- En
- Fr
- عربي
نقاط ساخنة
”إعادة أميركا دولة عظمى مجددًا“، شعار رفعه رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب خلال ترشّحه للانتخابات الرئاسية الأميركية. وهو أعلن في خطاب قسَمه عن الخطوات التي سيتّخذها من أجل تحقيق شعاره، ومن بينها وقف تدفّق المهاجرين من أميركا الوسطى، وفرض تعريفات جمركية وضرائب على الدول الأجنبية، أمّا في ما يتعلّق بقناة بنما، فقد اعتبر أنّه تمّ التخلي عنها بشكلٍ أحمق…
قال الرئيس ترامب حول هذا الموضوع: «الرئيس وليام ماكينلي جعل بلادنا غنيّة جدًا من خلال التعريفات الجمركية، وقدّم للرئيس ثيودور روزفلت الأموال اللازمة للعديد من الأشياء العظيمة التي قام بها، بما في ذلك قناة بنما، التي تمّ التخلّي عنها بشكلٍ أحمق لمصلحة دولة بنما بعد أن أنفقت الولايات المتحدة أموالًا أكثر مما أنفقته على أي مشروع آخر، وفقدت آلاف الأرواح أثناء بناء القناة».
وأضاف: «لقد تمّ التعامل معنا بشكلٍ سيّئ للغاية بسبب هذه الهدية الحمقاء التي ما كان ينبغي أبدًا تقديمها، وتمّ كسر الوعد الذي قطعته بنما لنا، وانتهاك الغرض من اتفاقنا وروح معاهدتنا، ويتمّ فرض رسوم مرتفعة للغاية على السفن الأميركية والتعامل معها غير عادل على الإطلاق، وهذا يشمل البحرية الأميركية. وفوق كل شيء، تدير الصين قناة بنما، لكن نحن لم نسلّمها للصين، لقد أعطيناها لبنما، وسنستعيدها».
أعلن الرئيس ترامب بصريح العبارة عن عزمه على استرداد بلاده لقناة بنما لأسبابٍ اقتصادية وأمنية وسياسية واستراتيجية، وهذا ما يجعل القناة في دائرة الحروب الجيوسياسية.
فما هي قصة قناة بنما؟ وكيف انتقلت السيادة على القناة من الأميركيين إلى البنميين؟ وما هي الإجراءات التي اتّخذتها حكومة جمهورية بنما خلال إدارتها للقناة بين العامين 2000 و2025؟ وهل تدير الصين القناة فعلًا؟ وما هي أهدافها ومصالحها؟ وهل سيتمكّن الرئيس ترامب من تنفيذ تهديداته في ظل التحدّيات التي تواجهها قناة بنما؟
البدايات
عَبَر الإسباني بالبوا (Vasco Núñez de Balboa) برزخ بنما سنة 1513 ووصل إلى المحيط الهادئ. كانت في تلك المنطقة شعوب أصلية وهي «الكونا» و«الإمبيراس» و«نغابي-بوغلي»، وبعد أن استعمرتها إسبانيا، ظهرت فئة المستيزو (خليط بين الإسبان والهنود). في العام 1519، أسس بيدرو آرياس دافيلا مدينة بنما التي أصبحت طريقًا لعبور حمولات الذهب والثروات من ساحل المحيط الهادئ لقارة أميركا إلى إسبانيا. شبّ حريق هائل في مدينة بنما أدى إلى تدميرها، فأُعيد بناء مدينة جديدة سنة 1673 في موقع يبعد 2 كلم جنوب غرب موقعها القديم. سنة 1821 انفصلت بنما عن إسبانيا واتّحدت مع كولومبيا الكبرى (ضمّت كلًا من كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبنما وغيانا وشمال البيرو، وشمال غرب البرازيل).
