نظرة إلى الداخل

كيف عشتم الحجر الصحي في منازلكم؟
إعداد: الرقيب أول جيهان جبور - الرقيب كرستينا عباس

عاش العالم أوقاتًا عصيبة بسبب تفشّي وباء كورونا الذي غيّر حياة مئات الملايين من الناس. من التغييرات المهمة التي طاولت الحياة اضطرار الناس إلى البقاء في منازلهم لفترة غير قصيرة. فبات الكبار خارج أعمالهم يلازمون منازلهم قسريًا، بعضهم يعمل عن بُعد وبعضهم الآخر فَقَد وظيفة هو في أمسّ الحاجة إليها. طلاب الجامعات وتلامذة المدارس يتابعون الدراسة عن بُعد ولم تكن هذه العملية سهلة بالنسبة إليهم، خصوصًا أنهم حُرموا الخروج من البيت وافتقدوا صفوفهم وملاعبهم ورفاقهم... هكذا فجأة ومن دون سابق إنذار، توقفت حياة الجميع، تلك الحياة التي اعتاد الكل ممارستها يوميًا انقلبت رأسًا على عقب، بينما الفيروس ماض في مشروعه لاحتلال الأرض ووضع سكانها قيد الإقامة الجبرية.


في البداية، استمتع كثيرون بالفرصة التي أتت على غفلة لتريحهم من اللهاث المتواصل، لكن لم يطل الوقت حتى بدأ الشعور بالضيق يجتاح معظم الناس كبارًا وصغارًا، خصوصًا أنّ الفيروس الذي ظن الكثيرون أنّ مفاعيله تقتصر على مجرد رشح، كشف عن وجهه بفعل الأبحاث المستمرة واتضح خطره بينما هو يجتاح العالم وتقف الدول المتطورة عاجزة عن كبح جماحه. وبالتالي، باتت مشاعر الضيق مقترنة بمشاعر الخوف والقلق، ما فاقم الضغوط التي يعانيها الناس في ظل عدم القدرة على الخروج من المنزل. هذا الواقع أدى إلى تنامي الحديث عن الضغوط النفسية خصوصًا في العائلات التي تعاني ظروفًا اقتصادية صعبة. ففيما استطاع البعض التكيّف مع الواقع الجديد عجز آخرون عن ذلك، وتفاقمت الخلافات والأجواء السلبية في الكثير من العائلات وبلغت حد ممارسة العنف. بين سلبيات البقاء الطويل في المنزل وإيجابياته، كيف عاش اللبنانيون خلال الآونة الأخيرة؟.
يرى الاختصاصي في علم النفس الدكتور نبيل خوري أنّ «سلبيات البقاء في المنزل خلال فترة التعبئة العامة تضاهي إيجابياتها التي تدخل في خانة الوقاية وعدم الإساءة إلى الذات وإلى الآخرين، بينما تبقى في خانة الترقب بعض السلوكيات والأوضاع التي قد تتطور بشكلٍ إيجابي أو سلبي بما في ذلك التدخين المفرط والأركيلة كوسيلةٍ لتمضية الوقت». ويؤكد الدكتور خوري في هذا السياق أنه علينا إعادة النظر في بعض الأمور، «فالحجر الصحي ليس إجازة في المنزل لبضعة أيام، إنما قد يستمر لأشهرٍ ما يخلق خللًا في نظام الحياة». وهو يشير إلى أنّ «الملل والنفور والقلق وانفجار الغضب هي من أهم سلبيات الحجر الصحي الذي تعيشه العائلة قسرًا، خصوصًا في ظل بث وسائل الإعلام لتطورات انتشار فيروس كورونا ومخاطره باستمرارٍ، وصعوبة سحب الودائع من المصارف لتلبية حاجات الحياة وخسارة الكثيرين لأعمالهم، ما يزيد الوضع بشاعة».
 

