تأملات

لعنة وحكمة
إعداد: العميد دانيال الحداد

قبل نحو عقدين من الزمن، قرّرت ابتياع منزل لعائلتي في إحدى بلدات المتن، فقصدت لهذه الغاية بعض الأصدقاء من ذوي الخبرة في الموضوع، فكان أن تزوّدت منهم عناوين أهمّ تجار البناء في المنطقة، المعروفين بمصداقيتهم وحرصهم على إنجاز المباني في الأوقات المحدّدة وبمواصفات جيدة وأسعار مدروسة.
بعد مرور بضعة أيام، شرعت في زيارة هؤلاء التجار الواحد تلو الآخر، وتباحثت معهم في التفصيل المملّ في مواقع الشقق وأسعارها ومواصفاتها، وفي شروط عقد البيع بما في ذلك كيفية تسديد الثمن، والموعد التقريبي لتسلّم الشقّة الجاهزة للسكن.
لقد تبيّن لي بعد التمحيص والتدقيق، أنّ أسعار المساكن لدى جميع التجار متقاربة إلى حدٍّ بعيد، وهي تختلف بطبيعة الحال، طبقًا لاختلاف المساحات والمواقع والتجهيزات الداخلية، إلاّ أنّ ما لفتني خلال جولاتي الماراتونية وجود بضعة أحياء، تدنّت فيها أسعار الشقق بنسب عالية جدًا، مع أنها تتمتّع بجميع شروط المسكن الذي أطمح إليه، وحين سألت عن السبب لم تكن الإجابات من هؤلاء التجار واضحة أو مقنعة على الإطلاق.
مضيت في الاستفسار والاستعلام، حتى تلقيت الخبر اليقين من أحد معارفي، وهو أنّ تلك الأحياء تقع في جوار مقابر البلدة، ما يجعل الناس تنفر منها كائنةً ما كانت العروض والمغريات.
اقتنعت بتوضيح صديقي تمامًا، لأن الإقامة في محيط المقابر دونها مصاعب كثيرة، فمشاهد الجنازات الدائمة والأضرحة المنتصبة إلى الأبد، إنّما تلهب صدر المرء بمشاعر الحزن تجاه أعزّاء فقدهم، وتذكّره بمهزلة الحياة ومآسي بني البشر، وتحمل إليه في يقظته كما في نومه، الوساويس والكوابيس والأحلام المزعجة. وهكذا انتهى بي الأمر في تلك المرحلة إلى أن ابتعت منزلًا مناسبًا لعائلتي ما زلت أقيم فيه حتى كتابة هذه السطور.
مرّت السنون وتعاقبت الأيام إلى أن شهدت البلاد منذ العام 2007، فورة عقارية لا مثيل لها، لأسباب شيطانية لا مجال لذكرها الآن، إذ امتدّ سرطان الباطون في كلّ اتجاه، وراح ينهش جسم الوطن بأخضره ويابسه، مقطّعًا أوصال الأرض ومحوّرًا أشكالها إلى غير رجعة.
في ظلّ هذه الحمأة، اتصل بي أحد أقاربي من المهجر طالبًا منّي البحث عن شقّة له، كونه قرّر العودة إلى لبنان للاستقرار فيه بصورة نهائية، ولا أدري، ربما كان على دراية واسعة بأن أسعار العقارات سوف تنحو إلى مزيد من الارتفاع في المستقبل.
لبّيت رغبة قريبي، وانطلقت أبحث هنا وهناك عن شقّة تلقى رضاه، وتتناسب مع حجم المال الذي رصده في سبيل ذلك، لكنّي فوجئت بأن الأسعار قد قفزت إلى مستوياتٍ خيالية، لا يتصوّرها عاقل، خمسة أضعاف أو أربعة على الأقل، أمّا تجار البناء فقد انقلب تودّدهم ولطفهم في معاملة الزبائن، إلى شيء من الصلابة وعدم التركيز واللامبالاة، حتى خلتهم من جماعة الزهّاد والناسكين الهاربين من معشر الناس.
بعد الذي رأيته وسمعته، أصبح هدفي الأوّل الفرار بسلام من هذا الجوّ المشحون، وفي طريق العودة إلى المنزل، راودتني فكرة الذهاب إلى تلك الأحياء المجاورة للقبور، لأطّلع على واقع الحال من جديد، ولمّا وصلت إلى هناك، كانت المفاجأة أقسى وأدهى، إذ وجدت سرطان الباطون قد التهم جزءًا من أرض القبور، فيما شرفات المباني المستحدثة باتت تظلّل ما تبقى من الضرائح، كما وجدت جموعًا من العمال الأجانب ينصبون الخيام على مداخلها وعلى امتداد أسوارها بداعي السكن، أمّا بالنسبة إلى أسعار المساكن فقد أصبحت كمثيلاتها في سائر مناطق، بعد أن مُسّت حرمة الموت وكسرت شوكته، وأصبح أمرًا اعتياديًا تألفه النفوس.
غادرت المكان مسرعًا، وأنا أسأل نفسي ترى أيّهم الأحياء والأموات؟ وهل أصبحنا في زمنٍ يتعذّر فيه على الإنسان كلّ شيء وحتى الموت في وطنه؟ ألم يكن أهل الغجر في ذلك كلّه حكماء متبصّرين؟