باختصار

لا تفسحوا للموت
إعداد: العميد الركن حسن أيوب
مدير التوجيه

مبانٍ ترتفع وأخرى تنخفض، لا بل تلامس التراب. وسكّان يستبدلون وساداتهم بحجارة الجدران، ويرحلون. بعضهم كان يحاول تلوين تلك الحجارة بطلاء بنيّ أو أبيض أو أصفر، مع ما تيسّر من المصابيح والصّور، وبعضهم كان قد استنفد كلّ أمنية أو أمل، فأبقى الجدران على حالها، إذ ما نفع الاهتمام بها ما دامت إلى سقوط وانهيار؟
ويسرع جنديّ البلاد كعادته، ليقف مع شعبه، ويضمّ جهده إلى جهود المؤسسات الأمنية والصحيّة والاجتماعية، لإنقاذ من يمكن إنقاذه من ضحايا المبنى المشؤوم، المبنى الذي انهار في حي فسّوح بالأشرفية، حيث ترافق الموت مع قساوة القبر، القبر الذي تشكّل من الرّكام الكبير، بحديده وصخره، وغباره الذي بلغ الفضاء، منافساً غيومه في عقر دارها.
الجندي يفعل ذلك انطلاقاً من رسالته الوطنية والإنسانية الشاملة في مواجهة الكوارث، صغيرة كانت أو كبيرة، قريبة أو بعيدة، وفي أبعد البلدان، فتلك كانت حاله مع كارثة طائرتنا التي سقطت في كوتونو (2003)، والباخرة البانامية التي غرقت على مقربة من سواحلنا (2009)، والطائرة الإثيوبية التي هوت في مياهنا (2010).
لم ينشغل الجندي بتحديد المسؤولية، بل انشغل بالمشاركة في الاستجابة لاستغاثةٍ من هنا وصرخةٍ من هناك، وتحديد المسؤولية ليس من صلاحيته بأي حال، وهو لم يُرجع الأمر إلى أيّ جهة، حتى الطبيعة، بسيولها ورياحها، غير متهمّة من قبله، خصوصاً وأنّه يحتاج إلى غزارة مائها لكي يروي شتولاً غرسها في السهول والوهاد، وبذوراً نثرتها طوّافاته فوق القمم. والطبيعة في حسابه، لا تغدر بأحد، وهي لم تفاجئ الإنسان حين أمطرت في كانون، بل كانت لتفاجئه، لو أجدبت وأقحلت وأطلّت بالجفاف والهجير في هذه الفترة الشتائية، وهي كانت لتعرقل حساباته لو أنها أمطرت في تموز، فطردت حسانه من على الرّمال المتوهّجة، إلى المخابئ والسّواتر الآمنة.
فداحة المصيبة هي في أنّ الحلول لموضوع المساكن والبيوت والعمارات تلامس الخيال، والمواطن يلهث خلف مرقد عنزته طالباً الحصول عليه كيفما اتّفق. إنّ حجم المبالغ المطروحة هو الذي يحدد الاختيار، ثم إنّ من أقام وطنه الصغير في مسكن قديم رافقه على مدى عمره، كما رافق الكثيرين من قبله، لا يستطيع في مجمل الحالات أن يحمل حقيبته ويمضي إلى آخر، يختاره بإرادته وعلى هواه. إن للواقع شكلاً يختلف كبير اختلاف عن شكل الأمنية، ولعلّ بين من قضوا أكثر من إنسان كان يحلم بمسكن يقع في الطابق الفلاني من البناية الفلانية، يساوي كذا ويتسّع لكذا، لكنّ السّقوف غلبت الظّروف.