- En
- Fr
- عربي
دراسات وأبحاث
«لم يؤثر عمل انساني مادي على علاقات الأمم بالقدر الذي فعله شق قناة السويس، إذ من الصعب أن نتصوَّر إنجازًا آخر في حدود القدرة البشرية يمكن أن يغيّر أوضاع الطبيعة أكثر منها، فبعملية «جراحية» جغرافية بسيطة، تمَّ اختزال قارة بأكملها هي إفريقيا. القناة أعادت وضع مصر، والمشرق العربي في قلب الدنيا وجعلتها بؤرة الخريطة العالمية».
البروفسور هالفورد هوسكينز
مؤرخ أميركي معاصر
القناة وموقعها
قناة السويس ممر مائي اصطناعي، يصل ما بين البحر الأحمر في الجنوب والبحر المتوسط في الشمال، وهذا الممر صالح لعبور مختلف أنواع السفن، التجارية منها، أو الحربية، من دون عائق ملاحي، وفي مدة زمنية قصيرة نسبيًا (عدة ساعات). تقع القناة بكاملها داخل الأراضي المصرية، وتفصل ما بين شبه جزيرة سيناء المصرية من الشرق، وبقية التراب المصري في الغرب، بطول يصل الى نحو 163 كلم.
شكًل الموقع الجغرافي للقناة البعد الاستراتيجي لمصر في قلب منطقة الشرق الأوسط، وجعلها لاعبًا جيوستراتيجيًا على مستوى المنطقة من البحر الأحمر والجزيرة العربية، حتى مضيق باب المندب والدول المشاطئة. وبما أن مصر قائمة في قلب العالم العربي، وهي نقطة الوسط بين شرقه وغربه وجنوبه، وأكثر دوله سكانًا، وأعرقها تاريخًا وحضارة، بالإضافة إلى أنها نقطة الوصل والفصل بين قارتي آسيا وافريقيا، فقد رفع وجود القناة في أراضيها من أهميتها وجعلها محط أطماع الدول الكبرى، والإمبراطوريات القديمة. هذه الأهمية القديمة لمصر تعاظمت مع وجود القناة وحركة التجارة البحرية والأساطيل الاستعمارية، منذ انشائها، بسبب وجود المستعمرات البريطانية في الهند، واكتشاف النفط في الخليج مع مطلع القرن العشرين، وبروز قوى حيَّة فيها منذ محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. كل ذلك أهّل مصر لكي تضطلع بدور محوري يجمع العالم العربي خصوصًا مع إرهاصات سقوط الإمبراطورية العثمانية، فكان لا بد من زرع كيان يقطع ما تحاول مصر وصله. ولأن بريطانيا كانت الدولة العظمى في العالم عصرذاك، فقد احتلَّت مصر وفرضت سيطرتها على القناة، وعملت مع حلفائها على تفتيت العرب، ورعت إنشاء «دولة اسرائيل» بالقوّة فوق أرض فلسطين المجاورة لمصر، وقناة السويس، وحتى خليج العقبة. فمصر كانت عبر التاريخ الممر الإلزامي البري والطبيعي ما بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وهي كذلك الممر البحري الاستراتيجي الذي يصل البحر المتوسط وأوروبا بالمحيط الهندي المواجه للخليج العربي، والهند، امتدادًا حتى الصين شرقًا، والمستعمرات الإفريقية الشرقية جنوبًا، وهذه المنطقة كلها، تشكل مدى حيويًا وجيوستراتيجيًا لأمن الغرب ومصالحه. ومن هنا كان التركيز الدولي في الاستحواذ على مصر والقناة كمفتاح استراتيجي خيضت من أجله حروب كثيرة، وسُفكت دماء غزيرة، وانتهكت قوانين دولية وأعراف متعدِّدة.
