من واقع الحياة

لإنهاء قلق أو ألم... الحلول دائمًا موجودة!
إعداد: روجينا خليل الشختورة

"دعاء وجواد وجوري أمانة في رقبتك! الأهم جوري، هي الغصّة، لكنني لم أعد قادرًا على التحمّل، تعبت!"
بهذه الرسالة الحزينة توجّه رجلٌ أربعيني إلى شقيقه مقررًا أن ينهي حياته، موصيًا إيّاه بالاعتناء بعائلته بعدما عجز عن تأمين قوتها اليومي. لكنّ الصدفة السعيدة كانت في اكتشاف الشقيق للرسالة في خزانته عندما عاد فجأة إلى المنزل لأخذ ورقة ضرورية من تلك الخزانة... الصدفة حالت دون وقوع المأساة التي حلّت في بيوت كثيرة.

 

ثمة كثر عبّروا في الرسائل التي تركوها أنّهم أُنهكوا وفقدوا القدرة على تحمّل المعاناة الاقتصادية أو الصحية أو العاطفية، فأنهوا حياتهم، بينما بقيت أسباب انتحار آخرين غير معروفة، وفي كل الأحوال فإنّ من ينهون معاناتهم بهذه الطريقة يخلّفون في عائلاتهم المعاناة والمآسي. لكن لماذا تدفع الظروف نفسها البعض إلى الانتحار بينما تكون بالنسبة لآخرين حافزًا يدفعهم إلى تحدي الصعوبات والبحث عن فرص جديدة؟ وهل إنّ من ينوي الانتحار يُعلن ذلك فعلًا؟ وهل كانت الصدفة في الحالة التي سبق ذكرها السبب الوحيد الذي حال دون انتحار الشخص المعني؟ أم أنّ رسالته كانت بمثابة إنذار لعائلته؟

توضح المعالجة النفسية ميرا دالي بلطه (المشرفة على الخط الساخن 1564 الذي تديره جمعيّة  Embrace التي تُعنى بالصحة النفسية والوقاية من الانتحار)، أنّ الأسباب التي تدفع شخصًا ما إلى الانتحار عديدة، ولكن المراقبة الفعلية لمن يقدمون على محاولات انتحار، تشير إلى أنّهم يشعرون بحاجة ملحة إلى "إنهاء قلق أو ألم يشعرون به"، مع شعور عارم باليأس. وقد يُقدم البعض على الانتحار لأسبابٍ تُعدّ بالنسبة لسواهم سخيفة، غير أنّها في الواقع، منهكة. فليس أسوأ من أن يعاني إنسان، شابًا كان أم كهلاً، متاعب الحياة ولا يجد كتفًا يستند إليه.

كثيرون يطلبون الرقم 1564 أو ما يسمّى بخط الحياة أو يطلبون المساعدة من أصدقائهم أو أقربائهم، ويعبّرون عن خوفهم من تطور حالهم من القلق إلى الانتحار. وبحسب دالي بلطه، يتنازع الشخص الذي يفكر بالانتحار مَيْلان: الأول يريد إنهاء هذا الألم الكبير الذي يشعر به، والثاني  يتمسك بالحياة، ولو بنسبة واحد في المئة فقط. وهذا التخبط بين المَيلين هو ما يحثه على طلب المساعدة. ولأنّ الحلول برأيها موجودة دائمًا، فهي تدعو أي شخص يشعر بفقدان الأمل إلى طلب المساعدة، والاتصال بالجمعية هو أحد وسائل الحصول على هذه المساعدة، فثمّة من هم جاهزون للاستماع إليه وتفهّم مشاعره.

 

عدوى الانتحار

تشير دالي بلطه إلى أنّ العام2019  شهد حصول عدة حالات انتحار متتالية، وتم الكشف عنها في وسائل الإعلام وربطها بالوضعين الاجتماعي والاقتصادي. وفي هذا السياق، تلفت إلى ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بـ"عدوى الانتحار" والتي تدفع الأفراد الذين لديهم استعداد ويمرّون بمواقف مماثلة إلى الانتحار بعد سماع مواقف وحوادث الانتحار في الأخبار. وفيما عوّلت على الدور الكبير للإعلام في زيادة الوعي حول أهمية الصحة النفسية، وعدم النظر إلى من يتابع علاجًا نفسيًا نظرة سلبية، شدّدت على ضرورة التعامل بذكاء مع أخبار الانتحار، إذ لا ينبغي أن يتضمن نقل الخبر أي صور للأدوات المستخدمة في الانتحار أو مسرحه أو وصية الشخص وصورته.

 

الأسباب الشائعة

أسباب الانتحار الشائعة وفق دالي بلطه هي الآتية:

  • عوامل بيولوجية، تتعلق بتغير في الهرمونات أو عوامل وراثية.
  • عوامل نفسية، تتعلق بمهارات التأقلم ومدى مرونة الأشخاص، إضافة إلى نمط تعلّقهم بالآخرين، ومدى تعرّضهم لصدمات خلال حياتهم.
  • عوامل اجتماعية، تتعلق بقدرة وصول الشخص إلى الحاجات الأساسية مثل المأكل والمسكن والشعور بالأمان، وهي الأمور التي يفتقدها العديد من الأشخاص حاليًا في لبنان.