في العام 1823، أصدر الرئيس الأميركي جيمس مونرو مبدأ رئاسيًا مؤدّاه أنّ «الولايات المتحدة لن تسمح بتكوين مستعمرات جديدة في الأميركيتين، بالإضافة إلى عدم السماح للمستعمرات التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها». عبّر هذا المبدأ عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بهدف حماية المصالح الأميركية، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من عقيدتها السياسية. نتيجةً لمبدأ مونرو، وقّع وزيرا خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا في العام 1850 معاهدة تمّ بموجبها الاتفاق على إنشاء قناة في أميركا الوسطى على أن تكون تحت الرقابة المشتركة للدولتين معًا ورعايتهما، وأن يكون حياد هذه القناة كما سلامتها وأمنها مكفولًا ومضمونًا من الدولتين معًا، وأن تمتنع كلتاهما عن احتلال أو استعمار أو ضم أي جزء من أميركا الوسطى، أو اكتساب ميزات تنفرد بها ولا تشاركها فيها الدولة الأخرى. لكن النفوذ البريطاني الواسع في أميركا الوسطى، واحتلالها لنيكاراغوا حالا دون تحقيق المساعي الأميركية. لذلك، لم تحقّق المعاهدة الغرض المرجو من عقدها وهو العمل على إنشاء القناة، بل كانت مصدرًا للمتاعب وسببًا للاحتكاك السياسي بين الدولتين.
حُلّت كولومبيا الكبرى سنة 1830 وتمّ تأليف جمهورية غرناطة الجديدة التي تكوّنت من كولومبيا الحالية وبنما، مع أجزاء صغيرة من أراضي الإكوادور وفنزويلا. وسرعان ما تحوّل البرزخ إلى طريقٍ لعبور المسافرين إلى الساحل الغربي لأميركا الشمالية، وازدهرت بنما تجاريًا بسبب البحث عن الذهب في كاليفورنيا في تلك الفترة، فهاجر إليها سكان من جميع أنحاء العالم عبر طرق مختلفة، وأصبحت بنما الطريق الأقصر والأسهل بين شرق القارة الأميركية وغربها، مما أدى إلى إعادة النظر في بناء طرق اتصال مثل القنوات والسكك الحديدية من أجل مرور البضائع والركاب. تفاوضت الولايات المتحدة مع كولومبيا على بناء مبانٍ إدارية، وفي العام 1855 تمّ افتتاح أول سكة حديد لبنما. اعتُبرت هذه السكة من أهم الأعمال الهندسية آنذاك لأنّها عَبَرت البرزخ وحوّلت مدينة بنما إلى مدينة رئيسية بدلًا من كولومبيا.
حرب البطيخ
على الأثر، وقعت أعمال العنف بين البنميين والأميركيين، وتطورت إلى ما عُرف بـ «حرب البطيخ» سنة 1856 ما أدى إلى حرق مباني سكة الحديد. اضطرّ الجيش الأميركي إلى توفير الحماية للأميركيين خلال عبورهم إلى بنما، فأرسل كتيبة عسكرية لحماية محطة سكة الحديد واستعادة النظام في المدينة. كان هذا القرار بمثابة أول حالة تدخّل عسكري أميركي في بنما بهدف ضمان الحيادية والانتقال الحُر في البرزخ. من جهتها، اعترفت حكومة غرناطة الجديدة بمسؤوليتها عن حرق المباني الأميركية، ووافقت على دفع تعويضات للولايات المتحدة مقابل الأضرار التي تسبب بها البنميون، وقيمتها 412,394 دولارًا أميركيًا. وسنة 1858، ونتيجة المطالبة بدولةٍ لامركزية، تحوّلت جمهورية غرناطة الجديدة إلى كونفدرالية باسم جمهورية الاتحاد الكونفدرالي الغرناطي (1858-1863)، ثم انتقلت تبعية بنما إلى الولايات المتحدة الكولومبية (دولة فدرالية ضمّت كولومبيا وبنما) (1863-1886)، وأصبحت أخيرًا إقليمًا من أقاليم جمهورية كولومبيا سنة 1886 وحتى انسحابها منها واستقلالها في العام 1903.
الفرنسيون من السويس إلى بنما
خطّط الفرنسيون لربط البحار والمحيطات ببعضها بعضًا عبر حفر قنوات بحرية تختصر المسافة والوقت وتُجنّب السفن المخاطر الطبيعية. وفي هذا الإطار شملت دراساتهم الهندسية إنشاء قناة السويس لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وقناة بنما لربط المحيطين الهادئ والأطلسي. فنجحوا في تنفيذ الأولى وفشلوا في تنفيذ الثانية.
