قصة قصيرة

لارا
إعداد: إميل منذر
عميد ركن

أتى يومًا لزيارتي بعد انقطاع طويل، فألْفَيْتُه هذه المرّة، على غير عادته، هادئ الحركة، لا رغبة له في الكلام. بادرتُه بالسؤال: أين تختبئ عني أيها الصديق؟ لقد مضى على آخر لقاء لي بك وقت طويل.

- هناك ما يثقل صدري ويملأ بالحزن قلبي. لهذا تراني ابتعدتُ عن الناس، ولزمت بيتي وعائلتي علّنى أرتاح. لكن العمل كان في كلّ يوم يزداد ثقلًا والتعب يشتدّ وطأة؛ فجئت أحدّثك في الأمر، وأحمّلك بعض ما أحمل.

- أعرف يا وسام، أعرف.

- تعرف!

- قبل أن تتحرّك شفتاك بالكلام، كانت عيناك الحزينتان تتكلّمان؛ فأكملْ ما بدأتْه عيناك.

- أتدري ما قال أبو نواس في الجِدّ والمزاح؟

- قال: صار جِدًّا ما مزحتُ بهِ
رُبَّ جِدٍّ جرّهُ اللعِبُ.

- هذا ما حدث لي بالفعل.
هكذا قال صديقي، وأشعل سيجارة ملأ بدخانها رئتيه، ثم نفخه مع زفرة طويلة مغمض العينين، وتابع يقول: كان ذلك قبل سنتين من الزمن... في ذلك المساء كنت قابعًا في سريري أقلّب محطّات التلفاز عندما انطلقتْ من هاتفي النقّال إشارة تنبئني بتلقيّ إحدى الرسائل. فتحت الرسالة وقرأت: هل ستنام يا حبيبي من غير أن تقول لي: تصبحين على خير؟ فابتسمتُ لمعرفتي أن صاحبة الرسالة قد أخطأت الرقم، وأنها ربما نامت حزينة لظنّها أن حبيبها ما زال على زعله منها. وعندما أطلّ الصباح، خطر ببالي أن أمازح صاحبة الرسالة؛ فكتبت لها: «إن كان حبيبكِ قد نام ولم يقل لكِ تصبحين على خير، فالحقّ عليكِ لأنكِ أخطأت الرقم، وعليّ لأني لم أقل بالأمس أنك أخطأت، وعلى حبيبكِ صاحب القلب القاسي». وللتوّ تلقّيتُ رسالة تقول: لا تؤاخذني أرجوك. فكتبتُ: والحقّ أيضًا على الحبّ الذي يعمي القلب. فكتبتْ: أكرّر اعتذاري.

- حسنًا. وماذا حدث بعد ذلك؟ سألتُ وسامًا.

 - عندما حلّ المساء، وكاد الليل أن ينتصف، تركتُ زوجتي في السرير وخرجتُ إلى الشرفة لإنهاء التقرير الذي أعدّه للشركة التي أعمل فيها. لكني ما عرفت لماذا وقفتْ صاحبة الرسالة بيني وبين القلم فلم أستطع أن أكتب كلمة واحدة. أجل، فكّرتُ فيها، وعبثًا حاولت أن أنصرف عنها إلى عملي. فالتقطتُ هاتفي الجوّال، وكتبت لها: الجميع نيام، وأنا سهران لوحدي في ضوء القمر. هل أستطيع أن أقول لك: مساء الخير، وإن كنتِ قد نمتِ: تصبحين على خير؟ لكنني لم أتلقَّ جوابًا حتى الصباح حين وصلتني منها كلمات قليلة: أتمنّى لك، أيها المجهول، نهارًا سعيدًا. عندئذٍ قلت لصديقي، وقد عَلَتْ شفتيَّ ابتسامةٌ ماكرة: بدلًا من «أيها المجهول»، كان أحرى بها أن تقول أيها «الجهلان»؛ فما كان من وسام إلا أن نظر في عينيّ متجهّمًا حزينًا، وقال بجدّية: أنت تعرفني منذ زمن بعيد. أترى أني من هذا الصنف من الرجال!