«مصاري ما في»
خليل الذي طُرد من عمله في شركة الأنسجة منذ ستة أشهر هو المعيل الوحيد لعائلته، عمر أكبر أولاده الأربعة لا يتجاوز الثانية عشرة، حاول كثيرًا إيجاد عمل آخر ولم يوفق. مارس أعمالًا بسيطة بأجرٍ يومي بالكاد يكفي لإطعام عائلته، أتت أزمة كورونا لتطيح بالمدخول البسيط. الرجل الهادىء الحنون تحوّل إلى إنسان عصبي يصب غضبه على الجميع وفق ما تخبرنا زوجته. ماذا تفعل هي؟ كيف تتحمل الوضع القاسي؟ «الصبر مفتاح الفرج» تقول. وتضيف: «نحصل على بعض المساعدة، أحاول التخفيف عن زوجي قدر المستطاع، وأبذل كل ما بوسعي لتدبير الأمور بما أمكن».
بعض العاملين في القطاع الخاص لم يخسروا وظائفهم لكنهم خسروا جزءًا من رواتبهم. بريجيت تقول إنّها خسرت فرصتها السنوية بسبب التعبئة العامة وهي قلقة من اقتطاع جزء من راتبها، إذا استمرت أكثر، تمامًا كما حصل مع رفاقها الذين كانوا قد استفادوا من فرصهم.
شركة تصنيع البرادي الخارجية التي يعمل فيها حسين أُقفلت مطلع العام، حاليًا هو من دون عمل، يستعين بمدخراته لتمضية هذه الفترة العصيبة. بما أنه متزوج حديثًا وليس لديه أولاد يعتبر أنّ وضعه أفضل من وضع الكثيرين، لكن البقاء في المنزل ليس سهلًا، مع ذلك يشكر ربه ويقول الحمد لله أزمة وتمرّ.
 

ماذا عن الأولاد؟
الأوضاع الاقتصادية ليست السبب الوحيد للعصبية والغضب وما يرافقهما من أجواء سلبية في المنزل، فبقاء الأولاد داخل الجدران الأربعة سبب كاف لاندلاع خلافات وشجارات في ما بينهم، ما يرهق أعصاب الأهل ويزيد معاناتهم. النكات التي أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الواقع كثيرة. جانيت تستعين بإحداها لتصف معانتها مع رالف وجو وساندي أولادها الثلاثة، فتمازحنا قائلة: «إذا طوّلت التعبئة أكتر من هيك رح حط ولادي على OLX». جارتها رنا تصف الوضع مع أولادها فتقول: «عاملين مافيا عليّي، الله يساعدني، الحمد لله أنّ زوجي يساعدني في أعمال المنزل فيتسلّى ويخفف عني قليلًا».
«صرت عم فكر زوجي الشيف أنطوان، كل يوم بيخترع طبخة»... ساميا تمازحنا، لكن في الواقع زوجها إبراهيم يساعدها بالفعل في المطبخ، بل يستمتع بتحضير بعض الأطباق، ويدعو العائلة بفرحٍ إلى تذوّقها.
أكثر من ذلك، تؤكد ساميا أنّ هذه الفترة على الرغم من صعوبتها منحت أفراد العائلة فرصة التواصل الحقيقي، فقد استعادوا حرارة العلاقات والروابط في ما بينهم، بعد أن كان نمط الحياة الضاغط يحرمهم من الاستمتاع بتمضية الأوقات معًا.
فكرة يوافق عليها بقوةٍ الدكتور خوري، فبرأيه «الذكي هو من يوزع الأدوار»، ولا يجوز للرجل أن يمضي معظم وقته في النوم ومشاهدة التلفزيون فيصبح عرضة للكسل والأنانية، المساعدة في الأعمال المنزلية التي يمكن أن يقوم بها كالطبخ تقوّي الروابط العائلية، وتقدّم مثلًا جيدًا للأولاد الذين ينبغي أيضًا أن يتحملوا المسؤولية ويشاركوا في الأعمال المنزلية وفق قدراتهم.
 

