- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
قد يبدو العنوان خارج إطار المنطق، لأن الكثيرين يرون أن الأمراض النفسيــة هي وراثية المنشـأ ولا يمكن تجنّبها.
فهل هـذا صحيـح؟ لماذا البعض من دون سواهم؟
لا ينكر العلماء النفسيون علاقة هذه الأمراض بالجينات الوراثية الحاملة لها، لكنهم يدركون جيدًا أن الكثيرين من حاملي هذه الجينات لا يصابون بالمرض.
فلماذا إذن تصيب الأمراض البعض من دون سواهم من أفراد العائلة المعنية بها؟ ولماذا تبقى راقدة لأجيال قبل أن تنال من بعض سيئي الحظ؟
إنها ليست مسألة حظ كما يؤكد الباحثون الذين تناولوا هذا الموضوع من خلال دراسات مكثفة. فالجينات الوراثية الحاملة الأمراض النفسية، هي في المبدأ المسؤولة عن الإصابة بها، لكن ثبت بالمراقبة أن هذه الجينات لا تتحرك إلا في حال وجدت الأرضية المناسبة، أو بمعنى آخر البيئة الخصبة التي تجعلها أكثر فعالية وفتكًا.
إلى ذلك، فإن عوارض المرض لا تظهر فجأة كما يعتقد البعض، بل تنفجر في مرحلة معينة من العمر، بعد أن تكون قد مهّدت لإنفجارها عبر عوارض دامت سنوات طوال.
وقد تظهر هذه العوارض خلال أعوام الطفولة الأولى، من دون أن يلاحظها الأهل، أو مع بداية أعوام المراهقة. ويبقى السؤال: ما هي هذه العوارض، وما هو دور الأهل والمربّين في منع إنفجار المرض، أو معالجته في مرحلة مبكرة؟
مؤشرات المرض لدى الأطفال والمراهقين
في دراسة نشرتها الصحيفة الأميركية النفسية، جمعت أفلام مأخوذة من عائلات أصيب أحد أفرادها أو بعضهم بإنفصام الشخصية في سن البلوغ. ومن خلال هذه الأفلام، تبيّن أن الأطفال الذين أصيبوا لاحقًا بالمرض، أبدوا خلال طفولتهم سلوكيات مغايرة لأطفال في مثل سنهم، منها على سبيل المثال، الخوف والميل إلى العزلة وفرط الحركة المرفقة بنقص الإنتباه.
كذلك عرف من عدّة دراسات، أن مخيّلة الأطفال المعرّضين للمرض تكون أكثر خصوبة من مخيلة سواهم، فهم يعيشون معظم أوقاتهم في عالم الأحلام ويخرجون عن الواقع أكثر مما ينبغي، ما يدل على وجود إشارات ذهان مبكرة.
إضافة إلى الخيال الجامح، قد يحصل أن يرى بعض الأطفال أو يسمعوا ما لا يراه أو يسمعه سواهم.
واللافت أن بعض الأهل يلمسون ذلك لمس اليدّ، لكنهم لا يعيرونه إهتمامًا، وربما يعزونه إلى مخيلة الطفولة الخصبة، أو إلى محاولة الطفل تقليد أبطال أحد الأفلام الخيالية.
هذا بالنسبة الى الأطفال، أما المراهقون فتكون عوارضهم أكثر وضوحًا، ومع ذلك فإن الأهل قد يعزونها إلى إضطرابات سن المراهقة، ولا يتكفلون عناء عرضهم على أطباء نفسيين قبل فوات الأوان.
فالمراهقون المعرّضون للمرض النفسي يكونون أكثر عزلة وعنفًا وإضطرابًا. وقد يتعرضون لتغيير واضح في تحصيلهم العلمي، ويبدون إنحدارًا ملحوظًا في الذكاء وإداء الذاكرة. وقد يميلون إلى إحتساء الكحول وتعاطي المخدّرات، وتعيبهم الشكوك الحادة تجاه الغير وخصوصًا أحد أفراد العائلة.
تأثير البيئة والتربية
لقد ثبت بالدراسات أن للبيئة العائلية والمحيط الخارجي تأثيرًا بالغًا على تحريك الجينات الوراثية الحاملة المرض النفسي أو ضبطها. وثبت أيضًا أن إرتفاع نسبة الضغوط خلال أشهر الحمل الخمسة الأولى يزيد من إحتمال إصابة المولود لاحقًا بمرض نفسي، كانفصام الشخصية أو الإكتئاب، واليوم لم يعد من شك لدى الباحثين في أن العنف الجسدي والمعنوي الذي قد يتعرض له الطفل أو المراهق، إضافة إلى مضايقة الرفاق، هي من المسببات الأولى لظهور المرض لدى الحاملين جيناته الوراثية. كما أن الضغوط من أي جهة أتت (المنزل أو المدرسة أو العمل لاحقًا)، تلحق الأذى بخلايا الدماغ العصبية. لهذا السبب تكثر الأمراض النفسية في البيئات العائلية غير المستقرة، وخلال الكوارث والأحداث الدامية، وفي المؤسسات العسكرية وخصوصًا خلال المعارك والحروب. ولم ينسَ الباحثون سكان المدن المعرّضين أكثر من سواهم لهذه الأمراض، وهذا يعود إلى ضغوط الحياة المدنية وإلى التلوّث البيئي والضجيج.
لذا فإن تأمين البيئة المستقرة حيث يتلقى الفرد الدعم والتشجيع هي من الضروريات التي تخفف من وطأة المرض النفسي لدى المعرّضين له، كما تسرّع الشفاء في حال ظهوره والخضوع للعلاج.
التوعية ثمّ التوعية
يبدو هذا البحث وكأنه يضع اللّوم على البيئة والتربية ولا يأخذ بالاعتبار الدور الأهم للوراثة.
في الواقع، فإن باحثين كثرًا قد أعطوا دلائل ملموسة تشير إلى أنه بالإمكان تجنب الأمراض النفسية الحادة في حال وجود توعية دقيقة وشاملة.
وكما سبق وأشرنا، فإن الأهل كما المربّين يستخفون عمومًا بالكثير من الأعراض المرضية المبكرة التي تظهر من خلال تصرفات الأطفال والمراهقين. لهذا السبب وضعت في الدول المتقدمة قواعد لنشر التوعية في المنازل والمدارس والمؤسسات الرسمية، من أجل تجنيب الأجيال الصاعدة خطر الأمراض النفسية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأمراض لا تضرّ فقط بالمعنيين بها، بل يطاول ضررها جميع أفراد العائلة. ولا يغيب عن البال أنها تلحق الأذى البالغ بالمجتمع ككل وبالاقتصاد الوطني.
إذن التّوعية والانتباه والمراقبة الدقيقة، هي من الأولويات الواجب أخذها بالاعتبار. إلى ذلك، فإن الإسراع بعرض المشكوك بأمره على الطبيب المختص، يمنع المرض من التقدّم ومن تدمير حياة المصاب به ومستقبله، كما يمنع وقوع العائلة بأسرها في أزمات نفسية هي بغنى عنها.