- أعتذر. أكمل قصّتك أرجوك. لقد أثرْتَ فضولي حقًّا.

- كلمة «مجهول» هذه، جعلتني أفكّر وأسأل نفسي: ماذا أرادت بهذه الكلمة يا ترى؟ هل تمازحني أم تحرّضني على التعارف؟ هذه الفكرة الأخيرة راقتني، ودفعتني إلى طلب الرقم من المكتب؛ فطلبتُه. لكن ما رنّ جرس هاتفها مرّة واحدة حتى أقفلتُ الخطّ ورحت أتمنّى ألا تكون قد سمعتْ وأن تهمل الأمر عندما ترى الرقم. لكن ما حدث كان العكس؛ فما مضت دقيقة، حتى رنّ جرس هاتفي. تردّدتُ في الإجابة للحظات لأنّ إحساسًا في داخلي أنبأني أنها هي. ولما أجبتُ سمعتُ صوتًا يقول: لقد طلبتموني. مع مَن أتكلّم؟

- هذا... أنا.

- أنت! مَن أنت؟

- أنا... هو الذي وصلت رسالتك خطأً إليه.
عندئذٍ، قال وسام، ضحكتْ كتغريد العصافير على ضفّة الغدير، ثم سألتْ: وهل طلبتني حضرتك عمدًا أم بالخطأ؟

- بالخطأ... لا، ليس بالخطأ.

- إعتمدْ إجابة.

- في الحقيقة عمدًا. لكن فكّرت في أنّ تصرّفي قد لا يكون لائقًا؛ فأقفلتُ الخطّ... أعتذر إن كنت قد أزعجتك.

- لم يحصل ما يستحقّ الاعتذار. والآن أريد أن أقفل الخطّ.
وأقفلتْ، قال وسام. لكن رنّة ضحكتها بقيت في مسمعي، ونبرتها الهادئة الواثقة وبحّة صوتها ما فارقتا خاطري طيلة النهار. وعندما أويت إلى الفراش ليلًا، لا أعرف لماذا اجتاحتني الرغبة في احتضان يد زوجتي وإراحة رأسها على كتفي، وكنا لا نفعل ذلك إلا في المناسبات السعيدة والأعياد الكبيرة، ختم وسام ضاحكًا فيما عيناه تكادان تبكيان.

- هو الشعور بالذنب يا صديقي... الشعور بالذنب.

- أجل، إنه هو فعلًا.

- قد تكون قصّتك صالحة لأن أكتبها يا صديقي... تابع لنرى.

- صباح اليوم التالي رنّ هاتفي، وكانت هي على الطرف الأخر من الخطّ، قالت: أريدك أن تسامح طريقة كلامي معك بالأمس. لقد كنتُ نظير محقّق يستجوب متّهمًا، وهذه ليست طريقتي في الحديث مع الناس.

- أتعرفين؟ هنيئًا لحبيبك بك. فتاة حسّاسة، وصاحبة ذوق وأدب. وهذه صفات قلّما اجتمعت في إنسان واحد.

- أشكرك على هذا الإطراء الذي لا أستحقّه.

- إني لأسألُ نفسي إن كان حبيبك يستحقّك.
هكذا سألتها، لكنها لم تجب، فظننت أنني أسأت إليها بهذا السؤال وأنني تدخّلت في ما لا يعنيني، لذلك سارعتُ إلى الاعتذار؛ فقالت بصوت ملؤه الأسى: لقد انقطع بيننا كلّ اتّصال.

- أبهذه السرعة!

- لقد أرسلتُ له أعتذر إليه وهو المذنب، وأسترضيه وهو الجاني، لكنه ضنّ عليّ حتى بكلمة حلوة واحدة. ثم استعجلتْ لتقول: لست أدري لماذا أخبرك بكلّ هذا.

- كم أودّ أن أعرف شيئًا عن حاملة هذا القلب الطيّب.  

