رحلة في الإنسان

كيف تلتقط أدمغتنا مشاعر الغير؟
إعداد: غريس فرح

عندما يتقدم أحدهم منا ليسأل ما الخطب؟ نعلم أننا نبث من حولنا مشاعر كنا قد حرصنا على إبقائها طي الكتمان. فنحن من دون أن ندري، نتواصل مع محيطنا بأشكال مختلفة تعبّر عما يجول في نفوسنا من أحاسيس، حتى لو لم نتفوه بكلمة. فقسمات الوجه تفضح المشاعر، ولغة الجسد تصدر إيماءات يعجز الكلام عن تجسيدها.
كيف يتم التواصل الصامت مع الغير، وما هي فوائده، وكيف يلتقط الدماغ إشاراته؟

 

التواصل الصامت
إن الإحساس بمشاعر الغير يعتبر جزءًا من التواصل الاجتماعي الذي نحن بحاجة إليه، لذا فإن فقدان هذا الإحساس أو العجز عن استخدامه لعلة في الدماغ، قد يؤدي بنا إلى الإساءة عن غير قصد إلى أحباء يكتنفهم الحزن، أو إلى إحراج رؤساء تحيط بهم المشاكل. لهذا السبب يمكننا القول بأن افتقارنا إلى التواصل الاجتماعي الصامت لسبب أو لآخر، قد يقودنا إلى العزلة، وهو ما يحول دون اكتساب الصداقات ويمنع من النجاح والترقية في العمل، أو من تحقيق أهداف نضعها في حسابنا.

 

تعابير الوجوه
لقد تناولت الدراسات العلمية هذا الموضوع بشكل جدي، فعكف الباحثون على دراسة تعابير الوجوه ولغة الأجساد لأهميتها على صعيد العمل والتناغم العائلي والاجتماعي. وهنا يجدر بالإشارة أن مرضى التوحد وانفصام الشخصية يخفقون في التقاط هذه الإشارات، لذا يجدون صعوبة في التواصل الاجتماعي ويعيشون عمومًا في عزلة، وخصوصًا في حال عدم تفهّم وضعهم المرضي من قبل الغير.
يذكر أيضًا أن معظم حكومات الدول المتطورة، وفي مقدّمها حكومة الولايات المتحدة الأميركية، تصرف ملايين الدولارات على تعليم رجال الشرطة كيفية تقصّي المعلومات المكتومة من قبل المشبوهين وبالتالي نزع اعترافاتهم بعد التمكن من قراءة تعابير وجوههم وأجسادهم.


الوجه قد يخدع أحيانًا
لقد ركز الباحثون في الماضـــي علـــى دراســـــة عضلات الوجـــه وعلـــى مناطـــق دماغية تعتبـــر مسؤولـــة عـــن تحريكهـــا أو ضبطها. لكنهم في الآونة الأخيرة اكتشفوا معايير لا تقل أهمية عن تعابير الوجه، منها على سبيل المثال، طريقة المشي والوقوف، وحركات اليدين ونغمة الصوت، وسواها من الإشارات التي كانت تعتبر غير ذات أهمية.
بالنسبة إلى تقييم تعابير الوجوه، نجد أن الدراسات التي أجريت خلال السبعينيات من القرن الماضي، ركزت على ما يسّمى «حركة وحدات الوجه»، أي تلك التي قوامها مزيج من التغييرات الفيزيائية، كرفع زوايا الفم، وتكوين تجاعيد زوايا العينين لدى الابتسام، إضافة إلى جملة التعابير التي ترتسم في حالات الغضب والحزن وسواها. ولكن بعد عناء الدراسة والبحث، وجد العلماء أن الوجوه وحدها لا تعكس المشاعر بصدق، بل هي تخدع أحيانًا، لذا تمّ التركيز على طرق الوقوف والمشي وحركات اليدين ونبرة الصـــوت، وخطـــوا بذلك خطوة جديدة باتجاه تقييم أحاسيس الغير وما يجول في خاطرهم.