بالنسبة إلى قناة السويس، منح الخديوي اسماعيل حاكم مصر سنة 1854 امتياز حفر قناة السويس للدبلوماسي الفرنسي المهندس فرديناند دو ليسبس الذي أسّس الشركة العالمية لقناة السويس سنة 1858 برأسمال قدره 200 مليون فرنك. بدأت أعمال الحفر سنة 1859 وافتُتحت رسميًا أمام الملاحة البحرية سنة 1869، واستغرقت أعمال حفرها 10 سنوات توفّي خلالها عدد كبير من العمال. وقد لاقى هذا المشروع اعتراضات «سياسية» بخاصةٍ من انكلترا والسلطنة العثمانية.
بعد نجاحه في شق قناة السويس، أسّس فرديناند دو ليسبس الشركة العالمية لقناة بنما سنة 1874 وتدفّق المستثمرون لاستثمار أموالهم في هذه القناة بعدما رأوا نجاح قناة السويس، وبدأ الفرنسيون العمل سنة 1879 لكنهم واجهوا صعوبات كثيرة حالت دون إكمالهم المشروع، أبرزها الطبيعة الوعرة للموقع، والفساد الإداري، والتكلفة الباهظة التي تكبّدتها الشركة – قُدّرت بـ 260 مليون دولار- ما أدى إلى إفلاسها. يُضاف إلى ذلك انتشار الأمراض التي أدّت إلى وفاة أكثر من 20 ألف عامل، وعقبات تقنية سببها الفارق بين مستوى مياه المحيطين (الهادئ والأطلسي) الذي بلغ 26 مترًا. أمام هذا الواقع، تمّت تصفية شركة قناة بنما الفرنسية سنة 1889، وبَذلت جهودًا لإنقاذ مالها عبر بيع أصولها وحقوقها للأميركيين، فبدأت المفاوضات بين الجانبين.
الحرب الأهلية والانفصال عن كولومبيا
بين 1899 و1902 جرت في كولومبيا حرب أهلية (حرب الألف يوم)، وتحوّل برزخ بنما إلى ساحة دموية بين الليبراليين والمحافظين. انتهت الحرب بتوقيع معاهدة سلام على متن السفينة الأميركية ويسكونسن، وعلى أثر ذلك قرّرت الولايات المتحدة الأميركية شراء حقوق الشركة الفرنسية وامتيازاتها لاستكمال حفر قناة بنما. وسنة 1903، باشر وزير خارجية الولايات المتحدة John Hay مفاوضات مع نظيره الكولومبي Thomas Herran من أجل عقد معاهدة تسمح للولايات المتحدة باستكمال حفر القناة واستثمارها لمدة 100 عام قابلة للتجديد، مقابل مبلغ 10 ملايين دولار للدولة الكولومبية، وإيجار سنوي قدره 250 ألف دولار. وافق مجلس الشيوخ الأميركي على معاهدة Hay-Herran في حين رفضها مجلس الشيوخ الكولومبي لأنّ المبلغ المعروض من قِبل الأميركيين كان زهيدًا جدًا مقابل المبلغ الذي عرضوه على شركة بنما الفرنسية وهو 40 مليون دولار.
بعد فشل الاتفاق، دعمت الولايات المتحدة، سياسيًا وعسكريًا، انتفاضةً مخطَّطًا لها في بنما من أجل الانفصال عن كولومبيا وتأسيس جمهورية مستقلّة يمكنها التوقيع مع واشنطن على معاهدة تسمح لها بشقّ القناة وفق شروطها.
استقلال بنما وشقّ القناة
اندلعت الثورة في بنما سنة 1903 نتيجة تشجيع الأميركيين لهم بفصل البلد عن كولومبيا، وبينما اعترضت انكلترا التي كانت على خلاف مع الولايات المتحدة في مسألة قناة بنما، وافق الفرنسيون وانخرطوا في لعبة إنشاء دولة بنما، وذلك من أجل تحقيق هدفهم وهو بيع الشركة العالمية لقناة بنما للأميركيين بهدف التقليل من الخسائر المادية التي تكبّدوها.
