عادات وتقاليد

ما بين الفطر والفصح تقاليد واحتفالات تجمع اللبنانيين في زمن الأعياد
إعداد: باسكال معوض بو مارون - ندين البلعة خيرالله

في هذا العام، ارتدى لبنان حلّة فرح استثنائية، إذ ترافق اللبنانيون من مختلف الطوائف في رحلة الصوم بفعل التزامن بين شهر رمضان المبارك وزمن الصوم الكبير. وقد تمازجت في المدن والقرى أصوات التراتيل مع تكبيرات العيد، وتعانق قرع الأجراس مع صوت المآذن، في مشهد يجسّد وحدة اللبنانيين رغم تنوّع العادات والطقوس.

 

مع اقتراب العيدين، انشغلت ربّات البيوت بإعداد «الضيافات» التقليدية، وتزيّنت الشوارع ببهجة اللقاءات العائلية، فإذا بالعيد مناسبة لاجتماع اللبنانيين، وتبادل التهاني والمودّة، وكأنّ هذه المصادفة جاءت لتشدّد على القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع أبناء الوطن الواحد، ولتؤكّد أنّ المحبة قادرة على توحيد القلوب تحت راية الإيمان والتآخي.

ورغم اختلاف الطقوس والعادات في عيدَي الفطر السعيد والفصح المجيد، يبقى المشترك بينهما روح العائلة، وبهجة اللقاءات، وكرم الضيافة التي تميّز المجتمع اللبناني. ففي هذين العيدين، يختلط عبق القهوة مع رائحة المعمول، وتفتح البيوت أبوابها للمحبّين، في لوحة تعكس التنوع الجميل الذي يميّز لبنان.

 

من تقاليد الفصح

يحتفل المسيحيون حول العالم بعيد الفصح المجيد، أحد أبرز الأعياد المسيحية ذات الأبعاد الروحية العميقة. ورغم تنوّع العادات المرتبطة به بين المجتمعات، يبقى جوهره متّصلًا بالقيامة والفرح والتجدد.

في لبنان، يتميّز الفصح برموزه وتقاليده الغنية، التي تترافق مع طقوس دينية وتقاليد اجتماعية تعبق بالفرح والرمزية. من بين هذه التقاليد تلوين البيض المسلوق وتزيينه كطقسٍ قديم ذي جذورٍ تاريخية ورمزية دينية، إذ اعتُبر البيض رمزًا للحياة الجديدة في عديدٍ من الحضارات القديمة.

تبدأ تحضيرات تلوين البيض قبل يومين من العيد، إذ يُستخدم في تزيينه مزيج من الألوان البرّاقة والملصقات، إلى جانب الأساليب التقليدية كسلقه مع قشور البصل الأحمر أو أوراق الشجر. وغالبًا ما تُعتمد الألوان الزاهية للتعبير عن الفرح بالقيامة. وفي صباح العيد، تتحول هذه العادة إلى منافسة مرحة تجمع العائلات في تحدي «فقس البيض»، إذ يختار كل فرد بيضةً من السلّة المزيّنة بألوان العيد ويبدأ التحدي، ليُتوَّج فائزًا صاحب البيضة التي تصمد حتى النهاية. وفي بعض القرى اللبنانية، تُقام مهرجانات خاصة لفقس البيض، تسودها أجواء من الحماسة والفرح.

 

المعمول: حلاوة العيد ودفء العائلة

يرتبط المعمول ارتباطًا وثيقًا بعيد الفصح والمناسبات السعيدة، وهو تقليدٌ يتوارثه اللبنانيون جيلًا بعد جيل، محافِظين على الطقوس والعادات القديمة. تبدأ الاستعدادات في أسبوع الآلام، وهو الأسبوع الأخير من الصوم، فتجتمع النساء من أفراد العائلة أو الجيران في مشهدٍ يعكس التكاتف الاجتماعي، ويحمل في طيّاته كثيرًا من الألفة والمحبة والبركة لأهل البيت، خصوصًا مع اتّباع وصفات الجدّات المتوارثة عبر السنين.

ومن العادات المتوارثة، وضع بعض قطع المعمول في علبٍ أنيقة، يتم توزيعها على العائلات التي تعيش ظروفًا صعبة أو فقدت أحد أحبّائها، تعبيرًا عن المواساة وتعزيز روح التضامن والمشاركة في الحزن.

 

شجرة الفصح: من الجمود إلى الحياة

تُعد ظاهرة تزيين شجرة الفصح من العادات الحديثة نسبيًّا في لبنان، إلا أنّها سرعان ما اكتسبت مكانة مميزة في أجواء العيد. تستمد هذه العادة رمزيتها من الشجرة التي تعبّر عن الحياة الجديدة والفرح بالقيامة، فيما ترمز الأغصان اليابسة إلى الموت والجمود الذي يُكسَر بحلول العيد. من هنا، تُغطّى الأغصان بالزينة الملوّنة من بيض اصطناعي إلى مجسّمات الأرانب المصنوعة من الشوكولا أو البلاستيك.