تاريخ إنشاء القناة
تعود فكرة إنشاء قناة تربط ما بين البحر الأحمر والبحر المتوسط إلى عهد الفراعنة في الألف الثاني قبل الميلاد كما يدلُّ بعض الآثار والمخطوطات القديمة، التي تشير إلى محاولات قام بها بعض الفراعنة لوصل البحر الأحمر بنهر النيل عبر قناة تعبرها السفن من مصر إلى المتوسط، أو منها إلى البحر الأحمر والشرق. ولكن يبدو أن الخوف من طغيان مياه البحر الأحمر المالحة على مياه النيل العذبة قد أوقف هذا المشروع. غير أن المحاولات لوصل النيل بالبحر الأحمر لم تتوقَّف في العصور التي تلت، فقد استمرت في العهود: الفارسي واليوناني والروماني، التي حكمت مصر، وكذلك في العهد العربي الإسلامي، إلى أن توقفت في العصر العباسي، ولم تُستأنَف حتى مجيء نابوليون بونابرت إلى مصر مطلع القرن التاسع عشر، وتعيينه بعثة لدراسة إمكان وصل البحرين المتوسط والأحمر بقناة. لكن الخبراء استنتجوا بعد الدراسات أن مياه البحر الأحمر ذات مستوى أعلى من مستوى البحر المتوسط بحوالى 10 أمتار الأمر الذي يعيق عمليه الاتصال بين البحرين.
بعد ذلك بأربعين سنة توصَّلت لجنة أخرى فرنسية إلى أن اللجنة الأولى قد أخطات في الحساب حيث تبيَّن لها أن لا فرق في مستوى البحرين، ومن الممكن شق قناة لا تؤثر في منسوب مياههما. تلقَّف الفكرة مساعد القنصل الفرنسي في مصر فرديناند دي ليسبس، وكان صديقًا للخديوي المصري سعيد، فاتفقا على إنشاء شركة عالمية مساهمة لشق القناة. وبالفعل فقد بوشر العمل في شقِّها العام 1859 وانتهى بعد عشر سنوات، وافتتحت العام 1869.
حاولت بريطانيا العظمى عرقلة المشروع الفرنسي لأنه يهدَّد مصالحها الإستراتيجية وطرقها إلى الهند، ويجعلها في خطر الاستهداف الفرنسي لضرب سيطرتها الاستعمارية في الشرق. فاغتنمت فترة إفلاس الحاكم المصري واشترت كمية ضخمة من أسهمه في الشركة بحيث أصبحت من أكبر المساهمين فيها.
وبعد ذلك عمدت إلى احتلال مصر العام 1882 والسيطرة على القناة بكاملها، لتضمن مصالحها الاستراتيجية، وطرق المواصلات البحرية التي تربطها بمستعمراتها الإفريقية، والهند والخليج، وأقامت قواعد عسكرية كبيرة على طول مجرى القناة.
الصراع على السويس
حاول الأتراك في الحرب العالمية الأولى السيطرة على القناة فأرسلوا حملة كبرى بقيادة جمال باشا في شباط 1915، ولكنها فشلت أمام القوات الإنكليزية التي تابعت تقدمها شمالاً لتحتل سوريا والعراق وتطرد الأتراك منهما، وذلك بالاشتراك مع الفرنسيين الذين اقتسمت هذه المنطقة معهم وفق اتفاقية «سايكس بيكو».
أما في الحرب العالمية الثانية، فقد حاول الإيطاليون والألمان الوصول إلى القناة واحتلالها سواء من جهة الجنوب عبر الحبشة، أو من جهة الغرب عبر ليبيا وبمساعدة الألمان الذين كانوا يخطِّطون للوصول إليها عبر بلاد القوقاز بعد احتلال ستالينغراد، والإنتقال لاحتلال سوريا ولبنان وفلسطين وصولاً إلى مصر. ولكن الإنكليز أفشلوا المخطط بضرب الجيش الإيطالي في الجنوب وإيقاف جيش رومل عند «العلمين»، كما أفشل الروس الزحف الألماني على أبواب ستالينغراد. وبذلك بقيت القناة تحت سيطرة الجيش البريطاني.
إحتفظت بريطانيا بقوات كبيرة في منطقة القناة بعد الحرب لحمايتها وتأمين العمل فيها، وذلك بموجب معاهدة مع السلطات المصرية. بيد أن الوجود البريطاني هناك كان كافيًا للتدخل في السياسة المصرية وتوجيهها وفق مصالحها الاستراتيجية. وهذا ما كان يسبِّب نقمة وتململاً لدى القوى السياسية المصرية، والملك المصري، وكذلك الجيش المصري.