استطاع البنميّون سنة 1903 فصل البرزخ عن كولومبيا بعد عدّة محاولات باءت بالفشل، وأنشؤوا جمهورية بنما المستقلّة على مساحة 77,082 كلم2. فسارعت الولايات المتحدة إلى إعلان اعترافها بها، وأرسل الرئيس ثيودور روزفلت فرقًا عسكرية بحرية لحمايتها، وبات باستطاعة البنميين التفاوض مباشرةً مع الأميركيين من أجل إنشاء القناة. عندها، سارعت بريطانيا إلى مصالحة الولايات المتحدة من أجل فك عزلتها وتحصين حدود مستعمراتها في القارة الأميركية. في المقابل، حاولت كولومبيا منع انفصال البرزخ عنها، فقدّمت عروضًا سياسية للبنميين للتراجع عن قرارهم، منها الموافقة على المعاهدة الخاصة بالقناة وجعل مدينة بنما عاصمة كولومبيا، غير أنّ البنميين رفضوا هذه العروض وحسموا قرارهم بالمضي قُدمًا بجمهوريّتهم.
بعد إعلان استقلال بنما في 3 تشرين الثاني 1903، قامت الحكومة الجديدة فورًا من خلال سفيرها المفوّض لها بواشنطن، المهندس الفرنسي فيليب بونو فاريّا (Philippe Bunau-Varilla)، بالتوقيع في 18 تشرين الثاني 1903 على معاهدة لبناء قناة عبر البرزخ مع حكومة الولايات المتحدة ممثّلةً بوزير خارجيّتها جون هاي. سمحت معاهدة هاي- بونو- فاريّا (Hay-Bunau-Varilla) ببناء واستكمال الطريق غير المنجز من قبل شركة دو ليسبس وحكومة كولومبيا. وبموجب هذه المعاهدة أنشأت الحكومة منطقة قناة بنما التي بلغت مساحتها 1432 كلم2، وهي منطقة خاضعة وتابعة للولايات المتحدة وبإدارتها، تقع داخل حدود جمهورية بنما، وتحتوي على قناة بنما ومنشآتها وبقية المنطقة باستثناء مدينتي بنما وكولون.
بدأ الأميركيون في بناء القناة سنة 1904 بعدما اشتروا حقوق الشركة الفرنسية وممتلكاتها بما فيها سكة الحديد بمبلغ 40 مليون دولار. تولّى المهندس الأميركي جون ستيفنز قيادة المشروع، وقام بتغيير التصميم الأصلي للقناة لجعله أكثر قابلية للتنفيذ. أدرك المهندسون الأميركيون أنّ التصميم الفرنسي الذي كان يعتمد على مستوى سطح البحر غير عملي، لذا تمّ تغيير التصميم وتطوير السكك الحديدية، فضلًا عن إعادة إعمار وإنشاء شبكة المياه والصرف الصحي في مدينتي بنما وكولومبوس، والتي كانت تعتبر واحدة من العقبات التي أدّت إلى فشل الشركة الفرنسية. كما تمّ التركيز على مكافحة البعوض والأمراض بخاصةٍ الملاريا والحمى الصفراء التي كانت السبب الرئيسي لوفاة العمال في المشروع الفرنسي. فتمّ توفير الرعاية الصحية للعمال، لكن على الرغم من هذه الإجراءات، توفي 5600 عامل أميركي.
انتهت الأعمال في قناة بنما سنة 1914 وافتُتحت أمام حركة الملاحة البحرية لتصبح ممرًّا مائيًا حيويًا بطول 82 كلم وعرض يراوح بين 91 مترًا و300 متر، يربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، ما يختصر مسافات السفر ويوفّر تكاليف النقل والوقت. مثلًا، السفن الأميركية التي كان عليها اجتياز مسافة تفوق 21,000 كلم للانتقال ما بين سواحل الولايات المتحدة على المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي، باتت تجتاز مسافة 8000 كلم فقط بعد إنشاء القناة.
كلّف استكمال قناة بنما الأميركيين 380 مليون دولار، واعتبرت أعجوبة هندسية، وأتاحت الربط بين 160 دولة و1700 ميناء حول العالم. واتسمت بأهمية استراتيجية بخاصةٍ للأغراض العسكرية خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة. وبات يمر عبرها حوالى 14 ألف سفينة سنويًا تحمل بضائع تتجاوز قيمتها 270 مليار دولار وتشكّل حوالى 5٪ من حجم التجارة العالمية. وتعتبر الولايات المتحدة أكبر مستخدم للقناة إذ يمر عبرها حوالى 70٪ من إجمالي حركة السفن الأميركية، يليها الصين واليابان. هكذا حقّق الأميركيون حلمهم بإنشاء قناة بنما من خلال إسهامهم بتأسيس دولة بنما، ونالوا بموجب معاهدات خاصة بالقناة، إدارة منطقة بمسافة 10 أميال على طول الممر المائي.
