- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
ويأتي الكبار بالكبائر، ومن تحت قناطر التاريخ شمخت هامات عالية غيّرت وجه البشرية. لا ندري أين يقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حضرة التاريخ والجغرافيا، لكنه، وخلال مئة يومٍ من بدء ولايته في البيت الأبيض، زرع مكتبه بقراراتٍ تنفيذية صادمة، وأطلّ على الرأي العام، محاطًا بمساكب الورد، ليقدّم جردة حساب حول ما أنجزه، وما سوف ينجزه، متعاليًا فوق ردود الفعل والانفعالات؛ فالتحدّيات عنده لا تُؤخذ إلا غلابًا، ومن لم يكن متمكّنًا حاضرًا في المحطة، يفوته القطار.
يوم التحرير
في الثاني من نيسان الماضي، اغتنم الرئيس ترامب حفلًا كبيرًا في حديقة الزهور في البيت الأبيض، وأطلق موجةً من التعريفات الجمركية في يومٍ وصفه بـ «يوم التحرير».
ما الذي يريد أن يحرّره دونالد ترامب؟ وممَّن؟!
إنه، وببساطة متناهية، الخصم والحَكَم في آنٍ. و«يوم التحرير» الذي أعلنه كان بداية الحرب التي اشتعلت، وامتدّت شرارتها باتجاه الرياح الأربع من الأرض، فيما شهدت أسواق الأسهم تقلباتٍ جامحة في محاولة التكيّف مع فوضى الحرب التجارية، التي وصفها كريستوفر والر، أحد محافظي «الاتحادي الفيدرالي»، بأنها واحدة من أكبر الصدمات التي أثّرت على الاقتصاد الأميركي منذ عقود.
وأطلّ شبح الركود برأسه على الاقتصاد الأميركي، إلى حد دفع المستثمرين إلى التندّر بمصطلح «يوم التحرير»، وراحوا يتبادلون السخريات اللاذعة، من قبيل: «هل شعرتم اليوم بالتحرير؟ هل تحرّرتم من أموالكم؟!».
وشهدت أسعار الذهب ارتفاعًا متواصلًا غير مسبوق، إذ غالبًا ما ترتفع قيمته حينما يشعر المستثمرون بعدم الاستقرار. وتذبذبت حركة المؤشّرات الرئيسيّة في «وول ستريت»، «داوجونز»، و«ستاندرد آند بورز»، و«ناسداك»، مع تجميد ترامب فرض الرسوم لمدّة تسعين يومًا، ما أدى إلى ارتفاعٍ طفيف، أعقبه هبوط جديد إثر تهديده بإقالة جيروم باول، رئيس «الاحتياطي الفيدرالي»، ومطالبته بخفض أسعار الفائدة. ثم ارتفعت مرةً أخرى بعد تصريح ترامب بأنه لا ينوي إقالة باول، مما خفّف بعضًا من قلق المستثمرين حيال مستقبل القيادة داخل «الاحتياطي الفيدرالي».
انقلابات بالجملة
وصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض على حصان الاقتصاد، وجعل الناخبين يصوّتون له في العام 2024 بوصفه المنقذ من التدهور الاقتصادي، وغلاء المعيشة، وارتفاع التضخّم، وزيادة البطالة. واعتاد أن يبدأ خطاباته الانتخابية بسؤال الناخبين: «هل أنتم أفضل حالًا مما كنتم عليه قبل أربع سنوات؟». ثم يُغدقهم بوعودٍ حول خفض الضرائب والأسعار، وتحقيق انتعاش اقتصادي.
لكن ما جرى فعليًا أنّ المئة يوم الأولى من ولايته شهدت انقلابات مالية وتجارية واقتصادية غير مسبوقة. وأحدثت مواقفه موجة من الصدمات في الأسواق المالية الأميركية والعالمية. إلى ذلك، فقد شنّ حربًا بفرض رسوم جمركية ضخمة على عددٍ كبير من دول العالم، وكيلت ضدّه اتهامات باستغلال مكانة الولايات المتحدة ورصيدها على المستوى الدولي.
