دراسات وأبحاث

كوريا الشمالية والملف النووي
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

هل انتهت الأزمــــة؟

تعتبر كوريا الشمالية الدولة الوحيدة في العالم المحاطة بخمس دول نووية وشبه نووية، لذلك فأزمتها وجودية. في حزيران الماضي دمرت هذه الدولة (التي كانت تعتبر من محور الشر) برج التبريد في مفاعل يونڤبيون النووي. في المقابل رفعت الولايات المتحدة جزئياً العقوبات الاقتصادية التي كانت فرضتها على كوريا الشمالية، وشطبت اسمها عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب. فهل انتهت أزمة كوريا الشمالية النووية؟

 

في الجغرافيا والتاريخ
تقع شبه جزيرة كوريا في أقصى شرق آسيا، وتمتد من الشمال الى الجنوب بطول نحو 110كلم داخل المحيط الهادئ ويحيط بها بحر اليابان من الشرق، والبحر الأصفر من الغرب وبحر الصين الشرقي من الجنوب، أما من الشمال فتحدها الصين بحوالى 1416كلم وروسيا (19كلم فقط).
تبلغ مساحة شبه الجزيرة الكورية حوالى 220.850 كلم2 تشغل كوريا الشمالية منها 122.000كلم2 تقريباً، عاصمتها «بيونغ يانغ»، أما كوريا الجنوبية فمساحتها حوالى 99.000كلم2 وعاصمتها سيؤل.
تمتاز شبه الجزيرة الكورية بطبيعة جبلية تغطي 70٪ من مساحتها خصوصاً في الشمال، تمتد شواطئها بطول يقارب الـ8460 كلم حيث تنتشر نحو 3579 جزيرة تابعة لها، معظمها في الجنوب والشاطئ الغربي منها، ويعيش عليها نحو 75 مليون إنسان (25 ميوناً في كوريا الشمالية و50 مليوناً في الجنوب).
كانت كوريا بلاداً موحدة منذ القرن السابع الميلادي، ومع نهاية القرن التاسع عشر، بدأ التهديد لكوريا من خلال صراع الدول «الامبريالية»، فقد احتلت اليابان كوريا في أثناء حربها ضد الصين (1894 - 1895)، وضد روسيا (1904 - 1905) وذلك ضد إرادة شعبها وفرضت سلطتها بالقوة، وألحقتها بامبراطوريتها العام 1910. وقد استمر ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945، عندما هزمت اليابان، واستسلمت قواتها أمام الجيوش الأميركية من الجنوب، والجيش الروسي من جهة الشمال. وقد اتفق في مؤتمر «بوتسدام» للسلام ما بين الحلفاء على اقتسام كوريا ما بين الاتحاد السوفياتي السابق، والولايات المتحدة، على أن يكون خط العرض 38 الحد الفاصل ما بين الدولتين الكوريتين الجديدتين، حصل كل ذلك ضد إرادة شعب كوريا وطموحاته في استعادة وحدته، وحريته، وسيادته على أرضه الواحدة.

 

الكوريتان: أحلام الوحدة ومصالح الدول العظمى
بدا واضحاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أن الأميركيين يريدون ترسيخ أقدامهم في كوريا الجنوبية، والسوفيات في كوريا الشمالية، لذلك فقد أنشأ الأميركيون قاعدة قوية في الجنوب، أرادوها رأس جسر في آسيا، وجزءاً من خط تطويق الإتحاد السوفياتي السابق من جهة الشرق واعتبروا خط العرض 38 حدوداً حقيقية بين دولتين ونظامين، ومعسكرين متجابهين.
أدت لعبة الأمم والصراع بين الجبارين في ذلك الوقت الى عدم توحيد كوريا، وباءت بالفشل المحاولات العديدة التي بذلها قادة الشعب الكوري، في الجنوب والشمال، كذلك الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة، لإقامة دولة كورية موحدة. وبدلاً من ذلك فقد اندلعت الحرب، بين الشمال والجنوب، تحت شعار التوحيد، لكن حقيقة الأمر كانت صراعاً بين الدول العظمى، الولايات المتحدة تدعم الجنوب، والصين والاتحاد السوفياتي تدعمان الشمال.