انتقال السيادة على القناة إلى البنميين
بُعيد افتتاح القناة مباشرةً سنة 1914، أثار رئيس بنما Belisario Porras Barahona موضوع الحاجة إلى معاهدة جديدة تضمن حقوق جمهورية بنما في القناة. وللتهرّب من هذه المسألة، تحجّجت الولايات المتحدة بالحرب العالمية الأولى، وعمدت إلى إلزام كولومبيا سنة 1922 بدفع 25 مليون دولار كتعويضات لبنما، من أجل إزالة كل الخلافات التي أنتجتها الأحداث السياسية في العام 1903 مقابل إعطاء كولومبيا الحق في حرية مرور سفنها الحربية عبر القناة. وافقت كولومبيا وتبادلت السفراء مع بنما، وكانت تلك بداية للعلاقات الدبلوماسية والاعتراف الكامل بين البلدين. كما ذكرت بعض المراجع أنّ الولايات المتحدة دفعت تعويضات لكولومبيا عن القناة بقيمة 10 مليون دولار كي لا تلجأ هذه الأخيرة إلى المحاكم كونها تعتبر أنّ القناة كانت ملكها وتقع ضمن أراضيها، وهي التي وقّعت على الاتفاق مع شركة دي ليسبس، لذلك على واشنطن أن تدفع لها كما دفعت للشركة الفرنسية.
في سنة 1936، تمّ التوقيع على معاهدة بين رئيس جمهورية بنما هارموديو أرياس مدريد، ورئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت، وقد نصّت على إلغاء التدخل العسكري الأميركي في الشؤون الداخلية لدولة بنما من أجل المحافظة على النظام، مقابل المحافظة على الامتيازات في إدارة القناة، كما رُفعت قيمة الإيجار السنوي من 250,000 إلى 430,000 دولار أميركي. وفي العام 1962، تمّ افتتاح الجسر الذي يربط بين ضفتي برزخ بنما عن طريق البر وسمّي «جسر الأميركيتين» واعتبر من البنية الخاصة بقناة بنما. ويبلغ طول الجسر نحو 1654 مترًا، وارتفاع قوسه 117 مترًا ما يسمح بمرور السفن الكبيرة.
كان للاتفاقيات التي أبرمتها الولايات المتحدة ومنحتها سيطرة تامة على منطقة القناة، الأثر الأكبر في تنامي الشعور باستياء الشعب البنمي، بخاصةٍ بعد نجاح مصر في تأميم قناة السويس سنة 1956 والنجاح في إدارتها، فاندلعت احتجاجات العام 1964 وشهدت منطقة قناة بنما توترات وعنفًا بين البنميين والأميركيين. بدأت الاحتجاجات عندما حاول طلاب بنميون رفع العلم البنمي في منطقة القناة ما أدى إلى اشتباكات مع قوات الأمن الأميركية. أسفرت هذه الأحداث عن مقتل 22 بنميًا و4 جنود بحرية أميركيين. وعلى إثرها، قام رئيس بنما Roberto Chiari بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وأعلن رفضه لإعادتها مرة أخرى حتى توافق أميركا على مفاوضات للاتفاق على معاهدة جديدة بشأن القناة. فوافق الرئيس الأميركي Lyndon Johnson على إجراء محادثات من أجل القضاء على أسباب النزاع بين بنما وأميركا. استمرت المفاوضات لمدة 13 عامًا قبل التوصّل إلى اتفاقية مشتركة لإدارة القناة في العام 1977.
اعتُبرت أحداث 1964 نقطة تحوّل في تاريخ العلاقات بين بنما والولايات المتحدة، ويتم إحياء ذكرى هذه الأحداث في بنما بيوم الشهداء في شهر كانون الثاني من كل عام، كما أدّت هذه الأحداث إلى تغييرات دستورية وسياسية جوهرية، فقد أصدرت حكومة الجنرال عمر توريخوس العسكرية الدستور البنمي سنة 1972 استجابةً للمطالب الشعبية، والذي ما زال ساريًا حتى الآن بعد تعديله عدة مرات، وقد خُصّص فصل كامل منه في 11 مادة بشأن القناة وحقوق بنما كدولةٍ ذات سيادة في السيطرة على القناة التي تقع في أراضيها.