إنّهن في خطر!
يشير الدكتور خوري إلى وجود فئة من الرجال الذين يلومون زوجاتهم على الأوضاع العامة في البلاد، فيُسمعونهن كلامًا جارحًا من نوع: «أنا مضطر للبقاء معك والاستماع إلى النق والتذمر طوال النهار»، والعنف اللفظي والمعنوي قد يتطور وصولًا إلى العنف الجسدي. ويؤكد الدكتور خوري أنّ «هناك نوعًا من النساء يمارسن أدوارهن بشكلٍ توافقي مع احتياجات المرحلة، ونوع آخر يمارسن أدوارهن بطريقةٍ ناقمة على ما يجري. أما الصنف الثالث فيشمل النساء اللواتي يحللن بذكاءٍ، ويعتبرن أن ما يحصل له نهاية، والأمور ستعود إلى طبيعتها يومًا ما».
«من حجر منزلي إلى حجز منزلي»، أمر ينطبق على عدد غير قليل من النساء اللواتي يتعرضن إلى العنف الذكوري في منازلهن. وقد لاحظت الجمعيات النسائية والاجتماعية والهيئات التي تكافح تعنيف النساء أنّ نسبة المعنفات ازدادت بشكلٍ مقلق خلال فترة التعبئة العامة والحجر المنزلي. وفي هذا السياق كانت هناك عدة مبادرات هدفها الحد من انتهاك أبسط حقوق الإنسان أي العيش بأمان. هذه المبادرات تتيح للنساء اللواتي يتعرضن للتعنيف الحصول على المساعدة اللازمة والإيواء الآمن إذا كانت الحالة تطلّب ذلك.
«الحجر الصحي يحميكِ من الوباء، الرقم ١٧٤٥ يحميكِ من العنف الأسري». وضعت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بالتعاون مع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية هذا الخط الساخن، لكل امرأة معنّفة تحتاج إلى الحماية والتدخّل السريع لإنقاذها. كما أنّها أتاحت خانة على موقعها الإلكتروني www.isf.gov.lb /خدمة بلّغ، للنساء والفتيات اللواتي يتعذّر عليهن إجراء مكالمات هاتفية في منزلهن.
وأصدر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تعميمًا وجّهه إلى الجهات الوزارية والأمنية المعنية، يطلب فيه الإيعاز إلى عناصر الضابطة العدلية بفتح محاضر فورية في قضايا العنف الأسري، وعدم اشتراط حضور الضحية إلى المركز للاستماع إلى إفادتها في حال عدم إمكانية انتقالها، وقيام المحامي الاستئنافي المختص بالاستماع إليها عبر تقنية «الفيديو كول» أو أي وسيلة يراها مناسبة.
يتناول الدكتور خوري هذه النقطة قائلًا: «إذا كانت الحياة الزوجية مبنية على أساس الحب والاحترام والرغبة في التطور، لا يجد الرجل والمرأة نفسيهما أمام عبء تحمّل بعضهما البعض في الأوقات الصعبة، فكل واحد منهما يكون مدركًا لاحتياجات الآخر، لذلك يستطيعان خلق الوقت المميز Quality Time من خلال الاهتمام بالأولاد والتفاعل الإيجابي بين أفراد العائلة جميعًا». وهو يضيف: «الحد من سلبيات هذه المرحلة يتطلب مرونة وقدرة على التمييز بين ما هو جيد وما هو سيّىء، وبالتالي الابتعاد عن كل ما يثير حفيظة الآخر لا سيما نوبات الغضب. وإذا مارس كل فرد دوره في المنزل بشكلٍ مريح، نستفيد من الحجر الصحي المنزلي ليفهم كل طرف شريكه أكثر. في النهاية بعد الضيق يأتي الفرج، والتفاؤل يساعد على تجاوز المحن، أما اعتماد الصيغ السلبية فيلغي إمكانية التفاهم في المنزل».
 

«النُص المليان من الكباية»
في الحجر المنزلي اكتشف الكثيرون أنهم قادرون على القيام بأعمالٍ لم يسبق أن قاموا بها سابقًا، كما تمكّن آخرون من ممارسة هوايات لم يجدوا الوقت لممارستها من قبل. غاييل تلميذة في المرحلة الثانوية وجدت وقتًا للرسم، فيما شقيقها أدخل البهجة والأجواء الاحتفالية إلى البيت بواسطة الإيقاعات الحماسية على الدربكة، حتى الجيران كانوا يخرجون إلى الشرفة مسرورين لسماعها. الرقص، المطالعة، كتابة الشعر أو القصص... مواهب وهوايات استطاع كثيرون الاستمتاع بها بفعل الأسابيع التي أمضوها في الحجر.
الشبان والشابات استفادوا من نمط حياة أفضل في البيت، استطاعوا أن يناموا بقدر ما يحتاجون إليه، وأن يتناولوا الطعام الصحي بدلًا من السندويشات والطعام الجاهز. الخوف من المرض دفع سليمان إلى تخفيف التدخين بشكلٍ تدريجي، وهو يخبرنا أنّه تحرر من السيجارة، وانصرف إلى ممارسة رياضة المشي والاهتمام ببعض الشؤون المنزلية. و«أخيرًا زبطلي المنشر» تقول زوجته معددة الأعطال التي قام بإصلاحها في البيت، لكنها تشير إلى أنّ وزنه قد ازداد وكذلك معظم أفراد العائلة.
 

