قضايا إقليمية

كيف ولمـاذا تتفلت إسرائيــــل من العقوبات الدولية؟!
إعداد: إحسان مرتضى

الكيان الصهيوني يمارس العدوان والاحتلال ويخرق المواثيق والأعراف الدولية ويضرب عرض الحائط بقرارت مجلس الأمن والجمعية العامة للامم المتحدة

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية, أول هيئة قضائية دولية, تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد, لمحاكمة مجرمي الحرب والمرتكبين للفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري.
فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الإنسان, بما توفره من إقرار الدول الموقعة عليها, وبالتالي المجتمع الدولي, مبدأ العدالة الشاملة وعدم الإفلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطيرة بحق الضمير الإنساني على المستوى الدولي.
ولذلك ليس عبثاً أن تصف المفوضة العليا لحقوق الإنسان ماري روبنسون إنشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية بأنه حدث تاريخي وهو ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الى اعتباره خطوة عملاقة نحو تحقيق شمولية القانون والسياسة.
وعلى الرغم من أن العديد من الدول الكبرى, بما فيها بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا, عارضت إنشاء نظام المحكمة أو تحفظت عليه, فإن إنشاء المحكمة ودخولها حيّز التنفيذ على الرغم من الإعتراضات الشديدة, يعتبر بحد ذاته أحد التطورات المهمة في مطلع هذا القرن, وإحدى تحدياته الكبرى.
في مقابل ذلك رحب الاتحاد الأوروبي ببدء العد العكسي للعمل بنظام المحكمة لأنها ستكون أداة فعّالة في مكافحة الإفلات من ارتكاب الجرائم, وهو ما رحب به بشكل خاص الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
ولعل من اللافت للنظر أن إسرائيل هي في طليعة الدول التي عارضت إنشاء المحكمة, خصوصاً في ظل تصاعد الدعوات الدولية لمحاكمة أرييل شارون واعتباره مجرم حرب ليس لأعمال ارتكبها في الماضي مثل مجازر صبرا وشاتيلا وحسب, بل نظراً الى الجرائم المستمرة بحق السكان المدنيين العزّل في مدن جنين ونابلس ورام الله والعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة الأخرى, فضلاً عن تدمير البنى التحتية وهدم المنازل والقتل العشوائي للأسرى مما يعد انتهاكاً لاتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949, ولا سيما الاتفاقية الرابعة وملحقها البروتوكول الأول لعام 1977 بشأن حماية ضحايا النزاعات الدولية المسلحة.

وهنا لا بد من الإشادة بالدور الذي أداه منتدى المنظمات غير الحكومية, بما فيها منظمات عربية, في إنضاج ظروف قبول فكرة المحكمة, حيث تحولت تلك الفكرة الى واقع مع نهاية العقد الأخير من القرن الماضي, حيث تم في روما في شهر تموز/ يوليو 1998 إصدار القرار بإنشاء المحكمة لتصبح أمراً واقعاً بعد أن كانت حلماً بعيد المنال.
الولايات المتحدة, من ناحيتها, بررت خشيتها من إنشاء المحكمة, بخوفها من أن تصبح أداة سياسية ضد تصرفات جنودها المنتشرين في مناطق كثيرة من العالم, في حين أن مندوب إسرائيل برر رفض حكومته إنشاء المحكمة بأنه لا يمكنها القبول بأن ينظر الى الاستيطان في المناطق المحتلة على أنه من كبريات الجرائم الدولية التي يقع اختصاصها ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية, الأمر الذي يعني أنها دولة خارجة على نطاق الشرعية الدولية في مواجهة قواعد القانون الدولي, وخصوصاً أن سياساتها العنصرية والإستيطانية والإجلائية بحق الفلسطينيين بنوع خاص, تشكل جريمة ضد الإنسانية, لا سيما وأنه ورد, بخصوص جرائم الحرب, نص صريح يقول: إن الإستيطان في الأراضي المحتلة من قبل دولة الإحتلال, يعتبر تغييراً ديموغرافياً في طبيعة الأراضي المحتلة, ومن ثم يعتبر جريمة حرب في مفهوم اتفاقية جنيف الرابعة.
فإسرائيل تسعى, من خلال احتلالها, الى تحويل الشعب الفلسطيني الى أقلية عددية وسياسية, وتؤسس لنظريات تقوم على الاستعلاء العنصري والتفرد وادعاء الأفضليات والحقوق الإلهية والتاريخية, مقيمة بذلك نوعاً جديداً متطرفاً من أنواع الفصل العنصري (الأبارتهايد) يتجاوز نظام جنوب أفريقيا العنصري أيام سيادة الأقلية البيضاء في ممارسة العنف وارتكاب الجرائم.
على الرغم من كل ذلك, فإن الكيان الصهيوني, الذي يمارس العدوان والاحتلال وخرق المواثيق والأعراف الدولية بصورة دائمة ومستمرة, ويضرب عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة, ومعاهدة جنيف لعام 1949 بخصوص التعامل مع السكان المدنيين في الأراضي المحتلة, لم يتعرض قط لأية عقوبات دولية مثلما حصل مع العراق ويوغوسلافيا عامي 1991 و1999, بحيث أن العراق تم تدميره من أجل قرارات الأمم المتحدة في حين يتم تدمير قرارات الأمم المتحدة من أجل إسرائيل.