استجابت الولايات المتحدة لمطالب بنما، ووقّعت سنة 1977 على معاهدتين بين الرئيس الأميركي جيمي كارتر، والرئيس البنمي عمر توريخوس، عُرفتا بمعاهدتي «توريخوس-كارتر». الأولى، بشأن «حياد الملاحة وتشغيل القناة»، وبموجبها أقرّت بنما بمبدأ حياد الملاحة في القناة، واتفقت الدولتان على حق الولايات المتحدة الدائم في الدفاع عن القناة ضد أي تهديد يتعارض مع هذا المبدأ. والثانية، بشأن انتقال السيطرة على قناة بنما وإدارتها بنهاية العام 1999 من الولايات المتحدة إلى جمهورية بنما، وبموجبها أُلغيت المعاهدات السابقة المنظمة للوضع القانوني للقناة، وأقرّت باستمرار سيطرة الولايات المتحدة على القناة حتى نهاية العام 1999، واعترفت الولايات المتحدة بسيادة بنما على القناة، ونقلت حوالى 55٪ من مساحتها إليها، وأقرّت بنما بمسؤوليتها بشكلٍ أساسي ومبدئي بالدفاع عن القناة ومنشآتها بعد العام 1999، وإذا استدعت الحاجة لطلب المساعدة الدولية بشأن الدفاع عن القناة تكون الأولوية للولايات المتحدة. وقد أجرت بنما استفتاءً شعبيًا لإقرار الموافقة على المعاهدتين في العام 1977، وصدّقت الولايات المتحدة عليهما سنة 1978. وفي العام 1981 توفي رئيس بنما عمر توريخوس بحادث طائرة.
بعد الركود الاقتصادي والفوضى السياسية والعسكرية في بنما، اعتبر حاكم بنما الجنرال Manuel Noriega (1983-1989) أنّ دولته في حالة حرب مع الولايات المتحدة التي قامت بغزو بنما في 20 كانون الأول 1989 واعتقلت الجنرال وحاكمته في محاكمها بتهمة الإتجار بالمخدرات، ووضعت حدًا للديكتاتورية العسكرية البنمية. فتمّ إلغاء الجيش في بنما سنة 1992 مقابل تعزيز الشرطة الوطنية وإنشاء الخدمة البحرية والخدمة الجوية وخدمة حماية المؤسسات. واتّصفت فترة الحكم بين 1994 و1999 بالإصلاحات المكثّفة لدولة بنما، التي شملت خصخصة المؤسسات التي تقدّم الخدمات العامة. وفي انتخابات 1999 فازت أول امرأة بالرئاسة وهي Mireya Moscoso التي التزمت معاهدة «توريخوس-كارتر» ثمّ تولّت جمهورية بنما السيطرة الكاملة على القناة، وتمّ تعديل مواد الدستور المتعلّقة بها، بما يتناسب مع سريان المعاهدة، فتم إنشاء «هيئة قناة بنما»، وهي الجهة الحكومية البنمية المنوط بها تشغيل القناة وإدارتها.
إدارة بنما بين العامين 2000 و2025
أدار البنميّون القناة بنجاحٍ بين العامين 2000 و2025، بعد استلامها رسميًا من الولايات المتحدة في 31 كانون الأول 1999، وفق اتفاقية توريخوس-كارتر. وقد شهدت بنما في هذه الفترة نموًا اقتصاديًا كبيرًا بفضل صيانة القناة وتوسيعها (2007 و2016) لتلبية الطلب المتزايد على التجارة البحرية، والذي ضاعف قدرتها الاستيعابية من خلال إضافة ممر مائي ثالث، ما سمح بمرور سفن أكبر (طول 366 مترًا وعرض 51,25 مترًا)، منها سفن الشحن التجارية، وسفن الحاويات، والسفن الحربية الأميركية، والسفن السياحية. وحققت قناة بنما إيرادات كبيرة خلال هذه الفترة، بلغت حوالى 5 مليارات دولار في العام 2024، أي ما يعادل 4٪ من الناتج المحلّي الإجمالي لبنما.