- أنا فتاة في السابعة والعشرين من عمري، أحمل إجازة تعليمية في علم النفس. حياتي بسيطة للغاية. ثمّة بضعة تلامذة ألقّنهم في بيتي دروسًا خصوصية في اللغة الإنكليزية. أمارس بعض الرياضة، وأقرأ، وأرعى أمّي المريضة.

- والأصدقاء والناس والدنيا من حولك؟

- لا شأن لي بها وبهم. أفضّل الكتاب والبيت لأنهما يشعرانني بالراحة أكثر من أيّ شيء آخر.

- قد يكون علم النفس هو السبب، ألا تعتقدين؟ سألتها بمكر، فضحكت ضحكة قصيرة، وأجابت: لا، لم أصبح مجنونة بعد.

- أستطيع أن أضيف إلى صفاتك الطيبةَ والذكاء وخفّة الظلّ أيضًا.

- كان لي أصدقاء كُثُر، لكنني اكتشفت مع الأيّام أنْ ليس بينهم صديق مخلص واحد. حتى التي كانت تستعير فساتيني، وبِكَلَ شعري وتضطرّني إلى الكذب على أبيها لتغطية غيابها عن البيت حتى ساعة متأخّرة من الليل، حتى هذه... سرقت مني حبيبي يومًا. ومنذ ذلك الحين ماتت فيّ كلّ رغبة في مخالطة الناس.

- وحبيبك الحالي؟
لقد أحببته حبًّا صادقًا، لكن تبيّن لي أنه لا يحبّ فيّ إلّا ما يحبّ كلّ شابّ في كلّ فتاة، وهذا لا يتّفق وأخلاقي وتربيتي.

- هل أستطيع أن أطلب منكِ أمرًا؟

- تفضّل.

- عندما تقفلين الخطّ، اذهبي إلى أمّك، واطبعي قبلة على جبينها عني لأنها أحسنت تربيتك.

- وإن سألتني ممّن هي؟

- قولي لها: من المجهول.
قال وسام: وأقفلتُ الخطّ معها. وغصبًا عني رحت أنتظر بفارغ الصبر اتّصالًا منها. لا أعرف كيف أصف لك هذا الشعور الذي ملأ قلبي وكان لا عهد لي به من قبل. قلتُ: ربما كنتُ أشعر بالشفقة عليها بعدما هجرت الدنيا واحتبست في البيت. وربما كنت أتعاطف معها لأنها تأنس إلى الكتاب مثلي. وربما هو... لا. لست أدري.
وتابع وسام، بعدما أشعل سيجارة ثانية: وفي صباح اليوم التالي رنّ جرس الهاتف في مكتبي؛ فرفعت السمّاعة وأجبت، وإذا هي على الخطّ. قالت: أنت لست عادلًا أيها المجهول.

- لماذا!

- لأنني أخبرتك بكلّ شيء عني ولم تخبرني بأيّ شيء عنك.

- وماذا تريدين أن تعرفي عني؟

- كلّ شيء. اسمك، مهنتك، عمرك، مسقط رأسك، هواياتك... كلّ شيء.

- أنا... رجل متزوّج.

- أعرف.

- تعرفين!

- أتذكُر أنك كتبت لي مرّة: الجميع نيام وأنا سهران لوحدي؟ أعتقد أنك ما كنت لتقول ذلك لو لم تكن لك عائلة.

- يا لك من ذكية!... حسنًا, إسمي وسام. أكبرك بسنوات عديدة. موظّف. أبصرتْ عيناي النور في قرية صغيرة تلبس في الشتاء فستان العروس, وتسامر في ليالي الصيف القمر والنجوم. لي ثلاثة أولاد. وأهوى مثلك الرياضة والمطالعة.

- تعجبني كلماتك ونبرة صوتك الهادئة الواثقة.

- ها قد أخبرتك عني بكلّ شيء, وبقيت عنك أشياء لا أعرفها.

