قضايا معيشية

قيادة الجيش:بانتظار الفرج «قدّ بساطك مدّ رجليك...»
إعداد: تريز منصور

إقرار زيادات أجور وتأخر دفعها وتفاقم الأعباء المعيشية أثقلا كاهل العسكريين بالديون

 

تضغط الظروف الإقتصادية والمالية الصعبة التي يمر بها لبنان على المواطنين بقوة، ما يدفع الكثيرين منهم إلى الإقتراض من مصارف ومؤسسات تمويل خاصة وشركات تجارية، من دون أن يستطيعوا سداد ما اقترضوه في المهل المحددة.
حال العسكريين كحال سائر المواطنين، لا بل هي أكثر صعوبة في ظل تفرّغهم الكامل للخدمة العسكرية.


متاهة الإقتراض
لقد أثقلت الديون كاهل العديد من العسكريين بعد أن استسلموا لمغريات المؤسسات المقرضة، وبسبب عجزهم عن ايفاء التزاماتهم تمّ حجز 30 في المئة من رواتبهم كما حجزت ممتلكات آخرين، وهؤلاء، إلى مشاكلهم المادية، باتوا في وضعية مخالفة للقانون فضلاً عن تراجع ادائهم الوظيفي ومعاناتهم مشاكل عائلية.
مدير الأفراد العميد الركن ميلاد طنوس يعلّق على هذا الوضع بالقول، أن مجتمع الجيش هو صورة تعكس واقع المجتمع اللبناني الذي يتخبّط بالأزمة الاقتصادية والمعيشية الضاغطة.
وفي هذه الحالة يلجأ المواطن اللبناني إلى العمل في أكثر من مؤسسـة بغية تأمين لقمة العيش لأسرته وتوفير المستلزمات الضرورية لها. في المقابل، فإن العسكري الذي يواجه الظروف الإقتصادية الضاغطة نفسها، لا يمكنه العمل في مؤسسـات خاصة لتوفير المال اللازم، لأن القوانين تمنعه من العمل خارج المؤسسـة العسكرية، التي عليه أن يضع كل قدراته وجهوده ووقته في خدمتها. لذلك ليس أمام العسكري سوى انتظار القرارات الحكومية بشأن تحسين ظروف المعيشة من خلال الزيادات على الأجور. وعندما تقرّ هذه الزيادات، يسارع الى الاقتراض على أساس أنه سيتقاضى الزيادة والفروقات. في الأعوام الأخيرة تأخر كثيرًا دفع هذه المبالغ (فروقات 1996)، ما أدّى إلى وقوع العديد من العسكريين تحت ثقل الدين، وإلى حجز رواتبهم من أجل تسديد دين المؤسسـات، الأمر الذي انعكس على نفسية هؤلاء، وبالتالي على أدائهم الوظيفي.
وأضاف: «إزاء هذا الواقع يوصي قائد الجيش العسكريين وباستمرار, بالتروّي في مواضيع الاستدانة، والعيش بقناعة انطلاقًا من المثل القائل: «على قدّ بساطك مدّ رجليك»، وأنا أضيف إلى ذلك «ما تقول فول تا يصير بالمكيول»، وبالتالي علينا عدم التصرف وفق الفرضيات قبل تحققها.

 