تؤدي هذه العوامل بالتأكيد إلى زيادة الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على الصحة النفسية عبر تفاعلها مع حالات نفسية سابقة أو ضغوطات أخرى، مثل الحالة المزاجية، والمستويات العالية من القلق، وأعراض الاكتئاب، وآليات التكيّف الضعيفة التي تتأثر بالضغوط الحادة، وأنظمة الدعم الاجتماعي السيئة. وقد تُفعّل الضغوطات أيضًا حالات نفسية جديدة، وعندما تتفاقم هذه التفاعلات تزيد من شعور العجز واليأس وبالتالي تساهم جميعها في الأفكار والسلوكيات الانتحارية.

 

العلامات التحذيرية

ما هي المؤشرات أو العلامات التحذيرية التي تدل على أنّ شخصًا ما قد يُقدم على الانتحار؟

تتحدث دالي بلطه عن ثلاثة أنواع من المؤشرات، وهي:

العاطفية والفكرية، وتتضمن:

- الشعور بالحزن الشديد لفترة طويلة أو التقلبات المزاجية.

- الغضب غير المتوقع أو الشعور باليأس حول المستقبل.

- التحدّث عن إنهاء الحياة أو التعبير عن الشعور باليأس وبالألم الذي لم يعد بالإمكان تحمّله، وعن الرغبة بالموت لعدم وجود سبب للعيش.

السلوكية، وتتمثل بـ:

- الانعزال عن الآخرين وفقدان الاهتمام أو المتعة في الأنشطة التي كان يستمتع بها سابقًا.

- الانسحاب من الروتين اليومي كالذهاب إلى العمل أو المدرسة.

- التخلي عن الممتلكات واللجوء إلى الكحول والمخدرات.

الجسدية، وتظهر من خلال:

- تغيرات في الوزن والشهية.

- إهمال النظافة والشكل الخارجي.

هذه المؤشرات ينبغي أن تدفع المحيطين إلى التنبّه واليقظة وتقديم الدعم للشخص المعني، وصولًا إلى طلب مساعدة الاختصاصيين، تجنبًا لحصول مأساة انتحار.

 

حذارِ من فقدان الأمل...

يعاني معظم الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار أو يقدمون عليه، أحد أنواع الاضطرابات النفسية العديدة والمختلفة بعوارضها، إلا أنّه لدى جميعهم عامل مشترك هو فقدان الأمل وفق دالي بلطه. فعندما يصل الشخص إلى مرحلة الشعور بأن لا حل لمشاكله ومعاناته، يفكر بالانتحار كبابٍ وحيد للراحة.

ولكنها تشير في المقابل إلى أنّ الاضطراب النفسي لا يرتبط بالضرورة بالتفكير في إنهاء الحياة، بل يتعلق الأمر أكثر بمدى فقدان الأمل. فهناك أشخاص يعانون الاكتئاب، أو القلق، أو اضطراب ثنائي القطب، أو أي نوع آخر من الاضطرابات المزاجية، وتكون هذه الاضطرابات شديدة لديهم، إلا أنّهم لا يفكرون بالانتحار أو يحاولون ذلك.

وفي ما يتعلق بارتباط الأزمة الاقتصادية وعدم الشعور بالاستقرار بمعدلات الانتحار، تقول دالي بلطه إنّ الأزمة زادت نسبة الشعور بفقدان الأمل. وهي تنصح بالتنبه لمن هم حولنا، فإذا لاحظنا أنّ أحدهم يتألم، من الجيد أن نتكلم معه عن مشاعره وعما يقلقه. 

وهي تنصح مَن يشعر بأنه متعب وبدأ يفقد الأمل، بطلب المساعدة النفسية من أحد المختصين أو التحدث إلى أحد أفراد العائلة أو الخروج مع الأصدقاء كخطوة بسيطة غير علاجية. وتشدّد على أهمية اللجوء إلى العلاج النفسي، كما أنّه يمكن لأي شخص يعلم بمعاناة فرد من عائلته أو صديق له ويشكّ بإمكان وجود أفكار انتحارية شديدة لديه، أن يطلب المساعدة.

ختامًا، يبقى تقييد الوصول إلى أدوات الانتحار من الوسائل المفيدة لتفادي بعض الحالات، وإلى جانب التوعية في وسائل الإعلام، ومنح الأشخاص منافذ أمل، فإنّ التخلص من الوصمة السلبية المتعلقة بالصحة النفسية والتشجيع على طلب مساعدة الاختصاصيين تبقى الطريقة المثلى لبناء مجتمع أكثر راحة واطمئنانًا، حتى في ظلّ الأزمات المتلاحقة

 

أرقام

"يُقدم البعض على الانتحار لأسبابٍ تُعدّ بالنسبة لسواهم سخيفة، غير أنّها في الواقع منهكة. فليس أسوأ من أن يعاني إنسان، شابًا كان أم كهلاً، متاعب الحياة ولا يجد كتفًا يستند إليه."

"الأسباب التي تدفع شخصًا ما إلى الانتحار عديدة، ولكن المراقبة الفعلية لمن يقدمون على محاولات انتحار، تشير إلى أنّهم يشعرون بحاجة ملحة إلى إنهاء قلق أو ألم يشعرون به، مع شعور عارم باليأس.