- إسمي لارا. مدينتي بوّابة البقاع من ناحية الغرب. وبيتنا يشرف على السهل الذي يشبه في هذه الأيّام سجّادة ملوّنة.
وتابع وسام روايته لي. قال: ومن غير إرادة مني صرت أنتظر اتّصال لارا صباحًا, وهي تنتظر كلّ مساء أن أرسل لها كلمتين: تصبحين على خير. حتى كان يوم أقفلت فيه هاتفها, فما عدت أستطيع أن أكلّمها. قلتُ إنها سمعت أخيرًا صوت عقلها فاتّخذت قرارها الصائب بإنهاء اللعبة والابتعاد عني لأن مستقبلها ليس معي. أرسلتُ لها رسائل كثيرة لعلّها, عندما تفتح هاتفها, تراها. لكني لم أتلقَ أيّ جواب إلا بعد ثلاثة أيّام لتنبئني أنّ عارضًا صحّيًا أصابها فجأة؛ فدخلت المستشفى وخضعت لعملية جراحية. لم أستطع, وهي تخبرني, أن أحبس الدمعة في عيني. وسمعتها تقول بصوت باكٍ: عندما حقنوا ذراعي بالمخدّر وقادوني إلى غرفة العمليات, لم أفكّر إلا فيك. وعندما أستيقظتُ، كنتَ أوّلَ مَن فكّرت فيه.

- لمَ لم تتّصلي وتخبريني؟

- لم أرِد أن أشغل بالك.

- ألا ترين أنك شغلته, في إقفال الخطّ, أكثر يا...

- قلها يا وسام, قلها.

- يا... حبيبتي.
وتابع وسام: عندئذٍ سمعتها تغصّ بالبكاء وهي تقول: وأنت حبيبي.

- عليّ أن أعودك لأطمئنّ عليك.

- لا, لا.

- ألا تريدين أن تتعرّفي إلى مَن تكلّمين ومَن تحبّين!

- أرجوك, لا.

- أتخافين أن تبصري في شكلي عيبًا؟

- أنا أؤمن بأن الوجوه مرايا القلوب؛ فلا بدّ إذًا أن يكون جمال قلبك معكوسًا على وجهك.

- إذًا تخافين ألا يعجبني شكلك.

- هل أستطيع أن أخبرك شيئًا من غير أن تعدّه تبجّحًا وغرورًا؟

- بالتأكيد.

- في المرّات القليلة التي أخرج فيها برفقة أمّي وأبي، أرى نظرات الشبّان تنصبّ عليّ، وعيونهم تلاحقني, وأنا لا ألتفت إلى أحد.

- لماذا يا لارا؟ إن عقارب الزمن تدور والأعمار تمضي ونحن غافلون. آن لك أن تختاري مَن سيكون رفيق عمرك وشريك حياتك.

- لم يعد لي ثقة بأحد.

- ما دمتِ جميلة إلى هذا الحدّ, صِفي لي نفسك.

- وكيف تعرف أني لا أكذب.

- الحبّ والكذب لا يجتمعان.

- شعري كستنائيّ طويل. عيناي خضراوان واسعتان. قامتي لا قصيرة ولا طويلة. ممتلئة الجسم غير سمينة, وبشرتي بيضاء.

- بيضاء البشرة لأنك لا تخرجين من البيت. قلتُ ضاحكًا فأضحكتها. ثم أخبرتها أني أحبّ شعرها مجموعًا إلى الخلف كذيل الفرس ومربوطًا بعقدة زرقاء. ففعلتْ ذلك من أجلي.
ومضت الأيام. وباتت تستشيرني في الصغيرة والكبيرة, وتأخذ رأيي في ما تلبس ولا تلبس, وأيّ لون طلاء أحبّ على أظافرها. وتخبرني, كأنها تستأذنني, إذا أرادت الخروج مع أمّها لزيارة أحد الأقارب, وتتصل بي فور عودتها إلى البيت. وفي إحدى المرّات قالت لي: بعد إسبوعين سأنزل إلى بيروت لحضور حفل زفاف أحد أبناء أصدقاء أبي. أتصدّق أني لا أحبّ أن أنزل لأني أكره الحفلات الصاخبة. لكنها نزلت على كره منها. وعندما عادت أخبرتني أن ضجيج الموسيقى وثرثرة الناس من حولها أصاباها بالدوار, والكعب العالي سبّب لها ألمًا في الظهر. فقلت لها: عليك أن تخرجي إلى الحياة وتعتادي الحفلات والمناسبات.