شؤون العسكريين
للوقوف على مزيد من التفاصيل حول هذه المشكلة زرنا قسم شؤون العسكريين الخاصة الذي يتولى مساعدة العسكريين وعائلاتهم، والموظفين المدنيين لدى وزارة الدفاع الوطني، في حلّ النزاعات المتصلة بحقوقهم وواجباتهم المدنية العامة، سواء كانت تتعلق بأشخاص طبيعيين أو معنويين، وبملاحقة المعاملات العائدة للعسكريين وعائلاتهم لدى إدارات الدولة والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، بغية إنجازها بالسرعة الممكنة وفي الحدود المشروعة، بشرط ألا تكون متعلقة برعاية أوحماية مشاريع استثمارية، أيًّا كان نوعها.
رئيس القسم المركزي العميد محمد الكركي يوضح أن ثمة أقسامًا في جميع المناطق اللبنانية تتولى تسهيل أمور العسكريين. وقال: «يتألف القسم من عدة فروع (إدارة ومعالجة الملفات، الأحوال الشخصية، الاستشارات والمرافعات القانونية)، وهو يعالج: القضايا المالية، المسائل العقارية، الخلافات العائلية، الخلافات مع شركات التأمين، طلبات نقل زوجات العسكريين المدرّسات لدى وزارة التربية، ملفات مع وزارة شؤون المهجرين وصندوق المهجرين، ملفات الأحوال الشخصية إضافة إلى ملفات الخلافات الناشئة بين العسكري ومحيطه السكني».
وفي ما يخصّ الملف المالي موضوع تحقيقنا، قال العميد كركي إن القضية اليوم هي وجود أزمة إقتصادية واجتماعية تشمل المجتمع اللبناني برمّته، والعسكري فرد من هذا المجتمع.
وأضاف: يراوح راتب العسكري بين 850 ألف ليرة لبنانية (راتب جندي) والمليوني ليرة لبنانية (راتب مؤهل أول). وبالتالي إذا أردنا تجزئة هذا الراتب على الأمور الحياتية الأساسية للعسكري والموزّعة بين الإسكان، والمدارس، وقسط التعاضد وأقساط أخرى... نجد أن القسم اليسير المتبقي من الراتب لا يسمح له ولعائلته العيش بكرامة حتى نهاية الشهر. في المقابل يمنع القانون العسكري من القيام بأي عمل مأجور يسانده في تغطية النفقات، إسوة بأي مواطن عادي يعمل في أكثر من مؤسسـة كي يستطيع الصمود ومواجهة الأزمة المعيشية الخانقة. ناهيك عن المشكلة الأساس التي تواجه العسكريين وهي عدم تمكن معظم زوجاتهم من العمل، فواقع خدمة العسكري يضطره إلى التغيب عدة أيام عن المنزل، وبالتالي تجد الزوجة نفسها مجبرة على الإعتناء بالأولاد منفردة.
ونتيجة لهذه المعطيات، يجد العسكري نفسه أمام الحل الأصعب، وهو الاستدانة من أي جهة كانت، لأن متطلبات الحياة أصبحت كثيرة ومتنوعة كما أن كرامته لا تسمح له بالعيش بأقل من جاره المدني.                       
والجدير بالذكر هنا، أن المؤسسـات على اختلاف أنواعها تحاول إغراء العسكريين بالعروض المتنوّعة وبجميع الوسائل، باعتبار أن للعسكري مرجعية قوية وموثوق بها وهي قيادة الجيش، وبالتالي لا يمكنه التخلّف عن دفع مستحقاته.

 

متى يحتجز الراتب؟
عن مسيرة المديونية التي يبدأ بها العسكري وصولاً إلى حجز راتبه، أكد العميد الكركي أنها تبدأ من قرض التعاضد العسكري، تأتي  الخطوة الثانية من مكان توطين الراتب أي المصرف، بحيث يقدم العديد من المصارف للجيش التسهيلات والعروض، التي تصل في معظم الأحيان إلى حد منح قروض ميّسرة قيمتها تساوي 15 مرة الراتب (نحو 25 مليون ليرة). وقد عمد بعض المصارف إلى دفع سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت العام 1996 مسبقًا، ولكن تأخر الدولة في دفعها حتّم على العسكريين الذين دخلوا «بازار» تلك المصارف، دفع المستحقات المتوجّبة عليهم، والتي ساوت قيمتها قيمة الراتب بأكمله في معظم الأحيان. ومن بين العروض المغرية التي تقدمها المصارف للعسكريين، بطاقات الإئتمان وبطاقات الإعتماد ذات الفوائد العالية، والتي هي بمثابة  دين لا ينتهي أبدًا.
وبعد استنفاد عروض المصارف، لجأ بعض العسكريين إلى مؤسسـات التسليف المالي الخاصة، حيث التسليفات ذات الفوائد المرتفعة (25 في المئة كحد أدنى)، علمًا أن إعلانات هذه المؤسسـات تغري العسكري بتسهيلات في الدفع وغير ذلك...  
مسيرة الاستدانة عند العسكريين لا تقف عند هذا الحد، بل وطأت أرض المؤسسات التجارية على أنواعها وشركات السيارات... وبذلك بات عدد غير قليل من العسكريين مدينًا لمصرف ومؤسسة تسليف ومؤسسة تجارية... في الوقت عينه، ما جعل الديون تتراكم عليه.
وأشار العميد كركي إلى أن بعض الشركات المالية والمؤسسـات التجارية لا تقرض أحدًا إلا بواسطة كفيل عسكري (لأن راتبه ثابت)، وهكذا وقع بعض العسكريين في مطبّ كفالة أخ أو قريب له أو صديق، على الرغم من المذكرات المتكررة الصادرة عن قيادة الجيش، والتي تمنع العسكري من كفالة أحد، مع اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقه في حال فعل ذلك.
والمشكلة أن الكفالة تتمّ تحت عنوان «التكافل والتضامن ومن دون تجزئة»، أي أنه في حال وقّع أي عسكري على كشف حساب أو قرض سكني او سند دين او تعهد مالي أو سند إقامة... وتخلّف الطرف المدين عن الدفع، عندها يتوجّب على الكفيل (أي العسكري) تسديد قيمة الدين تحت طائلة الملاحقة القانونية، بحيث يصدر الحكم القضائي بحجز تنفيذي على 30 في المئة من الراتب، أو يلاحق بملفات شكاوى لدى قسم شؤون العسكريين الخاصة، أو يتعرّض لرهن ممتلكات.
وهناك أمور إضافية تثقل كاهل العسكري ماليًا وهي التزامه تجاه أهله، باعتبار أنه في حال تخلّف عن القيام بواجباته العائلية، فقد احترامه أمام أبناء قريته. هذا بالإضافة إلى نفقات إضافية في حال الطلاق (للزوجة والأولاد).
ونتيجة كل ما تقدمنا به، أصبح العديد من العسكريين مدينين، يرزحون تحت ثقل ديونهم وحجز رواتب البعض منهم، علمًا أن عدد ملفات الشكاوى ضــد العسكريـين تفاقــم في الآونـة الأخيرة بسبب تخلّفهـم عن الإيفــاء بالديون والتعهدات المالية، وهذا ما تثبته سجلات القسم المركزي والأقسام الفرعية.