 

مفاتيح حسية للغز
العام 2000 وبواسطة التصوير بالرنين المغنطيسي، تم اكتشاف مناطق دماغية تستجيب بسرعة للمنبّهات الحسية مهما كان مصدرها. وبوضع أصابعهم على اللغز، أصبح العلماء قادرين على تفهّم عمل هذه المناطق ودورها في تسهيل نجاحنا على دروب الحياة، وبالتالـــي قدرتنا على البقاء منذ آلاف السنين.
للتأكد من صحة اكتشافهم، أخضعوا مجموعة من الحضور لتجربة مراقبة ممثلين مسرحيين يجسّدون من خلال أدوارهم مشاعر مختلفة. وكانت النتيجة أن الحضور بشكل عام تمكّن من التقاط هذه المشاعر، حتى عندما كان الممثلون يخفون وجوههم وراء الأقنعة، أو يكتفون ببث أصواتهم من خلف الستار. ومن خلال التجربة ذاتها عرف أيضًا أن حاسة الشم تلعب دورها على صعيد تفاعل الإنسان مع الروائح، وانعكاس هذا التفاعل من خلال إشارات حسيّة واضحة، وهذا يؤكد ما سبق وأشرنا إليه من وجود عدة مناطق دماغية، تعمل معًا من أجل حياكة الانعكاسات الفيزيائية المرئية والمسموعة وتظهيرها.

 

عندما تتعاون الحواس
تتجاوب المناطق الدماغية المحددة للسمع مثلاً مع تحريك الشفاه حتى بدون سماع الصوت، ما يعني أنها تتعاون مع المناطق المحددّة للرؤية. وهذا يتم، بحسب تقرير نشرته مجلة العلوم الأميركية أخيرًا، عبر موجات كهربائية تستجيب للمؤثرات الخارجية وترسل معطياتها إلى المناطق المعنية. وعرف من خلال الاختبارات أن هذه المناطق تعمل معًا من أجل إرسال المعلومات إلى حيث تتفاعل، وتصدر الأوامر باستيعابها. وباعتبار أن المعلومات الكهربائية الدماغية تختلف من حيث سرعة الوصول، إستنتج العلماء أن الدماغ البشري يكتشف محتوى الأحاسيس عبر عدّة مراحل قبل توصيلها إلى المكان المحدد. على كل، فإن سرعة الملاحظة والاستيعاب تختلف، كما هو معروف، من شخص إلى آخر، وقد يكون ذلك نتيجة الاختلاف في تواصل الخلايا العصبية.

 

ماذا يجري في داخل دماغنا؟
عندمـــا نعلم ماذا يجري داخل الدماغ البشري، وكيف تتم حياكة المعلومات الخارجية لتحقيق تواصلنا الاجتماعي، يصبح بإمكاننا التركيز على تفّهم مشاعر الغير بالسرعة المطلوبة.
لقد طوّر العلماء في الآونة الأخيرة حواسيب إلكترونية قادرة على ترجمة الأحاسيس المرسومة على الوجوه، والموجودة في لغة الجسد ونبرات الصوت. وفي المستقبل القريب ستمكّن هذه التقنيات مرضى التوحد وانفصام الشخصية من تحسين أوضاعهم والانخراط مجددًا في المجتمع.
بالنسبة إلى الأصحاء الذين يملكون أدمغة سليمة، ينصحهم الاختصاصيون بأخذ هذه الناحية البشرية بعين الاعتبار، والتركيز على قراءة مشاعر سواهم بجدية أكبر، فهذا يجعلهم أقرب إلى من يحبون أو إلى من يودون اكتساب ودّهم.
والباحثون في هذا المجال وضعوا الكثير من المراجع بمتناول الجميع، بحيث لا يمكن اختصار محتواها في هذه الدراسة السريعة، فلماذا لا نعيرها اهتمامًا أكبر، ونطّلع بجدية على تفاصيلها؟