بعد إطاحة الملك فاروق (ملك مصر) العام 1952، حاول الحكم الجديد تحسين الشروط المصرية في المعاهدة المتعلقة بالقناة فطالب بجلاء القوات البريطانية عنها. وأمام رفض الانسحاب وامتناع الغرب عن تمويل مصر والحكم الجديد سواء لبناء السد العالي، أو لشراء أسلحة جديدة، قرَّرت مصر تأميم القناة، وقد تمّ ذلك منتصف العام 1956. وجاء الرد البريطاني عدوانًا «عسكريًا» بالتواطؤ مع فرنسا وإسرائيل، لإعادة احتلال القناة في مطلع تشرين الثاني 1956، ولكن المقاومة المصرية الباسلة والتدخل الدولي الروسي والأميركي، أوقفا هذا العدوان وأجبرا القوات المعتدية على الانسحاب.
بعد ذلك تعرَّضت القناة لحرب العام 1967 حيث دارت أشرس المعارك على ضفتيها ما جعلها غير صالحة للملاحة. ثم كانت حرب العام 1973، حيث عبرت القوات المصريـة القنــاة إلى الجبهة الشرقية منهــا بعمليـة عسكرية رائعة ودحرت القوات الإسرائـيلية التي كانت ترابط هناك منذ العام 1967. وانتهت هذه الحرب بعقد اتفاقات بيـن مصر وإسرائيل أدّت إلى إعادة فتح القنـاة أمـام الملاحة العام 1975.
كما أن اتفاقات للسلام وُقِّعت بين الدولتين العام 1979، ما سمح للقناة بالعمل وفق رؤية استراتيجية جديدة بحيث تستفيد مصر من عائدات القناة كمرفق مصري عام يخضع في تعاملــه مع الآخرين لاعتبارات المصلحة المصرية والقوانين والمعاهدات والاتفاقات الدولية ذات الصلة، وهذا ما أتـاح المرور للدول كافة ومنها «دولة اسرائيل»، إذ نصَّت معاهدة القسطنطينية للعام 1888 على حق جميع الدول في عــبورها في أوقات السلم والحرب (ما عدا تلك التي تكون في حالة حرب مع مصر).
أهمية القناة الجيوستراتيجية
يبلغ طول القناة ملاحيًا حوالى 193 كلم وفق خط سير السفن خلالها، وعبر البحيرات التي تعبرها من مدينة السويس جنوبًا وحتى بور سعيد في الشمال، وعرضها ما بين 190 و200م، ويجري العمل على توسيعها وصيانتها، أما العمق فحوالى 22 م.
وتتولَّى «هيئة قناة السويس» المصرية الإشراف على إدارة هذا المرفق الحيوي والمهم، سواء على الصعيد الاستراتيجي المصري، أو على المستوى الجيوستراتيجي العالمي. تعتبر الولايات المتحدة قناة السويس من أهم النقاط الحيوية والمعابر المائية الاستراتيجية في أمنها القومي، لذلك فهي تحتفظ بقواعد لها في بعض البحيرات التي تمر القناة فيها (التمساح، والمرّة) ما يتيح لها التدخل السريع في حال تعرُّض القناة لأي خطر على أمنها أو غرق إحدى السفن، أو إقفالها، أو غيرذلك من المخاطر الداخلية أو الخارجية، وقد أقامت مصر جسرًا عاليًا فوق القناة (كوبري السلام) يربط ما بين ضفتيها.
الأهمية الاقتصادية
تعتبر القناة أكبر مصدر للدخـل القومي المصري بعد النفط والغاز، والسياحـة، فقــد راوح مردودهـا ما بين 4 و5 مليارات دولار في كل من الأعوام 2007 و2008 و2009.
وقد تأثـر بنتيجــة الأزمـة الاقتصادية العالمية العام 2008، والقرصنة الصومالية قرب باب المندب (الطرف الجنوبي للبحر الاحمر)، كمــا أن تغيُّر الظـروف البيئية وذوبان الجليد في القطب الشمالي أثّر سلبًا على حركة السفن التي تعبر القناة.