في هذا السياق، أكدت صحيفة الـ «واشنطن بوست» أنّ ترامب، الذي أكمل يومه المئة في منصبه في 30 نيسان الماضي، حقّق نجاحًا مذهلًا في إحداث مستويات عالية من القلق، وعدم اليقين.
الحلفاء والأعداء
خلال تلك الفترة، تباطأ النمو الاقتصادي وانهارت ثقة الشركات والمستهلكين، كما هبطت الأسواق، وتقلصت قيمة مدّخرات الأميركيين، خصوصًا في صناديق التقاعد. ومع أن «الاحتياطي الفيدرالي» الأميركي اقترب من تحقيق هدفه بخفض التضخم إلى نحو 2%، توقّع الخبراء عودة ارتفاعه مجددًا بفعل الضغوط المتزايدة.
وجاءت الانتقادات لسياسات ترامب الاقتصادية من قبل حلفائه وأصدقائه قبل خصومه. فالحرب التجارية التي شنّها ضد كندا، والمكسيك، وأوروبا، واليابان، أثارت غضبًا واسعًا، وأدّت إلى موجة من الانتقادات ضد الولايات المتحدة، خصوصًا حينما تحدث عن كندا كولاية أميركية، وهدّد كلًّا من غرينلاند وبنما، متخذًا خطوات انعزالية بعيدًا عن «حلف شمال الأطلسي». كل تلك المواقف أرسلت إشارات مقلقة تتعلق بالتجارة والتعاون الاقتصادي والسياسي.
أمّا الخصوم، فرأوا في سياساته فشلًا اقتصاديًا من طرازٍ جديد. فالصين، التي يعتبرها ترامب العدو الاستراتيجي الاقتصادي اللّدود، ردّت بقوة في الحرب التجارية، وسعت إلى ملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب ترامب من الساحة التجارية الدولية، من خلال تعزيز نفوذها وكسب ودّ حلفاء الولايات المتحدة المستائين من واشنطن. وفي ردّها الانتقامي على رسوم ترامب، علّقت بكين تصدير المعادن النادرة، الضرورية للصناعات التكنولوجية المتقدمة، والتي تعتمد عليها الولايات المتحدة في تسعين في المئة من إمداداتها.
الاستطلاعات
أظهرت نتائج استطلاعٍ للرأي أجرته مجلة «إيكونوميست» بالتعاون مع مؤسّسة «يوغوف»، أنّ 42 في المئة من الأميركيين يوافقون على أداء ترامب الاقتصادي، مقابل 52 في المئة أبدوا عدم موافقتهم، ما يمثّل انخفاضًا بنسبة 16 نقطة مئوية منذ بداية تولّيه السلطة. وأبدى غالبية المشاركين في الاستطلاع نظرةً متشائمة حيال الاقتصاد، معتبرين أنّ البلاد تسير على الطريق الخطأ، وأنّ الأمور خرجت عن السيطرة.
وكشف استطلاعٌ آخر أجرته وكالة «رويترز» ومؤسسة «إيبسوس» أنّ الأميركيين يشعرون بعدم الرضا بشكلٍ متزايد بشأن تعامل ترامب مع الاقتصاد والتضخّم، رغم انتخابه بناءً على وعوده بإنعاش الاقتصاد الأميركي. وقال 37 في المئة فقط من المشاركين في الاستطلاع إنهم موافقون على قيادته الاقتصادية.
من جهته، قال بروس كاسمان، كبير الاقتصاديين في مؤسسة «جي بي مورغان»، إن الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب كانت مليئة بالأحداث، والتداعيات، وبحالةٍ من عدم اليقين بشأن السياسة التجارية الناجمة عن موجة الرسوم الجمركية التي أدّت إلى تقلّب أسواق الأسهم والسلع، وأسفرت عن توقعات بانخفاض نموّ الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، متوقعًا أن يتعثر الاقتصاد الأميركي ويتجه نحو الركود في الربع الثالث من العام الجاري.
