رحلة في الانسان

كيف ننجح في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب
إعداد: غريس فرح

القرار المناسب في الوقت المناسب؟

 

في الحياة أشياء تعجبنا وأخرى تثير نفورنا. مع ذلك نقبل أحياناً بما لا نحب, ونرفض ما يخدم مصالحنا. بتعبير آخر, فإن الكثيرين منا يجهلون كيف يمارسون حقهم بالرفض والقبول في مجالات حياتية عدة, فيتعثرون, ويفشلون ويغرقون في مشاعر الإحباط والندم. ويزيد الأمر سوءاً استسلام هؤلاء للدوران في حلقة ضياعهم, وكأن الحل قد أصبح خارج نطاق إرادتهم.
فكيف يطرح الإختصاصيون هذه المشكلة الشائعة, وبماذا ينصحون لعلاجها في حال ترسخها في الشخصية؟

 

إعادة التأهيل السلوكي

عدم المقدرة على حسم الموقف بوضوح وحزم, وخصوصاً في الظروف الصعبة, مشكلة حياتية تطاول الكثيرين, وتتسبب بها عوامل مختلفة منها, ترسبات الظروف المحيطة بمراحل تكوّن الشخصية. وعلماً أن هذه الظروف تـؤثر بأشكال متناقضة على معايشيها, وذلك وفق طباعهم الفطرية, فإن نسب ترسباتها, وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة, تختلف أيضاً وفق المعايير الآنفة الذكر, وتنعكس على الشخصية بأشكال لا مجال لحصرها.
من هنا يفضّل الإختصاصيون عدم مناقشة العوامل المتسببة بضعف الشخصية وبالتالي عدم التحلي بالوضوح والحزم, لأنها عوامل غير ثابتة, ولا ترتكز الى مبادئ تربوية واضحة. ما يعني أن نسيج الشخصية القابل للتغيير باستمرار يرتبط بتفاعل طباع كل فرد على حدة مع عوامل الظروف الإجتماعية والعائلية. لذا كان التركيز على أهمية إعادة التأهيل السلوكي في حال المعاناة من هذه المشكلة, مع الأخذ بالاعتبار الأحاسيس البشرية الكامنة وراء التردد وازدواجية الرأي, وملابساتها الغامضة.

 

عندما تختلط المشاعر

اللافت كما تشير الدراسات النفسية أن الكثيرين يخلطون عموماً بين الرفض والقبول, ويعبّرون عن رأيهم بإبداء عكسه. فلماذا يحصل ذلك؟

حالة الرفض كما هو معروف, تتجذر في الشخصية بدءاً من أولى سنوات الطفولة. فهي تعزز شعور الطفل بوجوده, وتتجلى بتحديه لأوامر ذويه وتوجيهاتهم. ومع إصرار الأهل على تنفيذ رغباتهم بطرق تتعارض وميول الطفل وصراعاته الداخلية, فإن الأحاسيس السلبية بما فيها الميل الى الرفض, تترسخ في نفسه تدريجاً لتمنعه مع الوقت من التفريق بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه. الى ذلك, تلعب الجينات الوراثية دوراً بالغ الأهمية في رسم خطوط الشخصية السلبية. وهذه الخطوط تتمازج مع عوامل البيئة غير الملائمة للطباع الفطرية, لتجعل من الرفض شكلاً من أشكال الدعم والحماية. من ناحية أخرى, فإن الشخص الذي تعوّد على الإحتماء بالمشاعر السلبية الرافضة خلال سنوات الطفولة والمراهقة, قد يجد نفسه لاحقاً أمام مستجدات تتطلب المرونة والقبول بالواقع. وباعتباره غير مهيأ للتعاون وتبادل الآراء, فمن الطبيعي أن يتردد ويخاف ويعجز عن اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب.