الحرب الكورية (1950 - 1953)
تعتبر الحرب الكورية المواجهة الأولى المسلحة، والساخنة في «الحرب الباردة» ما بين المعسكرين، الرأسمالي والشيوعي، كما أنها وضعت المعايير والحدود للصراع ما بين هذين المعسكرين في النزاعات اللاحقة، وثبتت نظرية «الحرب المحدودة»، حيث تجابهت هاتان القوتان على أراضي الآخرين، الذين دفعوا من أرواحهم وثرواتهم، ودمار بلادهم بدلاً عنهما كذلك فقد تجنبت هاتان القوتان تصعيد المواجهة بينهما لكي لا تصلا الى حد استخدام الأسلحة النووية، والتدمير المتبادل، كما أن هذه الحرب قد نقلت الصراع بينهما من أوروبا وجعلته على مستوى العالم ومساحته.
اندلعت الحرب بين الكوريتين (25 حزيران 1950) واستمرت سجالاً بينهما، وتدخلت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وقوات الأمم المتحدة، الى جانب كوريا الجنوبية، كما تدخلت روسيا والصين بقواتها الى جانب كوريا الشمالية، وكادت الولايات المتحدة تستخدم القنبلة الذرية لولا ضغوط بعض الدول الحليفة، والخوف من ردة الفعل السوفياتية في أوروبا.
لذلك فقد بُذلت جهود لإنهائها، بعد معارك قاسية وخسائر كبيرة من كلا الطرفين، الى أن وقّعت الهدنة بين البلدين، وأوقف إطلاق النار في 27 تموز 1953، وأقيمت بينهما منطقة مجردة من السلاح على جانبي خط العرض 38. هذه المنطقة ما تزال حتى اليوم، يحرسها الكوريون الشماليون شمالاً، والكوريون الجنوبيون وقوات أميركية، وأمم متحدة، من الجهة الجنوبية، والبَلدان حتى اليوم لم يوقّعا على إتفاق سلام، وإنهاء حالة العداء بينهما. وكأن حالة الحرب ما تزال قائمة.
خرجت الكوريتان من الحرب محطمتين، وعلى الرغم من استعادة كوريا الشمالية عافيتها بسرعة في مقابل تعثر كوريا الجنوبية اقتصادياً، فإن الدعم الغربي لهذه الأخيرة جعلها، ومنذ منتصف سبعينيات القرن العشرين تتفوّق على كوريا الشمالية بمئات الأضعاف، في الوقت نفسه الذي بدأ إقتصاد كوريا الشمالية يعاني تراجعاً وركوداً في مجالات مختلفة، خصوصاً بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.

 

كوريا الشمالية والسلاح النووي
تورطت كوريا الشمالية في السياسة النووية خلال الحرب الكورية، فقد هددت الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي لحسم الحرب. لذلك، بدأت كوريا الشمالية بمعاونة الاتحاد السوفياتي، برنامجاً نووياً علمياً، بإرسال علمائها وطلابها لدراسة الموضوع في روسيا، ومن ثم تدريبهم، لبناء مؤسسات علمية مناسبة على أراضيها في ما بعد.
العام 1958 قامت الولايات المتحدة بنشر أسلحة نووية في كوريا الجنوبية، وهذا ما عزّز المخاوف الشمالية ودفعها الى إكمال برنامجها النووي للرد على التهديد النووي الأميركي الموجود في كوريا الجنوبية. ويقدّر الخبراء أن الولايات المتحدة قد نشرت حوالى 1000 رأس نووي هناك، العام 1991، وبعد إنهيار الاتحاد السوفياتي السابق، سحبت الولايات المتحدة أسلحتها النووية من كوريا في عهد الرئيس بوش الأب.
ويعتبر البعض أن البرنامج النووي الكوري الشمالي، هو محاولة لفرض مكانة كوريا الشمالية في العالم، وخلق تهديد للدول المجاورة وتأكيد حقها بتوحيد كوريا تحت سلطتها، ولو باستخدام القوة بينما يرى البعض الاخر أنها دولة راضية بالوضع الدولي الراهن وتسعى الى إقامة السلام مع جيرانها ومع بقية العالم، من خلال الردع النووي.


الأزمات المتعاقبة
بعيد إعلان سحب الأسلحة النووية من كوريا الشمالية، وافقت على التوقيع على معاهدة منع الانتشار النووي (NPT) وذلك في كانون الثاني 1992، وسمحت لمراقبي الهيئة الدولية (IAEA) (وكالة الطاقة الذرية) بالدخول الى مرافقها النووية لمراقبة العمل فيها، ولما طالب المراقبون بالدخول الى بعض المرافق المشتبه بها رفض الكوريون السماح لهم بذلك، بحجة أنها منشآت عسكرية، فأحيل الموضوع على مجلس الأمن الدولي. وردت كوريا الشمالية بإعلان عزمها على الانسحاب من اتفاقية منع الانتشار النووي وذلك العام 1993.
وهنا تدخلت الولايات المتحدة بمفاوضات ثنائية مع كوريا الشمالية واتفقت معها على تعليق انسحابها من المعاهدة، ومتابعة التفتيش في نشاطاتها النووية الحاضرة، من دون العودة الى نشاطاتها السابقة في هذا الموضوع. وتابعت كوريا العمل في مفاعل «يونڤبيون». وفي ربيع 1994 اندلعت الأزمة الأولى حول عمل هذا المفاعل مع وكالة الطاقة الذرية، ما دفع الرئيس الأميركي بيل كلينتون الى الإعلان عن طلبه من مجلس الأمن لفرض عقوبات إقتصادية على كوريا الشمالية، التي ردت بأنها ستعتبر هذه العقوبات كإعلان حرب عليها.
استطاع الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر حل الأزمة، لدى اجتماعه مع الرئيس الكوري السابق كيم إيل سونغ، في ما عرف باسم «إطار إتفاق» في تشرين الأول العام 1994، حيث تجمد كوريا عمل مفاعلها النووي وملحقاته، وتسمح لمراقبي وكالة الطاقة الذرية بمعاودة نشاطاها في مراقبة هذا الاتفاق، وفي المقابل تقوم الولايات المتحدة بإنشاء «تجمع دولي» لبناء مفاعلين يعملان بالماء الخفيف لتوليد الطاقة الكهربائية، وتزويد كوريا 500 ألف طن من الفيول سنوياً حتى يتم إنجاز أول مفاعل للعمل، وحدد العام 2003 كتاريخ لذلك، كما تتعهد الولايات المتحدة تقديم الضمانات بعدم الاعتداء النووي على كوريا الشمالية.
نجح إطار التفاهم هذا في تجميد العمل في مفاعل البلوتونيوم الكوري الشمالي حوالى عقد من الزمان، ولكن كلا الطرفين لم يكن راضياً عن التزام الآخر الاتفاق، فلا كوريا الشمالية كانت راضية عن العمل في إنجاز المفاعلين بالماء الخفيف لتوليد الطاقة، ولا الولايات المتحدة كانت راضية عن تأجيل عمل المراقبين الدوليين ومنعهم من التدقيق في النشاطات النووية الكورية السابقة.
ومع مجيء إدارة جورج بوش الابن العام 2001 الى السلطة في الولايات المتحدة، وبروز مشكلة تصدير الصواريخ الكورية تشددت الولايات المتحدة في تعاملها مع المشكلة الكورية وبدا أن أزمة جديدة على وشك الظهور.