أزمة الثقة
لم يقتصر أثر التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على ثقة المستهلكين والمواطنين العاديين، بل تجاوزهم إلى المستثمرين ورجال الأعمال في مختلف الصناعات، من السيارات إلى الملابس والأحذية والإسكان... مع ارتفاع تكلفة استيراد مدخلات الكثير من الصناعات ما أربك سلاسل التوريد التجارية.
ووفق مكتب الإحصاء الأميركي، فإنّ الشركاء التجاريين العشرة الأوائل للولايات المتحدة في العام 2024 تأثّروا بمليارات الدولارات بسبب تلك السياسات. وهؤلاء الشركاء هم: الاتحاد الأوروبي، المكسيك، كندا، الصين، اليابان، بريطانيا، كوريا الجنوبية، فيتنام، تايوان، والهند.
وتُظهر الأرقام الفجوة التجارية التي نشأت نتيجة ذلك:
الاتحاد الأوروبي: صادرات بقيمة 810.4 مليار دولار مقابل واردات بـ649.2 مليار دولار.
المكسيك: صادرات بـ562.3 مليار دولار مقابل واردات بـ383.3 مليار.
كندا: صادرات بـ475.9 مليار دولار مقابل واردات بـ440.2 مليار.
الصين: صادرات بـ462.5 مليار دولار مقابل واردات بـ199.2 مليار…
إلى ذلك، ألقى التصعيد الجمركي بظلالٍ متشائمة على ميزانيات الأسر الأميركية وأرباح الشركات على حد سواء، إذ تعني الرسوم ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار يثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود، ويضرّ بالشركات التي تعتمد على المدخلات المستوردة، ما يزيد من مخاطر الركود ويهدد بحدوث صدمة سلبية واسعة على الاقتصاد الأميركي.
وعلى الرغم من أنّ الهدف المثالي للرئيس ترامب هو تحفيز الإنتاج المحلي، وزيادة التوظيف في قطاع التصنيع، إلّا أنّ الأميركيين بدوا غير مستعدين لقبول معدلات تضخّم أعلى، وارتفاعٍ في أسعار السلع والخدمات.
وعلى المستوى العالمي، أطلقت المؤسسات الدولية تحذيرات جدية. فقد نبّه «صندوق النقد الدولي» إلى أنّ الرسوم الجمركية الأميركية، ستفاقم الضغوط الاقتصادية، وتدفع الدين العام العالمي إلى مستويات تفوق تلك التي تمّ تسجيلها خلال جائحة «كورونا»، مشيرًا إلى أنّها ستقترب من نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول العام 2030، في ظلّ تباطؤ النموّ وتراجع التجارة الدولية.
ترامب يشيد بأدائه
في المقابل، أشاد الرئيس ترامب بما وصفه بسلسلة من الانتصارات الاقتصادية الكبرى، وهاجم الديمقراطيين بشدة، بمَن فيهم الرئيس جو بايدن، خلال تجمّعٍ حاشد في ولاية ميشيغان، في 29 نيسان الماضي، يوم احتفاله بمرور مئة يوم على تولّيه السلطة.
وتشهد ولاية ميشيغان تنافسًا سياسيًا كبيرًا، وهي مركز صناعة السيارات في الولايات المتحدة. وقد مثّل التجمّع فيها، أكبر حدث يستضيفه الرئيس الجمهوري منذ تنصيبه في 20 كانون الثاني الماضي، رغم أنّ ترامب لاقى فُتورًا لدى الأميركيين في الأسابيع الأخيرة، وسط شعور بالقلق إزاء إدارته الاقتصادية في ظلّ تضخّمٍ مستمر، وتحركات إدارته لفرض رسوم جمركية على معظم دول العالم تقريبًا.
وفي خطابٍ ناري، علّق ترامب على فترة رئاسته الأولى التي امتدّت من العام 2017 حتى 2021 بالقول: «كان لدينا أعظم اقتصاد في تاريخ بلادنا. لقد حقّقنا أداءً رائعًا، ونحن الآن في وضعٍ أفضل.»