راجعة على ضيعتنا
بينما تولّى صوت فيروز دعوة الناس إلى البقاء في بيوتهم عبر أغنية «خليك بالبيت»، صدح صوت صباح بأغنية «راجعة على ضيعتنا». وبالفعل فإنّ من يملكون بيتًا في الجبل أتيح لهم القدر الأكبر من الراحة والطمأنينة. توجهوا إلى ضيعهم، اهتموا بالأرض، شمّروا عن سواعدهم وزرعوا، وفي الصيف سيستطيعون التمتع بجني ما زرعوه. «التبولة مش طيبة إلا بلدية» تقول سعاد التي تخبرنا كم كان فرح أولادها كبيرًا وهم يساعدون والدهم في الحديقة. وهي تؤكد، «في الضيعة نسينا الكورونا والتلفزيون والأخبار، ارتحنا والأولاد لعبوا وانبسطوا».
الإنسان معرّض لمواجهة مشكلات كثيرة. اليوم نحن أمام وباء أجبرنا على ملازمة منازلنا والحد من تنقلاتنا، الأمر الذي كانت له انعكاسات سلبية في حياتنا، ولكن كانت له إيجابيات من دون شك. فمن دون التزام التعبئة العامة لما كان بالإمكان احتواء الفيروس والحد من انتشاره، وكل منا يتحمّل مسؤولية في هذه الظروف الاستثنائية الصعبة.
 

قرار غير مسبوق
إثر الاقتراح الذي تقدّمت به الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية إلى النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات، حول ضرورة اتخاذ بعض الإجراءات للحد من تزايد ظاهرة العنف الأسري داخل المنازل في ظل الحجر المنزلي، أصدر القاضي عويدات تعميمًا وجهه إلى وزارتَي العدل والداخلية والبلديات، وإلى النيابات العامة الاستئنافية والقيادات العسكرية والأمنية ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، ومما جاء فيه:
«...في ضوء ازدياد ظاهرة العنف الأسري بسبب الحجر المنزلي، وضمانًا لحق النساء الضحايا وأطفالهن بالوصول إلى القضاء لرفع الظلم عنهن، وضمانًا لحسن سير عمل النيابات العامة المتخصصة في قضايا العنف الأسري لا سيما لجهة تمكينها من اتخاذ كل الإجراءات الآيلة إلى حماية النساء الضحايا وأطفالهن، يُطلب الإيعاز إلى عناصر الضابطة العدلية بفتح محاضر فورية في قضايا العنف الأسري جميعها حتى في حالات الجرائم غير المشهودة. ويُطلب عدم اشتراط حضور الضحية إلى مركز الضابطة العدلية للاستماع إلى إفادتها في حال أدلت بأنها لا يمكنها الانتقال بسبب الأوضاع الصحية، وقيام المحامي الاستئنافي المختص بالاستماع إليها من قبله شخصيًا، أو من قبل الضابط العدلي المكلف بالتحقيق عبر تقنية الفيديو كول أو بأي وسيلة يراها مناسبة».

العنف بالأرقام
يؤكد تقرير صادر عن جمعية «كفى» أنّ الاتصالات التي تلقّتها الجمعية من نساء يتعرّضن للعنف خلال شهر نيسان بلغت ٥٦٢ اتصالًا، أي ضعف الاتصالات التي تلقّتها في شهر آذار الفائت أي مع بداية الحجر المنزلي. ١٠٥ من الاتصالات كانت جديدة، فيما توزّعت الأخرى بين استفسار، استشارة، طلب مركز إيواء ومتابعة. وقد بلغ مجموع الخدمات التي استفادت منها المتّصلات ١٩٩ خدمة اجتماعية و ١٢٥ قانونية. من بين الـ ١٠٥ نساء مستفيدات جديدات ٩٧ راشدات، ٨٦ لبنانيات، و ٦٨ متزوجات. وأشار التقرير إلى أنّ أشكال العنف المبلَّغ عنها توزّعت بين ٩٩ حالة عنف نفسي، ٩٥ لفظي، ٧٩ جسدي، ٦٦ اقتصادي، ٣٨ جنسي و ١٨ قانوني. وقد سجّل شهر نيسان وحده بحسب الجمعية ٦ جرائم قتل جراء العنف المفرط.

اتجاهات مقلقة
جاء في نشرة تصدرها الهيئة اللبنانية لشؤون المرأة بالتعاون مع هيئات دولية أنّ «الاتجاهات الأولية تشير إلى أنّ إجراءات الإغلاق المتصلة بجائحة فيروس كورونا المستجد، أدت بالفعل إلى تفاقم حوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي، وإلى أنّ هذا التفاقم يرجّح أن يستمر. فمستويات العنف ضد المرأة، المرتفعة، ولا سيما التي تقع على النساء والفتيات قد تضاعفت بفعل الحجر الصحي والعزلة الاجتماعية، وكذلك بسبب فقدان الوظائف والدخل الذي يفاقم الضغوط».