- لا أحبّها ما دمتَ لست معي فيها.

- أنا لست لكِ, وأنتِ لست لي. أنا لي عائلتي. وأنت لك حياتك ومستقبلك.

- أعرف أن حبّي لك هو بغير أمل. لكني لا أستطيع إلا أن أحبّك.

- أتعرفين يا لارا؟ لقد أصبحتُ على يقين أنه عليّ الخروج من حياتك.

- لماذا؟

- أشعر بأنني أقترف ذنبًا بحقّك. أشعر أنني أقف في دربك وقد أحطّم مستقبلك.

- إسمع. أنت لا تقف في دربي، وأعدك بأنه عندما يجيء «فارس الأحلام»، لن أرفضه بسببك.

- الدنيا تغيّرت يا لارا. وفارس الأحلام لن يأتي على حصانه إلى البيت ليطلب يدك. عليك أنت أن تخرجي وتلتقيه في الطريق, في النادي, في السوق, على شاطئ البحر...

- ماذا! على الشاطئ وبلباس البحر! هذا آخر شيء قد أقدم عليه. ثم ضحكت وقالت: أمس ألحّ عليّ والداي للخروج برفقتهما وتناول طعام الغداء في أحد المطاعم, فخرجت. وكان هناك إلى إحدى الطاولات شابّ وسيم لم يرفع نظره عني. وإذ ذهب والداي بعد انتهاء الغداء لغسل أيديهما, دنا مني خادم من الخدم, ووضع أمامي منديلًا ورقيًا مدوّنًا عليه رقم هاتف, وقال: هذا من الشابّ الذي هناك. فقلت: أرجعه إليه, وقل له: لا أريده.

- لماذا فعلت ذلك يا لارا؟

- لأنه تصرّف أحمق, ولأنك تملأ قلبي وحياتي, ولا أستطيع أن أحبّ سواك.

- أرأيتِ أنك لا تعرفين ماذا تفعلين!... لقد قرّرت أن أنسحب يا لارا لأنك لا تسعين إلى الارتباط بأحد بسببي. لن تتصوّري مدى الألم الذي سيصيبني, لكنه القرار السليم. لذلك سوف لن أردّ على مكالماتك إلا متى أرسلتِ لي تدعينني إلى حفل زفافك. وهذا سيكون من أسعد أيّام حياتي.

وتابع وسام يخبرني:
لم تصدّق لارا أنني لن أردّ على اتّصالاتها. إتّصلتْ كثيرًا, وأرسلتْ رسائل كثيرة تقول لي فيها إنها لا تأكل ولا تشرب ولا تخرج من غرفتها. لكنني دست على قلبي ومنعت دمعة روحي من تجاوز أجفاني, ولم أتّصل, ولم أرسل حتى رسالة قصيرة.
ومضت سنتان لا أعرف عنها شيئًا، لكن من دون أن تغيب عن بالي يومًا, حتى وردتني منها رسالة منذ ثلاثة أيّام تقول فيها: بعد أسبوع سأذهب إلى المقبرة لكن بفستان أبيض. أبي وأمّي يريدانني أن أتزوّج بابن أحد الأقارب. قلت لهما: لا أحبّه. فقالا: غدًا تحبّينه. إنه شابّ متعلّم, صاحب وظيفة محترمة, وتتمنّاه كلّ فتاة. أجل يا وسام. بعد أسبوعين سأضع الطرحة البيضاء على رأسي, وسيحتفل الناس من حولي, لكنهم لن يعرفوا أنهم بموتي يحتفلون.
وتابع وسام: أحسست أنني المسؤول عمّا أصاب لارا وسيصيبها. طلبتُ رقمها من هاتفي الجوّال فلم تجب. لكنني تلقّيت رسالة تقول فيها: ماذا تريد؟ عندئذٍ طلبتها مرّة ثانية, فسمعتُ صوتًا متهالكًا من التعب يجيب: هل من أمر جديد تريدني أن أنصاع له بعد!