وجدّد انتقاداته لرئيس مجلس «الاحتياطي الاتحادي» (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، قائلًا أمام الحشد الضخم في مدينة وارن، التي تضمّ المركز التقني لشركة «جنرال موتورز»: «إنّ رئيس البنك المركزي لم يكن يؤدّي عمله بشكلٍ جيّد.» كما هاجم «المتطرّفين اليساريين»، ودخل في سجالٍ لفظي قصير مع أحد المعترضين. وعلى متن طائرة الرئاسة الأميركية، وقّع ترامب، يوم الثلاثاء 29 نيسان الماضي، على أمرٍ لتخفيف وطأة الرسوم الجمركيّة على السياسات.
وفي سياقٍ منفصل، كشف وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك لشبكة «سي إن بي سي» أنّ الإدارة الأميركية توصّلت إلى اتفاقٍ تجاري مع إحدى الدول، سيخفف بشكلٍ دائم من الرسوم الجمركية «المضادة» التي يعتزم ترامب فرضها، ولم يكشف الوزير عن اسم تلك الدولة.
وفي وارن، وصف ترامب الرسوم الجمركية بأنّها «شريان حياة اقتصادي لولاية ميشيغان». وقال وسط هتافات الحضور: «برسومي الجمركية على الصين، ننهي أكبر سرقة وظائف في تاريخ العالم. لقد انتزعت الصين منّا وظائف أكثر ممّا انتزعته أي دولة أخرى.»
ومنذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني الماضي، يحاول ترامب «استعادة» أميركا كما يريدها المحافظون. وكونه يرى أنّ الشعب الأميركي منحه تفويضًا مطلقًا لسلطته التنفيذيّة، فقد سارع إلى اتخاذ أكبر عدد من القرارات المثيرة للجدل، أبرزها تهميش دور المشرّعين في الكونغرس، وتجاهل قرارات القضاة والمحاكم، مُعرّضًا مبدأ الفصل بين السلطات لاختبارٍ استثنائي. وجاء اصطدامه بـ «السلطة الرابعة» ليضاعف مخاوف الديمقراطيين من احتمالات انتهاك الدستور.
وباشر ترامب أيضًا عملية «تطهير» الوكالات الفيدرالية، و«تجفيف مستنقع الدولة العميقة» في واشنطن، وأطلق «دائرة الكفاءة الحكومية»، واضعًا على رأسها الملياردير إيلون ماسك.
وخلافًا لتقليدٍ مكرّس، لا تبدو الأيام المئة الأولى من العهد الثاني لترامب في البيت الأبيض كافية للحكم على سياساته وقراراته، لكونها سريعة، ومفاجئة، وحاسمة.
عقدة روزفلت
يطمح الرئيس ترامب إلى تحقيق تغييرٍ يتجاوز ما أنجزه الرئيس فرانكلين روزفلت خلال الأيام المئة الأولى من ولايته. فقد أقدم روزفلت في العام 1933 على توقيع عددٍ قياسي من القرارات التنفيذية، إذ دعا الكونغرس إلى إصدار قوانين بالغة الاستثنائية في غضون ثلاثة أشهر، أي مئة يوم تقريبًا، بهدف انتشال الولايات المتحدة، ومعها العالم، من أتون الكساد الكبير بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، في ثلاثينيات القرن الماضي. أما الرئيس ترامب، فقد أسال حبرًا من أقلام «شاربي» لتوقيع عددٍ قياسي من القرارات التنفيذية: 129 قرارًا حتى 21 نيسان الماضي.
وتنعكس «عقدة روزفلت» بأشكالٍ مختلفة لدى ترامب، الذي لم ينسق أي تشريع جديد ذي أهمية مع الكونغرس، بل كان متفرّدًا في اتخاذ المبادرة، بخلاف روزفلت.