وتشير تقارير شركة القناة إلى عبور ما بين 1200 و1500 وأحيانًا 1800 سفينة شهريًا، ما يدل على الدور الكبيـر الذي تضطــلع به القنــاة في حركــة التجـارة العالميــة والنقل البحري (10 إلى 15% من حجم النقــل التجاري البحري)، من الشرق إلى الغرب وبالعكس، وبخاصـة ناقــلات النفــط المتوجِّهــة من الخليــج إلى أوروبــا أو إلى أميركــا، فهي توفِّر على هـــذه السفن آلاف الكيلومترات وعشرات الأيام من رحلاتهــا حول رأس الرجـاء الصالح، ما يعني توفـير ملاييـن الدولارات على الشركات الناقلة والمستـهلكين في العالم.
أمن القناة اليوم
ترى مصر أن أمنها الاستراتيجي يرتبط بأمن قناة السويس المرتبط بدوره بشكل أساسي بأمن البحر الأحمر والدول المشاطئة له على الضفتين، أي دول الجزيرة العربية، السعودية واليمن، كذلك الدول الأفريقية (السودان وأريتريا ودجيبوتي والصومال) المتاخمة لباب المندب، وهو المضيق الذي يصل البحر الأحمر بالبحر العربي والمحيط الهندي وامتداداته داخل بلاد الخليج العربي الفارسي ودوله، لذلك تعتبر مصر أن أمن الخليح ودوله هو جزء من أمنها الاستراتيجي، وهي معنية بحماية أمن هذه الدول ومواردها ضد المخاطر المتأتية من القوى التي تقف في الصف المعادي أو المخالف لتوجهات مصر السياسية والفكرية، وارتباطاتها الاستراتيجية مع سياسات الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. كذلك فإن أمن القناة ومصر يرتبطان أيضًا بأمن البحر الأبيض المتوسط، وحتى مضيق جبل طارق، وهذا يعني ارتباط القناة بحركة السياسة والاقتصاد والتجارة في العالم، وحركة الأساطيل التجارية في الاستيراد والتصدير، الأمر الذي يستدعي حركة الأساطيل الحربية الأوروبية والأميركية في البحر المتوسط والمحيط الهندي والخليج وحتى بحر الصين واليابان، وربما المحيط الهادئ، وبذلك تتشكَّل أهمية قناة السويس الجيوستراتيجية كمعبر أقصر، وأسرع، وأقل كلفة، ما بين شرق الكرة الارضية، وغربها، ما بين مصادر الطاقة الضرورية للغرب، ونقلها الآمن، وما بين أسواق الاستهلاك الضرورية لتصدير الصناعات الغربية إلى الشرق.
ومع هذه الأهمية الاقتصادية الاستراتيجية للقناة، تتكثَّف هموم أمنها سواء بالنسبة إلى مصر، أم لبقية دول العالم وبخاصة بعد المتغيِّرات الأخيرة التي حدثت في مصر وتداعياتها الإقليمية والعالمية.
هامش:
• إتفاقية القسطنطينية: تعتبر كدستور للقناة، وتتلخص أحكامها بما يأتي: تفتح القناة لمرور المراكب التجارية والحربـية لجميع الدول، وقـت السلم والحرب، وتتعهد الدول المتعــاقدة بألا تقــوم بــأي عمــل من شأنــه عرقلة المــلاحة في القــناة، أو القيـام بأية أعمال عدائية فيها، أو ضدها، كذلك تتساوى جميع الدول في الحقوق في أثناء عبور القناة، ولا يجوز التمــييز في المعامـلة بين دولة وأخرى. وهناك قواعــد تفصيلية أخرى تتعلَّق بالمــرور وشروطه في السلم، والحرب، موجودة في المعاهدة.
• ملفات السويس: محمد حسنين هيكل، 1986، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ج.م.ع.
• Google - Wikipedia - Suez canal.
• Google en.wikipedia - Suez canal history.
• Google en.wikipedia - Suez canal crisis.
• CIA – world fact book – Egypt.
• www.suezcanal.org.eg/ Suez Canal authority.