- دلّيني على المكان لأني أريد أن أكون إلى جانبك.

- لماذا؟ ألتكون شاهدًا على موتي.

ولما حرتُ جوابًا ولذتُ بالصمت, أقفلت لارا الخطّ بعدما قالت: «وداعًا». وها أنا, يا صديقي, قد أخبرتك بقصّتي التي بدأتْ لعبًا ومزاحًا, علّك تجدها جديرة بأن تكتبها.

- ولكن كيف سأنهيها؟

- لا أدري, مؤلّف الروايات هو أنت لا أنا.

مضت على حكاية صديقي وسام سنوات عشر لم يأتِ في خلالها على ذكر لارا ولو مرّة واحدة. لكنّ عينيه وحزنه وصمته كانت تتحدّث عنها في كلّ مرّة. وكان يومٌ رافقني فيه إلى حفل توقيع آخر رواياتي حيث اجتمع حشد من الأصدقاء والمهتمّين. هناك, لمحتُ بين الناس امرأة في أواخر العقد الرابع من عمرها, جميلة المحيّا, ترتدي فستانًا أسود, وتجلس في آخر صفّ من غير أن تتكلّم إلى أحد.

كان الناس يتقدّمون الواحد تلو الآخر لأوقّع الكتب التي في أيديهم. وكانت المرأة, التي بالفستان الأسود, آخر من تقدّم. ولما وقّعتُ لها الكتاب الذي تحمله, سألتني إن كان بوسعنا أن نجلس معًا لمدّة نصف ساعة لتحدّثني في أمر ترغب أن تحدّثني فيه, فدعوتها وصديقي إلى فنجان قهوة, وأصغيت إليها. قالت: عرفتُ عن طريق الصدفة- أيها السيّد- أنك ستوقّع اليوم وفي هذا المكان كتابك الجديد، فجئت لأسلّم عليك وأخبرك قصّة صغيرة ربما وجدتَ فيها ما يستحقّ أن تكتبه.

- ولماذا اخترتِني أنا، سيّدتي!

- ألستَ صاحب رواية «العناق الأخير»؟

- بلى.

- إذًا أنت تعرف معاناة مَن يُبتَلى بحبّ يائس لا رجاء له.
- أهلًا بك سيدتي. تفضلي.

- القصّة، في الحقيقية، هي قصّتي أنا... في ذلك اليوم منذ ما يقارب العشر سنوات أذعنتُ لإلحاح أبي ورغبة أمّي المريضة، وتزوّجت بشابّ من أنسبائنا، يملك منزلًا جميلًا، وأحواله المادّية جيّدة، لكنني لم أكن مغرمة به. يومذاك قالت أمّي إن الحبّ يُولد من المعاملة الحسنة، وقال أبي إن الحبّ ليس كلّ شيء في الدنيا؛ فقبلتُ لإيماني أنهما خَبِرا الحياة أكثر مني، ولأن... عند ذاك خنق البكاء صوت المرأة، فتوقّفتْ عن الكلام. ثم مسحت دموعها، وتابعتْ: ولأن مَن كنتُ أحبّه ويحبّني لم يكن لي حظّ به؛ فكرهتُ الحياة وكرهت نفسي لأجله. وتابعت تقول: كان لي في البيت خدَم، وسيّارة من أحدث طراز، وكلّ ما أريده كنت حاصلة عليه. لكنني لم أكن سعيدة. ليس هذا ما أردته وتمنّيته. ما كنت أريده وأتمنّاه هو الحياة البسيطة إلى جانب حبيب يشتاق إليّ إذا غابت عيناه عني، ويَدمى قلبي إذا جرحت شوكة إصبعه. لكن هذا لم يكن مقدّرًا لي. قدَري كان أن أحيا عشر سنوات برفقة زوج كلّ هدفه أن يمتلك بيتًا، ويتزوّج، وينجب أولادًا يرثون أمواله. لكنه لم يستطع أن يحقّق أكثر من نصف حلمه، وأنا كنت السبب لأنني لم أنجب له. الأجنّة كانت تموت في أحشائي لأن جسدي رفض أن يحمل ما ليس من رجل أحبّه. لذلك طلبتُ منه الطلاق ليتزوّج بمَن تستطيع أن تلد له؛ فطلّقني، وعُدتُ إلى الحرّية، لكن ليس إلى الحياة؛ فحياتي هي من دون معنى.