ومنذ العام 1933، دأب الخبراء على إحصاء الأحداث وتقييم إنجازات الرؤساء في الأيام المئة الأولى من ولايتهم، ولم يُضاهِ أيٌّ منهم تأثير روزفلت، الذي اعتمد بشدّة على المشرّعين الأميركيين لتمرير 77 قانونًا خلال المئة يوم الأولى من عهده.
في المقابل، أطلق ترامب مع بدء ولايته الثانية في 20 كانون الثاني الماضي سيلًا من القرارات التنفيذية، في سعيٍ منه لإحداث تحوّلات سياسية كبرى، وتنفيذ وعودٍ تعيد رسم صورة الولايات المتحدة بين الأميركيين أنفسهم، وفي نظر جيرانها، وحلفائها، وخصومها على حدٍّ سواء، كقوةٍ عظمى لا تضاهى.
إعادة كتابة تاريخ أميركا
ويتضح يومًا بعد آخر أن ترامب لا يريد الاكتفاء بمعالجة المشاكل الكثيرة التي تعانيها الولايات المتحدة حاليًا، وتلافي ما يمكن أن يصيبها مستقبلًا، بل ذهب أيضًا إلى إعادة كتابة تاريخ أميركا. وليس أدلّ على ذلك إلا عنوان أحد قراراته التنفيذية: «استعادة الحقيقة العقلانية للتاريخ الأميركي»، الذي يُمهّد لاحتفال ترامب، على طريقته، خلال هذا العام أو العام المقبل، بالذكرى السنوية الـ260 لولادة الولايات المتحدة.
ونجح في الأيام المئة الأولى من عهده الثاني في الاستئثار بالأضواء داخل الولايات المتحدة وخارجها، مستعينًا ليس فقط بقوة شخصيّته بعد انتصاره الانتخابي الكاسح، بل أيضًا عبر تشكيله حكومة تضمّ بعض أغنى الأغنياء ممّن يؤمنون بشعاره «أميركا أولًا»، ويعملون من أجل جعل «أميركا عظيمة مرة أخرى».
وسبقه إلى مثل هذه الخطوة الجريئة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين قدّم رؤيته الخاصة لتاريخ إمبراطورية «روسيا» قبيل غزو أوكرانيا، والرئيس الصيني شي جينبينغ الذي يستعين بإدارته لتأبيد السيادة التامة على بحرَي الصين الجنوبي والشرقي.
نحو عالم جديد.. مختلف
وشهدت المئة يوم الأولى من ولاية ترامب، بدءًا من 20 كانون الثاني الماضي، سلسلة خطوات صادمة ومثيرة للجدل، شملت الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واتفاق باريس للمناخ، إلى جانب سحب الدعم الأميركي لوكالة (الأونروا)، وفرض زيادة الرسوم الجمركية على صادرات عدة دول، ومعاقبة قضاة وموظفين في المحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن التهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واقتراحه بتهجير الفلسطينيين من غزّة، وتهديده بجعل كندا الولاية الـ51، والاستيلاء على جزيرة غرينلاند، وقناة بنما… أثارت هذه التوجهات العديد من التساؤلات حول أثرها على مستقبل النظام الدولي، وقيمه، ومدى مساهمتها في تقويض فرص الاستقرار الدولي، وتعزيز الانقسامات، والتشرذم.
مع تصاعد هذا النهج، بدأت تظهر تحديات جديّة من شأنها أن تقوّض فرص السلام العالمي، وتؤدي إلى تهميش أدوار المؤسسات الدولية، وتجاهل حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وتزايدت المخاوف من أن تفضي هذه السياسات إلى تقويض أسس النظام العالمي الذي تشكّل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في كانون الأول 1991، وجعل من الولايات المتحدة القطب المهيمن على تفاعلاته، قبل أن تبرز الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت العام 2008، ليبدأ الحديث عن تعدّدية قطبية من الناحية السياسية، رغم احتفاظ الولايات المتحدة بمكانتها كأكبر قوّة عسكرية في العالم من حيث حجم الإنفاق العسكري.
