدو الإسرائيلي إبّان اجتياح العام 1982، بعد أن خاطب أبو ربيعة أحد جنرالات العدو قائلًا: "ستمر آليات العدو على أجسادنا لتعبر إلى حرم القلعة، وسنموت بشرف من دون أن نراكم تدنّسون رمزًا من رموزنا الوطنية".

نشير إلى أنّ جناح الاستقلال قد تحوّل مقرًّا سياحيًا تاريخيًا ودُشّن بتاريخ 5 تشرين الثاني 2009. كما أنّ مدرّج دولة الرئيس رياض الصلح أصبح بعد ترميمه مسرحًا دائمًا، تُنظّم فيه سنويًا مهرجانات الصيف. لكن المشروع المستقبلي يتمثل في بناء متحف داخل القلعة تخصص فيه زوايا لإبراز كل ما هو متعلق بمرحلة الاستقلال.