 

كيف نعالج هذه المشكلة؟

يؤكد الاختصاصيون من جهتهم أن التأرجح بين الرفض والقبول هو حالة طبيعية تنبع من الحاجة الى التوازن الذي يمكّن أصحاب القرار من تغيير خياراتهم وفق الظروف. لكن عندما يختلط شعور الرفض بشعور القبول ليولّد حالة ضياع نفسي, وفقدان للتوازن الإيجابي, فإن الوضع يختلف, وبالتالي يصبح الرازحون تحت وطأته بحاجة الى مساعدة. من هنا ينصح المختصون المعانين من هذا الوضع بالتالي:

 

تعزيز الثقة بالنفس: باعتبار الثقة بالنفس أحد خطوط الشخصية القابلة للتعديل والنمو, فإن تعزيزها ليس صعباً كما يتهيأ للبعض, بل في غاية السهولة. وما على الراغبين سوى التعرّف الى مشكلتهم, والعمل على حلها بقرار ذاتي. وفي حال تعذّر ذلك, فإن الإستعانة بالعلاج النفسي يبقى الحل الأنسب.
وبالنسبة للتأهيل الذاتي أو التقويم السلوكي, فأسهل الطرق هو اللجوء الى تنمية المهارات المهنية والإبداعية, إضافة الى الإستزادة من المعارف والعلوم من أجل تأكيد الذات وترسيخ الوجود في المجتمع. كما يوصى بالعمل الدؤوب واقتناص فرص النجاح لكسر طوق التفكير السلبي ومواجهة وتيرة الخوف والتردد. ولتأمين ذلك, ينصح بإقامة العلاقات الإجتماعية والصداقات للتخلص تدريجاً من الخجل والشعور بالنقص والوصول الى الشجاعة الكافية للتعبير عن الرأي واتخاذ القرار.

 

الإستعانة بالفكر المنطقي: كما سبق وأشرنا, فإن الإنسان يتمتع بالفطرة بثنائية فكرية تعمل متوازية لتخفيف وقع القرار المتسرّع, والذي يعقبه عموماً الشعور بالندم. بمعنى أننا كبشر, لا نتمكن من اعتماد خط فكري ثابت لا تطرأ عليه تغييرات ضمنية متلاحقة ومتناقضة أحياناً. من هنا أهمية التحلي بالفكر المنطقي التحليلي الذي يتصدى للتسرّع الهوسي, والتردد غير العقلاني والهروب من الواقع. ولبلوغ هذه المرحلة, لا بد من اعتماد أساليب تدريبية صارمة تخضعنا تدريجاً لحكم المنطق السليم, وتخلصنا من صراع إزدواجية الرأي, وما يعقبه من شعور بالندم والنقص والإحباط.

 

كيف نواجه هذا الصراع؟

يوجز الإختصاصيون أهم السبل للتخلص من هذا الصراع بما يلي:
­ - التخلص من القلق النفسي بقوة الإرادة, أو بمساعدة المعالجين النفسيين والتقيد بإرشاداتهم.
 -­ ممارسة الرياضات الخفيفة التي أهمها المشي, إضافة الى الرياضات الروحانية التي تؤمن التركيز الفكري, كرياضتي التأمل واليوغا.
­ - التعرّف الى الأولويات والمصالح الشخصية والعامة والعمل على حمايتها بإتخاذ القرار المنطقي السليم.
­ - الإبتعاد عن الإنفعال والعدائية والتدرب على استخدام الهدوء والحزم أثناء الإضطرار الى رفض التسويات التي تضر بالمصلحة الشخصية والعامة.
 ­- بذل الجهود للتخلص من عادة التسرّع, واللجوء الى دراسة المعطيات بعمق وروية قبل اتخاذ أي قرار برفضها أو قبولها.
­ - عدم الإنجراف وراء الميول الذاتية والتوقعات الخاطئة مع الحرص على دراسة التأثير الإيجابي والسلبي لأي قرار قبل اتخاذه.
­ - التخلص من الضعف وعدم أخذ آراء الغير بعين الاعتبار إلا بعد التأكد من صحتها.
الأخذ بهذه الإرشادات, إضافة الى بذل الجهود الذاتية لإستعادة السيطرة على النفس, هي بداية الاعتراف باستقلالية الكيان, والتصميم على الفوز في الحرب ضد الخوف والتردد. عندها نتمكن من رفض ما يؤذينا بهدوء وحزم, وقبول ما يخدم مصالحنا بدون خجل. ونتيجة لذلك, يسهل علينا تحقيق التوازن الصحيح بين ثنائية الرفض والقبول القابعة في أعماقنا لأهداف فطرية بناءة.