قطب... أم أقطاب متعددة؟
إلى ذلك، تثير تلك التوجهات تساؤلًا حول تأثير السياسات المتّبعة من قِـبل الرئيس ترامب على مستقبل السياسة الأميركية، وما إذا كانت ستُسرّع من وتيرة التحوّل إلى نظام متعدد الأقطاب، أم أنها ستحافظ على الهالة والتفوق من الناحيتَين السياسية والعسكرية؟
ويدور جدل حول نموذجين:
الأول، أحادي القطبية: يقوم على السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة منذ إعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب العام 1991 عن «ميلاد نظام عالمي جديد» أحاديّ القطبية تقوده الولايات المتحدة، ويقوم على الحرية بشقَّيها السياسي والاقتصادي كقيمة مركزية لتلك الأحادية، وهو ما سيكفل استدامة السلام، وضمان الأمن والاستقرار العالمي، وفق منظّري هذا الاتجاه، بافتراض أن القطب الواحد سيتحرك بسهولة ليفرض قيمه، ويرسي دعائم نظمه الأمنية والسياسية والاقتصادية.
الثاني، متعدّد الأقطاب: يرى المنظّرون لهذا النموذج أنه أكثر عدالة، إذ يُوزّع القوة الكونية بين عدّة أطراف لديها مقوّمات القطب من الناحية الاقتصادية، والثقافية، والعسكرية، ويُحقّق نوعًا من التوازن الدولي، ويحول دون احتكار الهيمنة والنفوذ من قِـبل دولة منفردة بمستقبل العالم.
وربما يُجسّد هذا التوجّه اتفاق قادة الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا (دول مجموعة البريكس) على ضرورة التحوّل نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهو ما أكّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 19 أيلول 2024 بقوله: «إن دول تجمّع بريكس عازمة على إنشاء نظام عالمي ديمقراطي متعدد الأقطاب».
إنعكاسات.. وتداعيات
وإذا كان الرئيس ترامب يرفع شعار «أميركا أولًا»، ليسعى من خلاله إلى استعادة هيمنة الولايات المتحدة على تفاعلات النظام العالمي، فإن توجهاته تؤثر في المقابل على ركائز هذا النظام وقيمه.
تُسهم توجهات ترامب في تغذية الاستقطاب الدولي، سواء من خلال تهديده بالانسحاب من حلف الناتو، أو مطالبة الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها العسكري إلى إثنين في المئة من ناتجها الإجمالي، أو الانسحاب من اتفاق باريس للتغيرات المناخية ومنظمة الصحة العالمية، و«الأونروا»، التي تُعد واشنطن أكبر مانح لها، إلى صدامه المبكر مع الصين من خلال فرضه رسومًا جمركية على الواردات الصينية، وموقفه من اللاجئين والمهاجرين داخل الولايات المتحدة.
كل هذه السياسات تؤثّر في قيم النظام الدولي وتفاعلاته، بما سينعكس بشكل مباشر على الاستقرار الدولي، ويؤدي إلى إعادة النظر في طبيعة التحالفات الدولية، وإعادة تشكيلها، وهو ما يفرض الحاجة إلى إرساء نظام دولي جديد، يقوم على احترام سيادة الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها، وحماية السلم والأمن الدوليَّين، وترسيخ عولمة عادلة ومستدامة، واحترام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
ترامب.. والصين
يؤكّد الرئيس ترامب ومسؤولو إدارته أنّ الضربات التي تلقّتها سوق الأوراق المالية هي جزء من خطة عمل، وأنّها ستتحوّل إلى فوائد اقتصادية كبيرة. وقد أضفت تصريحات ترامب، ووزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، ومسؤولي البيت الأبيض، شيئًا من الهدوء لدى المستثمرين، لجهة أنّ الصراع التجاري مع الصين قد يهدأ، وقد يتم التوصّل إلى اتفاق أو صفقة تجارية معها، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي وبقيّة الدول.