- وهذا الفستان الأسود؟

- لبستُه حدادًا على نفسي، على عشر سنوات من عمري، بل على حبّي الذي ضاع.

- أتحدّثينني فيه قليلًا؟

- كان حبًّا من غير أمل. وكنت راضية به. مَن أحببته كان متزوّجًا، وأقسم بالله أنه لم يكن في نيّتي مطلقًا أن أبعده عن زوجته وعائلته، لكنه اقتحم قلبي وملك روحي غصبًا عني. أتصدّقان أنني أحببته إلى هذا الحدّ وأنا لم أره مرّة!
عندئذٍ راح صديقي ينظر إلى وجه المرأة وينصت باهتمام؛ فتابعت تقول: لكن وسام آثَرَ الابتعاد عني خوفًا عليّ، خوفًا من أن أصبح غير قادرة على التخلّي عنه ومحبّة غيره. فارتعش صديقي لسماع الاسم. ثم سأل والدموع تُغرق عينيه: أقلتِ اسمه وسام؟

- أجل.

- ألم يكن وسام يبدي رأيه في ألوان طلاء أظافرك وفساتينك؟

- بلى.

- أرى أنك ما زلتِ تربطين شعرك كما يحبّه، لكنك استبدلتِ العقدة الزرقاء بأخرى سوداء.

- ماذا أسمع!

- أنا هو وسام يا لارا. قال، فيما الدموع التي كانت محتبسة خلف أجفانه، سالت على وجنتيه. أما لارا فتملّكتها الدهشةُ، وارتعشت شفتاها وهي تلفظ اسم وسام بصوت مجروح كاد ألا يكون مسموعًا، ثم أخذت الدموع تفور من عينيها: «كنت أظنّ أنني سأموت من غير أن أراك». هكذا قالت، وقرّبت يدها من يده تلامسها برؤوس أصابعها، فما كان من وسام إلا أن أخذ يدها بين كفّيه، ورفعها إلى شفتيه يلثمها بحنان ومودّة.

- ها إني قد عرفتُ الآن نهاية القصّة، ولم يبقَ إلا أن أكتبها، قلت.

- وماذا ستسمّيها؟ سألتْ لارا؛ فقال وسام: سمِّها لارا.

وطال بعد ذلك الحديث، وفي ختامه قالت لارا: شكرًا لك سيّدي لأنك سمعت حكايتي وكنتَ سبب لقائي بمَن عذّب قلبي وأسعده، واستدرّ دمعتي ورسم على شفتيّ ابتسامتي... ثم التفتت إلى وسام: «عشْ حياتك يا وسام، وارعَ عائلتك. أما أنا فعائدة إلى بيتي لأحتبس فيه مع حزني وفرحي. لن أتّصل بك، لكنني سأبقى أحبّك حتى آخر ساعة من عمري».
هكذا قالت، ونهضت عن كرسيّها، وضمّت وسامًا إلى صدرها، وطبعت قبلة على جبينه: «ما أقسى هذه الحياة التي فرّقتنا دهرًا وجمعتنا ساعة لتفرّقنا من جديد». ثم مشت نحو المدخل بخطى بطيئة. وعند الباب استدارت ونظرت إلى وسام، ومسحت دمعة من عينها، وخرجت.