وعلى الرغم من انتهاء الإدارة العسكرية الأميركية للقناة، حافظت الولايات المتحدة على وجود ونفوذ غير رسمي في منطقتها من خلال اتفاقيات أمنية وتعاون عسكري، بالإضافة إلى استمرار تأثيرها الاقتصادي في المنطقة، بخاصةٍ وأنّ تشغيل الموانئ والمرافق المرتبطة بالقناة أسند إلى اتحاد شركات أميركية، كما تعاقدت بنما مع الشركة الصينية CK Hutchison Holdings، ومقرّها هونغ كونغ، لإدارة ميناءي بالبوا على المحيط الهادئ وكريستوبال على المحيط الأطلسي عند مدخلي القناة، إلّا أنّ هذه الشركة لا تدير القناة نفسها التي هي من مسؤولية هيئة قناة بنما، بل تتعامل مع الخدمات اللوجستية المرتبطة بها مثل الشحن وتفريغ الحاويات.
تحديّات القناة وتهديدات الرئيس ترامب ومصالح الصين وموقف بنما
تواجه القناة تحديات بيئية مثل انخفاض مستويات المياه بسبب الجفاف وتغيّر المناخ، وتحديات لوجستية مثل الصيانة الدورية والتوسعة، كل ذلك أدى إلى زيادة رسوم العبور. وكون الولايات المتحدة هي أكبر مستخدم لقناة بنما، حيث تمر عبرها نسبة كبيرة من حركة السفن الأميركية، اعتبرت واشنطن أنّ تلك الرسوم هي موجّهة ضدّها مباشرةً، بخاصةٍ وأنّها تزامنت مع مخاوفها بشأن زيادة النفوذ الصيني في المنطقة، إذ إنّ شركات صينية تستثمر في الموانئ القريبة من القناة. لذا هاجم الرئيس الأميركي دونالد ترامب إجراءات جمهورية بنما في القناة والرسوم العالية المفروضة، معتبرًا أنّ القناة وقعت في الأيادي الخطأ وأصبحت ضمن النفوذ الصيني، متّهمًا الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر باقتراف خطأ مميت بتنازله عن القناة لأنّ الولايات المتحدة هي التي خلقت جمهورية بنما من أجل إنشاء القناة. وقد اعتبر الرئيس ترامب أنّ الرسوم الباهظة المفروضة أثّرت سلبًا على واشنطن بحربها التجارية مع الصين، كما أنّه تخوّف من توسّع النفوذ الصيني في أميركا اللاتينية بخاصةٍ بعدما منحت نيكاراغوا في تشرين الثاني 2024 حقوق شق قناة نيكاراغوا (طول 270 كلم) لشركات صينية واستثمارها لمدّة 60 عامًا قابلة للتجديد، الأمر الذي سيؤثّر على قناة بنما، وهذا ليس من مصلحة جمهورية بنما لأنّها ستتراجع اقتصاديًا وتخسر موردًا مهمًا. هذا الوجود الصيني في أميركا الوسطى بشكلٍ عام وفي منطقة القناة بشكلٍ خاص، أثار مخاوف الولايات المتحدة التي اعتبرت أنّه يمس بالأمن القومي الأميركي.
أمام هذا الواقع، هدّد الرئيس ترامب بغزو بنما مرّة ثانية واسترجاع القناة، وإطلاق تسمية قناة الولايات المتحدة عليها، رافضًا تهديد المصالح الأميركية من قبل خصومه، كما أنّه رفض مناقشة هذا الموضوع لأنّه أمر مبتوت لديه، وعلى بنما تخفيض رسومها على السفن الأميركية ومنحها امتيازات واستبعاد الصين من إدارة موانئ القناة، وإلّا سيستخدم القوة العسكرية وفرض السيادة الأميركية عليها.