وأشارت صحيفة «وول ستريت» إلى أنّ البيت الأبيض يدرس اقتراحًا بخفض الرسوم إلى 35% على المواد التي لا تُعتبر تهديدًا للأمن القومي، وأنّ التعريفات الجمركية الإجمالية على الصين قد تراوح ما بين 50 و65%.
وأعلن ترامب للصحافيين أنّه يخطط لأن يكون «لطيفًا للغاية» مع الصين في أي محادثات تجارية، مشيرًا إلى أنّ التعريفات الجمركية ستنخفض في حال تمكّنت الدولتان من التوصّل إلى اتفاق، في إشارة واضحة إلى أنّه سوف يتراجع عن موقفه الصارم. لكن، ولغاية كتابة هذه السطور، لم يتم الإعلان عن اتفاق أو صفقة حقيقية، سواء مع الحلفاء أو الخصوم، بشأن الرسوم الجمركية.
وكان لافتًا ما أدلى به المتحدث باسم الخارجية الصينية من أنّ الباب مفتوح على مصراعيه للمحادثات مع الولايات المتحدة. وقد أثارت تصريحاته موجة تفاؤل كبيرة في الأسواق، غير أنّ بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في شركة UBS لإدارة الثروات، علّق بالقول: «إنّ الرئيس ترامب يُظهر نجاحًا كبيرًا في فنّ التراجع». وحذّر، في مذكرة لعملاء الشركة، من أنّ «دورة التهديد، ثم التراجع عن التهديد، لها عواقب اقتصادية، وستؤثر حالة عدم اليقين الناتجة عنها على قرارات المستهلكين والشركات».
ويشير تقرير لوكالة «بلومبرغ» إلى أنّ الصين باتت هدفًا مشتركًا للحزبَين الجمهوري والديمقراطي داخل الولايات المتحدة، في ما يتعلق بالتوجّهات الحمائية، الأمر الذي يعقّد العلاقات التجارية لليابان وكوريا الجنوبية مع الصين.
فعلى سبيل المثال، تواجه شركات تكنولوجيا كبرى مثل «سامسونغ» و«تويوتا» مخاطر كبيرة في حال تم فرض المزيد من الرسوم أو القيود على صادرات أشباه الموصّلات إلى الصين.
وتُضيف «بلومبرغ» أنّ اليابان وكوريا الجنوبية بدأتا باتّخاذ خطوات للحفاظ على علاقاتهما مع الصين، رغم التحديات الأميركية، حيث التقى زعماء البلدين مع لي تشيانغ، المسؤول الثاني في الحزب الشيوعي الصيني، لتعزيز التعاون في سلاسل التوريد، والمضي قُدمًا في محادثات حول اتفاقية تجارة حرّة.
وتتزايد التساؤلات، فإذا كان هذا هو حال الاقتصاد الأميركي، والتجارة مع دول العالم خلال الأيام المئة الأولى فقط من ولاية ترامب، فكيف ستكون الأيام الـ1360 المتبقية؟!
تغيير خريطة التحالفات
ويسلّط تقرير وكالة «بلومبرغ» الضوء على التحوّلات الجارية بين القوى الاقتصادية الكبرى، مثل مجموعة الدول السبع (G7)، ودول «البريكس»، وتأثيرها على السياسة والاقتصاد العالميين.
وتذكر الوكالة أنه وبعد غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022، شددت مجموعة السبع إجراءاتها ضد روسيا من خلال فرض سقف على أسعار النفط الروسي، وتجميد الأصول الروسية، مع فرض عقوبات على الشركات التي تحاول التهرب من هذه القيود. كما أصدرت المجموعة بيانًا ينتقد ما وصفته بـ «الممارسات غير السوقية» للصين، وتأثيرها السلبي على الصناعات والعمال في دول المجموعة.
وفي المقابل، شرعت دول «البريكس» - البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا - في تشكيل تحالف قوي يسعى إلى تعزيز نفوذها العالمي كبديل لمجموعة الدول السبع. وقد توسّعت المجموعة مؤخرًا لتضمّ دولًا جديدة مثل إيران، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، وإثيوبيا، مع تطلّعات المملكة العربية السعودية، ونيجيريا، وماليزيا، إلى الانضمام أيضًا.
