- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
يحتاج الإنسان إلى كتمان بعض أسراره إن لم يكن كلّها، وخصوصًا إذا كانت مثيرة للخجل أو العار.
والأسرار المعنيّة بالبحث، لا تقتصر على الأحداث الموجعة، فالأحلام الشريرة التي تراود البعض في عتمة الفكر، هي أيضًا أسرار يصعب إخراجها إلى العلن.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن كبت هذه الأسرار يحوّلها مع الوقت إلى أعباء تثقل كواهل حامليها، نجد أن معظم هؤلاء يعانون بالفعل صراعات مضنية لا يحسدون عليها.
هذه الأسرار التي تتجاوز الذاكرة أحيانًا إلى اللّاوعي، كيف تتفاعل مع خطوط الشخصيّة، وما هي وسائل مواجهتها؟
الصراعات الداخليّة والشخصيّة المزدوجة
حسب رأي العاملين في الحقل النفسي، فإن بروز مؤشرات الشخصيّة المزدوجة هي إحدى أبرز إفرازات الأسرار المكبوتة. والسبب أنّ المعنيين بهذه الأسرار، والذين عمومًا ما يدفنون أصداءها في عمق ذاكرتهم، يعانون من تحرّكها المؤرق من وقت إلى آخر، وهذا يضطّرهم بشكل لاواعٍ إلى التستّر وراء أقنعة تقمع شخصياتهم الحقيقيّة، أو بالأحرى، حقيقة ما يخفون. بهذا يبدون وكأنهم يكذبون على أنفسهم إلى حدٍ يصدّقون معه كذبهم. وهنا يبرز السؤال: لماذا الخجل من خفايا أحداث ماضية أو أفكار مرّت في البال، ولماذا كل هذا التكتّم؟
الإنسان مطبوع على الكتمان
في ما يتعلّق بالأسرار الحميمة، فإنّ الإنسان منذ صغره مطبوع على كتمانها. فالطفل بعد سن الرابعة، يبدأ بالكذب على والديه ليتهرّب من القصاص. بعدها تبدأ رحلته الطويلة في مجتمع معقّد بكل ما فيه من مسموحات وممنوعات. وعلى هذا الأساس، تنمو في داخله ذكريات أحداث مقلقة يخشى استرجاعها حتّى في مذكّراته الخاصة.
إنّه لحمل ثقيل
الإنسان مطبوع على الخجل من أعمال يرفضها المجتمع وتمنعها التقاليد. وخجله هذا يبدأ كما سبق وأشرنا من والديه، وهدفه من وراء ذلك التستّر على أعمال وأفكار يرفضانها. بهذا ينمو خائفًا من رأي الناس في كل ما يقول ويعمل، إلى حين بلوغه سن المراهقة. وبحسب الاختصاصيين، خلال هذه المرحلة بالذات، تتكثّف الأسرار، وتقوى وتيرة الكتمان. أما السبب برأيهم، فهو أن المراهق تستهويه المجازفات الممنوعة، وفي الوقت نفسه يخشى القيام بأعمال يرفضها البالغون. والأهم أن الخوف الذي يرافق هذه المرحلة، يثقل حمولة الكتمان، فتتفجّر الصراعات وتأخذ أحيانًا أبعادًا لا تحمد عقباها، وهذا يعني أن حافظي هذه الأسرار يدفعون الثمن غالبًا. والسؤال المطروح: لماذا؟
الاحتفاظ بالسرّ ينهك الفكر
إنّ كتمان السرّ وما يرافقه من خوف وقلق، يأخذ حيزًا كبيرًا من التفكير. وهذا يتعارض وتأدية الأعمال، وكذلك التقرّب من الناس بشكل طبيعي. فالخوف من انكشاف السرّ يقمع زناد الفكر، ويفسد العلاقات. وكلما زاد عدد الأسرار، تعقّدت الحياة أكثر، وزادت حدّة المعاناة.
خصائص الشخصية المكبوتة
على كلٍ، الأسرار ليست جميعها سامة أو مخيفة. فبعضها يختزن معلومات تضفي على أصحابها الشأن والقوة. فمجرّد شعورهم بأنهم يعلمون شيئًا لا يعلمه سواهم، يؤمّن لهم الراحة النفسيّة والشعور بالعظمة.. هذا في حال كانت هذه الأسرار تعود إلى سواهم. أما بالنسبة إلى أسرارهم الخاصة، ومنها على سبيل المثال التورّط في السرقة أو الاختلاس أو التعدّي على حقوق الغير وارتكاب أعمال منافية للأخلاق، فإن ذلك شأن آخر. في حال كهذه يصبح كاتم السرّ عرضة للتوتّر والقلق بسبب الهروب حتى من نفسه. وقد يصبح عرضة للأمراض الجسديّة والنفسيّة.
فصاحب العلاقة، كما سبق وأشرنا يكذب ضمنًا ويصدّق كذبه. وبحكم العادة والتكرار يتحكّم بالكذب ويتقن فن الهروب وهو ما يزيد الأمر سوءًا.
ما هو الحلّ؟
الحلّ بحسب الاختصاصيين يكمن في المصالحة مع الذات. أو بمعنى آخر، مواجهة ماضي أحداث ترسّخت في اللّاوعي لتوجع القلوب بوقعٍ متبقٍ في الذاكرة.
الاحتفاظ بسرّ دفين ليس بالأمر السّهل، لكنّ مواجهته ومن ثم تحليل أحداثه والتأقلم مع أصدائها يعطي النتيجة المرجوة.
من هنا ينصح الاختصاصيون بالتوجّه إلى المعالجين النفسيين في حال تعثّر باقي الحلول. فعن طريق التناغم مع أشخاص مؤتمنين على أوجاع الغير، قد يتمكّن المعنيون من انتزاع بقايا أسرارهم المؤرقة، وبالتالي تعلّم كيفية مواجهتها. جدير بالإشارة هنا أنّ كشف النقاب عن أحداث ماضية، ليس بالأمر السّهل. لكن الثقة التي يمنحها الاختصاصيون النفسيون، هي كفيلة بإزاحة أعباء تثقل كاهل أصحابها وتفسد عليهم الحياة.
في الواقع، لكل منّا أسرار يختلف وقعها بحسب أهميّتها. لكنّ مواجهتها بشكل تدريجي تمنحنا مقـدرة السيطـرة على الخوف من انكشافها.
الأهم هو أن نعي بوضوح أن لا شيء يدوم في حياة متغيّرة. فنحن لا نستطيع أن نبدّل نظرة الغير إلى الأمور، ولا أن ننسى ما حدث. لكن بوسعنا أن نحافظ على توازننا بشكل يكبح جماح الخوف من واقع مرّت عليه الأيام.
أسرارنا الشخصيّة هي ذلك الواقع. فلنتأقلم معها بوعي وعقلانية لنتمكّن من مواجهة الحياة من دون أقنعة كاذبة.