والمفارقة العجيبة في هذا الصدد أن الولايات المتحدة, الدولة الأقوى في عالم اليوم, كانت قد صادقت على قرارات مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 وعلى القرار 271 لعام 1969 القاضي بإبطال الأعمال الخاصة بتغيير وضع القدس ويدعو إسرائيل الى التقيد باتفاقية جنيف لعام 1949 والقانون الدولي, والقرار 672 لعام 1990 الذي يدين ارتكاب أعمال العنف من قبل القوات الإسرائيلية في الحرم القدسي الشريف يوم 8/10/1990, ويطلب من إسرائيل الوفاء بالتزاماتها ومسؤولياتها القانونية المقررة في اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب, والتي تنطبق على الأراضي المحتلة عام 1967 وكذلك القرار 446 لعام 1976 الخاص بالإستيطان في الأراضي المحتلة, الذي عد كل السياسات والممارسات الإسرائيلية بإنشاء المستوطنات غير جائزة وسواها من القرارات الأخرى, إلا أنها عملت كل ما بوسعها لمنع تنفيذها, وحالت دون قيام الأمم المتحدة بأية خطوات لا تحظى بموافقة إسرائيل ورضاها. حتى أن الولايات المتحدة استخدمت حق الفيتو أكثر من 150 مرة لحماية إسرائيل من قرارات مجلس الأمن الدولي, وهددت عشرات المرات باستخدامه ضد أية إدانة لها, وعملت على تخفيف لهجة القرارات الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة. وكان آخرها الموقف الأميركي الذي حال دون اتخاذ مجلس الأمن قراراً يدين استخدام القوة المفرطة والقمع الإسرائيلي الوحشي ضد المدنيين الفلسطينيـين العزّل أثناء انتفاضة الأقصى, مما أدى الى تخفيف لهجة هذا القرار, كما وأن الكونغرس الأميركي, الخاضـع بنسبة كبيرة, للنفوذ الصهيوني, دعا الإدارة الأميركية للوقوف ضد إرسال أية قوات دولية لحماية الفلسطينيـين من أعمال القتل الإجرامية التي تمارسها بحقهم القوات العسكرية الإسرائيلية والمستوطنون.

من هنا يتبين أن حصانة إسرائيل ضد العقوبات الدولية تعود في الأساس الى موازين القوى داخل هيئة الأمم المتحدة, وعلى المستوى الدولي, وازدواجية المعايير التي يتم تطبيقها في هذا المجال أثناء التعامل مع إسرائيل من ناحية والعرب من ناحية أخرى.
كذلك فإن عدم تعرض إسرائيل طوال تاريخها العدواني والإجرامي ضد العرب, للعقوبات الدولية من حصار أو مقاطعة أو أي شكل من أشكال العقوبات الأخرى, على الرغم من انتهاكها وتنكرها اليومي للمواثيق والأعراف الدولية, وخرقها لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة, إنما يعود الى الحماية غير العادلة من قبل الدول التي تستخدم حق الفيتو, وفي مقدمتها الولايات المتحدة, ضد فرض مثل هذه العقوبات أو حتى التنديد الكلامي فحسب بالجرائم الإسرائيلية, الأمر الذي يستوجب استراتيجية سياسية وإعلامية عربية شاملة لتقويم هذا الإعوجاج وتصحيح هذا الإجحاف. وإنه لمن المعيب أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً أن تستمر هذه المغالطات والإنتهاكات الفاضحة من دون أن يكون هناك محاسب أو رقيب, ولعل قيام المحكمة الجنائية الدولية يشكل في هذا المجال بصيص أمل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.