 

أزمات ومنعطفات
شكّلت أحداث 11 أيلول العام 2001، منعطفاً في سياسة الولايات المتحدة، تجاه محاربة الإرهاب والدول الداعمة له، أو تلك التي تبيع أسلحة وصواريخ، خارج إطار المنظومة الدولية المعروفة، ولما كانت كوريا الشمالية إحدى تلك الدول فقد فرض عليها حظر لمنعها من بيع الأسلحة لدول أو منظمات تعتبر «مارقة» وقد أفادت تقارير المخابرات الأميركية أن كوريا تتعاون في تصنيع الصواريخ وبيعها لكل من إيران وسوريا وليبيا وباكستان.
وبعد حرب العراق وغزو الولايات المتحدة لها، تطورت هذه العلاقات، ما بين كوريا وبعض دول الشرق الأوسط، خصوصاً إيران وسوريا مما بات يشكّل خطراً مباشراً على قوات الولايات المتحدة. كذلك فقد تبيّن أن كوريا الشمالية انتقلت في برنامجها النووي الى تخصيب اليورانيوم بعد أن كانت تعتمد على البلوتونيوم، وأعلنت في إحدى جولات المفاوضات مع الولايات المتحدة أنها تملك أسلحة نووية. وقد اتهم العالم الباكستاني عبد القادر خان ببيعها، بعض خبرات وتكنولوجيا الصناعة النووية،وكذلك الى كل من إيران وليبيا، وهذا ما دفع الولايات المتحدة ودولاً أخرى مجاورة الى عقد مفاوضات لوقف البرنامج النووي الكوري عرفت بمفاوضات «الأطراف الستة» وهي: روسيا - الصين - اليابان - الولايات المتحدة + الكوريتان. ولكن عدة جولات من هذه المفاوضات خلال أعوام 2004 و2005 و2006 لم تصل الى نتائج حاسمة.
في 9 تشرين الأول العام 2006 أجرت كوريا الشمالية تجربة تفجير سلاحها النووي، وبذلك أعلنت عن امتلاكها له، وقد قدر بعض المصادر المختصة قوته بحوالى 1 كيلو طن.
بعد التجربة العام 2006 عادت كوريا الشمالية الى مفاوضات «الستة». العام 2007 وافقت على تعطيل مرافقها النووية، وتقديم جردة كاملة عن برامجها النووية كافة. وعلى الرغم من تباطؤ عملية المفاوضات، وتأخر تنفيذ «حزمة الحوافز» التي قدّمت لها، فقد قامت في حزيران 200 بتقديم إعلان عن نشاطاتها النووية وقامت بتدمير برج التبريد في مفاعل «يونڤبيون»، في  مقابل ذلك قامت الولايات المتحدة برفع جزئي للعقوبات الاقتصادية عنها، كما قامت بشطب إسمها عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب، بعد أن كانت إحدى دول «محور الشر» و«الدول المارقة» فهل انتهت أزمة كوريا الشمالية النووية؟ المستقبل يحمل الجواب.
ولكن مما لا شك فيه، أن هناك ترابطاً ما، بين ما يجري في الشرق الأوسط، بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران وسوريا والعراق وحتى أفغانستان. فكوريا الشمالية، هي حجر الأساس في تزويد الأسلحة والخبرات دولاً ومنظمات كثيرة تناوئ سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وفي العالم، فهل تكفي الاغراءات الأميركية، لفك ارتباط كوريا الشمالية بهذه الدول؟ أم أن ما جرى حتى الآن هو تقطيع للوقت بانتظار إدارة أميركية جديدة لمعرفة إتجاه سياستها حيال دول المنطقة والعالم؟ الكل بالانتظار، وروسيا والصين كذلك.