 

ما الحل؟
إزاء هذا الواقع الصعب، ما الحل؟ يقول العميد الكركي ثمة عدة نقاط أساسية:
أولاً: في ما خص العسكريين، ينبغي عدم الانسياق إلى المغريات التي تقدمها عروض المؤسسات الخاصة، والتنبه إلى المأزق الخطير الذي يزجون أنفسهم به عندما يستدينون من أكثر من جهة، خصوصًا أنه في حال تم الحجز على الراتب لتسديد دين ما وكان على العسكري المدين دين آخر، فإن هذا الدين الآخر مع فوائده سوف يتراكم ويكبر حجمه إلى حين الإنتهاء من تسديد الأول، إذ لا يمكن إجراء الحجز مرتين على الراتب نفسه.
ثانيًا: في ما يخص استيفاء الدين، ثمة طريقتان:
الأولى تقضي بإجراء معاملة تنفيذية لدى القضاء المدني.
أما الثانية فتقضي برفع شكوى إلى قسم شؤون العسكريين حيث يتم الحل بالتراضي ومن دون الوصول إلى القضاء المدني. وبالتالي حجز الراتب. وهذا ما ينبغي العمل عليه لحل مشاكل العسكريين مع الدائنين وتسهيل عملية الدفع.
ثالثًا: على الدولة الإسراع في دفع زيادة الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية للعسكريين.
رابعًا: تسهيل قروض التعاضد ورفع قيمتها، تجنّبًا للجوء العسكريين إلى الجهات المقرضة المدنيّة.   

 

تجنبًا للمشاكل
عن خطط قسم الشؤون المستقبلية، أشار العميد كركي إلى أن: «عمل القسم يتلخّص يتقديم المساعدات القانونية اللازمة للعسكريين وعائلاتهم لحلّ مشاكلهم بشكل استباقي من خلال الإستفادة من خبرات المحامين، وذلك عن طريق قيامهم بدراسة العقود واتفاقات البيع التي يتمّ توقيعها من قبل العسكريين، كما أن القسم بصدد إنشاء خدمة استشارات قانونية عبر الهاتف (Hotline)، مما يجنّب العسكري الوقوع في المشاكل ويخفّف عن قيادة الجيش أعباء حلّ قضايا يمكن تجنّبها، كما أنه سيصار إلى إصدار كتيّب حول الأمور الإدارية والقانونية، الواجب على العسكريين التزامها لتلافي الوقوع في الأخطاء والمشاكل القانونية مع الغير، ولا سيما في عمليات شراء مساكن، أو توقيع عقود إيجار، أو توقيع سندات الدين... وسوف يتضمن هذا الكتيّب مفاعيل القضايا العائلية من طلاق وغير ذلك لدى المحاكم الروحية، والشرعية».
وختم العميد الكركي بالقول:
«إن الوضع المالي للعسكريين سيّىء للغاية، وفي حال استمراره على هذا النحو، ستتفاقم مشكلة الاستدانة أكثر فأكثر. هذا الواقع الضاغـــط والمستمر على العسكريين، أثّر سلبًـــا على استقرارهـــم العائلي، فالخلافات الزوجية وحالات الطلاق ارتفعت نسبتها بشكـــل ملحـــوظ، والهموم العائلية والمعيشية صارت تشكل ضغطًا كبيرًا عليهم، ما دفع البعض منهم الى محاولة العمل سرًا خارج المؤسسة العسكرية، فتعرّضوا بالتالي لإجراءات عقابية زادت أوضاعهم صعوبة».

تصوير: المؤهل هاني قازان