ردّ الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو على تهديدات الرئيس ترامب، رافضًا الاتهامات بتسهيل بسط النفوذ الصيني في قناة بنما، مؤكّدًا أنّ البنميين هم الذين يديرون القناة وليس الصينيون، معتبرًا الشركات الصينية مثل الشركات الأميركية تتعاطى بالأمور اللوجستية. كما شدّد على التمسّك بالسيادة على قناة بنما وأنّ كل متر مربع منها تابع لجمهورية بنما وسيبقى كذلك. وأوضح مسألة ارتفاع الرسوم التي يضعها خبراء في هذا المجال وهي من أجل استرداد التكاليف التي صُرفت على تحسين القناة وصيانتها وتوسيعها، ومن أجل تطويرها. كما كشف في آذار 2025 عن صفقة يعمل عليها لبيع حصة الشركة الصينية في الموانئ البنمية لشركة أميركية (Black Rock)، لكن هذا الاقتراح أثار قلق بكين لأنّ بيع حصة الشركة الصينية قد يهدّد مصالح البلاد في مجالي الشحن والتجارة، بينما الرئيس ترامب احتفل بهذه الصفقة معتبرًا أنّها ستُعيد القناة إلى السيطرة الأميركية.
للصين عدّة مصالح في قناة بنما، تشمل الاستفادة منها لتسهيل التجارة ولتعزيز نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي. فقناة بنما تعتبر ممرًّا مائيًّا حيويًّا لتجارة الصين مع أميركا اللاتينية وأجزاء من أوروبا والولايات المتحدة، مما يزيد من حجم تجارتها واستثماراتها، ويعزّز قوّتها الاقتصادية، ويقوّض النفوذ الأميركي في المنطقة عبر بناء تحالفات وشراكات اقتصادية مع دول أميركا اللاتينية. وتسعى الصين إلى تأمين طرق تجارية آمنة وفعّالة لوارداتها وصادراتها من خلال بناء موانئ ومحطّات، ما يعزّز قدرتها على إدارة حركة البضائع والمسافرين عبر القناة.
وقد استثمرت شركات صينية في بناء مشاريع البنية التحتية في بنما، مثل تمديد مترو مدينة بنما، ومحطة أمادور للرحلات البحرية. وتعتبر هذه المشاريع جزءًا من مبادرة «الحزام والطريق» إذ تسعى الصين لجعلها جزءًا من شبكة الطرق والجسور والموانئ التي تربطها بالعالم ما يمنحها نفوذًا مهمًا على إدارة حركة المرور عبر القناة، بخاصةٍ في مرفأي بالبوا وكريستوبال، الأمر الذي يسمح لها بتحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأمد، منها تقويض الهيمنة الأميركية التقليدية.
أمام هذه الوقائع، يمكن القول إنّ تصريحات الرئيس ترامب لم تنشأ من فراغ، بل لها ما يبرّرها من وجهة نظر الولايات المتحدة. أهم التبريرات، تصرّفات الصين واعتراض الولايات المتحدة أكثر من مرة بشأن زيادة رسوم العبور على السفن الأميركية فقط، ما يشكّل تمييزًا في المعاملة يخرق بنود معاهدتي «توريخوس-كارتر» بشأن حياد القناة. لكن بنما تقول إنّها تطبّق الزيادة على جميع السفن العالمية ولا تستثني أحدًا. في المقابل، على الأميركيين أن يدركوا أنّ بنما أصبحت جمهورية مستقلّة ذات سيادة ولو أنّهم ساهموا في خلقها. ومن الممكن التوقيع على اتفاقية جديدة بين الطرفين تحفظ سيادة بنما وحقوقها، وتُطمئن الأميركيين من جهة أخرى وتحفظ أمنهم. لا تُحسد بنما اليوم على موقفها بين أميركا والصين، فهي لا تستطيع خسارة أيّ منهما، إذ إنّها بحاجةٍ إلى المحافظة على علاقاتها مع الطرفين بما يحفظ لها مصالحها الاقتصادية وحيادها الإيجابي.
المراجع
DTV: أطلس تاريخ العالم، عرّبه عن اللغة الألمانية الياس الحلو، المكتبة الشرقية، ط.3، بيروت، 2012.
André Siegfried: Suez Panama et les routes maritimes mondiales, Armand Colin, Paris, 1948.
Robert W. Aguirre: The Panama Canal, Leiden Netherlands, Boston, 2010.
Micheal Hogan: The Panama Canal in American politics, Carbondale, 1986.
Cassandra Veney and Abide Sabella: China and Taiwan in Latin America and the Caribbean; History, power rivalry and regional implications, Cham, 2024.