ورغم التوترات الثنائية مثل الخلافات الحدودية بين الهند والصين، فإن الدول الأعضاء في «البريكس» تسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، حيث أشار تقرير الوكالة إلى أنّ الهند تسعى إلى جذب الاستثمارات الصينية لتعزيز قدراتها التصنيعية.
ومع عودة الرئيس ترامب إلى الرئاسة، تظهر مؤشرات العودة إلى سياسات خارجية أكثر انعزالية مما يتماشى مع رؤية «البريكس» حول التعددية القطبية، والتعاون القائم على القضايا بدلًا من التحالفات التقليدية.
أميركا اللاتينية
تشهد أميركا اللاتينية انقسامًا أيديولوجيًا متزايدًا بين الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ونظيره الأرجنتيني خافيير ميلي. فمع فوز لولا في الانتخابات الرئاسية العام 2022، شكل انتصاره امتدادًا لموجة صعود القوى اليسارية في المنطقة. غير أنّ انتخاب ميلي في تشرين الأول 2023، قدّم نموذجًا جديدًا من الحكم، يعتمد سياسات تقشّف صارمة تهدف إلى خفض التضخّم الذي بلغ آنذاك نحو 300%.
ورغم أنّ سياسات ميلي القاسية أدّت إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي، وارتفاع معدّلات البطالة، فإنّها نجحت في خفض معدل التضخّم إلى نحو 4% خلال الأشهر الأخيرة. في المقابل، يركّز لولا على تحقيق نمو اقتصادي في البرازيل، مستندًا إلى النتائج الإيجابية التي تحقّقت في الربع الثاني من العام 2024.
ويلحظ «بلومبرغ» أنّ هذا التنافس بين لولا وميلي يعكس الانقسام الإيديولوجي في أميركا اللاتينية، حيث يسعى كل منهما لقيادة المنطقة على أسسٍ مختلفة. وبينما يشارك لولا في منتديات دولية مثل قمة «البريكس»، يفضل ميلي تبني سياسات أقل تعاونًا مع التحالفات الدولية.
ويخلص التقرير إلى أنّ هذه التحالفات توضح كيف أنّ النظام العالمي لم يعد يعتمد على قطب واحد، بل يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب تتغير فيه التحالفات باستمرار.
التأثيرات المحتملة على الدول العربية
بعد مرور مئة يوم على تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة، أدخل ترامب الاقتصاد العالمي في أزمة لا تقل حدةً عن الأزمة المالية العالمية التي امتد تأثيرها لسنوات منذ انفجارها في أيلول 2009.
فمع بداية شهر نيسان 2025، نفّذ ترامب تعهداته للناخبين الأميركيين عبر فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات القادمة إلى الولايات المتحدة من مختلف دول العالم، على قاعدة 50% من الرسوم التي تفرضها تلك الدول على الصادرات الأميركية، وبحد أدنى لا يقل عن 10%.
وشملت هذه الإجراءات عددًا من الدول العربية، فيما تفاوتت نسبة ارتفاع الرسوم الجديدة. فقد بلغت 10% على واردات قادمة من لبنان، الإمارات، مصر، السعودية، المغرب، سلطنة عُمان، البحرين، قطر، السودان، الكويت، واليمن. بينما ارتفعت النسبة لتصل إلى 20% على المنتجات القادمة من الأردن، و28% على تونس، و30% على الجزائر، و31% على ليبيا، و39% على العراق، في حين كانت سوريا الأكثر تأثرًا برسوم جمركية وصلت إلى 41%.
وباختصارٍ شديد، إذا كانت المئة يوم الأولى، من بدء الولاية الترامبية قد أحدثت كل هذا الإعصار على مستوى العالم، فكيف سيكون حال العالم بعد انقضاء الأيام المتبقية من الولاية؟!...