وتعتبر الأرانب من المظاهر المنتشرة بكثرة في العيد، كونها ترمز إلى الخصوبة والحياة المتجدّدة. بعضها يُصنع من الشوكولا، فيما يأتي بعضها الآخر كألعابٍ من الخشب أو البلاستيك، وهي تُوزَّع على الأطفال لإدخال بهجة العيد إلى قلوبهم.

 

الشموع: نور القيامة والأمل

من الرموز المهمة في العيد «شمعة الفصح» بمختلف أشكالها وألوانها، والتي يُشعلها المؤمنون تعبيرًا عن انتقالهم من الظلمة إلى النور. هذا التقليد الروحي العميق يعكس الأمل بالقيامة والحياة الجديدة، مضفيًا جوًا من الخشوع والسكينة.

 

بين الماضي والحاضر

رغم محافظة لبنان على الطابع الروحي والاحتفالي لعيد الفصح، فقد شهدت بعض العادات المرتبطة به تغيّرات واضحة مع مرور الزمن، بفعل التحولات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية والتطور التكنولوجي.

في الماضي، كان أحد الشعانين الذي يسبق عيد الفصح مناسبةً مميّزة للأطفال، يستعدّون له قبل أسابيع، فتعجّ الأسواق بالأهالي والأولاد لشراء الثياب الأكثر جمالًا والشموع الأكثر تميّزًا للتطواف بها يوم العيد، ما يضفي على الأجواء طابعًا احتفاليًا نابضًا بالحياة. وفي هذا اليوم، يرتدي الجميع الملابس الجديدة ويحملون الشموع المزيّنة بأغصان الزيتون والزهور، ويشاركون في الموكب الاحتفالي الذي يجوب ساحات الكنائس وسط أجواء من الفرح والتجمّع العائلي. وكانت العائلات تحرص على هذه التقاليد لما تحمله من رمزية دينية واجتماعية. أما اليوم، فقد تراجعت بعض هذه المظاهر، فباتت الزينة والملابس أقل انتشارًا، والشموع أكثر تواضعًا، فيما بقي الحرص على الجو الروحي والاحتفالي حاضرًا ولو بطرقٍ أبسط.

في الماضي، كان العيد يشكّل مناسبة عائلية مميزة، حيث يجتمع الأهل والأقارب حول مائدة غنية بالمأكولات التقليدية، وقد تراجعت هذه العادة نسبيًا، فيما استعاض البعض عن التجمعات المنزلية الكبيرة، بالاحتفال في المطاعم والمقاهي.

 

عيد الفطر: تكيّف مع التغيرات من دون فقدان القيمة المعنوية

في كل عام، ومع انتهاء شهر رمضان المبارك، يعيش اللبنانيون أجواءً مميزة مع قدوم عيد الفطر السعيد. فهو ليس مناسبة دينية وحسب، بل أيضًا محطة اجتماعية تجمع العائلات وتُنعش الذاكرة الجماعية بتقاليد متوارثة تعكس هوية المجتمع اللبناني. ومع ذلك، فإنّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدها لبنان في العقود الأخيرة، جعلت من العيد صورةً متغيرة تتماشى مع إيقاع الزمن وتحولاته.

فكيف كان العيد في الماضي؟ وكيف تغيّرت التقاليد والعادات اليوم؟ وهل أنّ فرحة العيد ما زالت حاضرة في قلوب اللبنانيين، رغم التحديات؟

 

روحانية وألفة اجتماعية

يُعتبر عيد الفطر مناسبة لتعزيز الروابط العائلية والاجتماعية، وإحياء روح التكافل والتضامن عبر دفع زكاة الفطرة، وتجسيد التنوع الثقافي والديني في لبنان. لطالما حمل هذا العيد في لبنان طابعًا خاصًا يميّزه عن باقي المناسبات. يبدأ الاحتفال مع ثبوت رؤية الهلال، إذ ترتفع أصوات المساجد بالتكبيرات وتبدأ التحضيرات لصلاة العيد، ويجتمع المصلون في الساحات والمساجد لتبادل التهاني والدعوات الطيبة. بعد الصلاة، يتوجه كثيرون إلى زيارة المقابر للصلاة على أرواح أحبائهم الراحلين، وهو تقليد ما زال قائمًا حتى اليوم.

أما في المنازل، فتتفنّن السيدات بتحضير الحلويات التقليدية، وأشهرها المعمول المحشو بالفستق والجوز والتمر، وكعك العيد، والبقلاوة، والقطايف. وتكون هذه الحلويات جزءًا أساسيًا من الزيارات العائلية، إذ يتنقل الأقارب والجيران بين المنازل لتبادل التهاني، وتقديم القهوة والحلويات. كما يحرص الأهالي على إعطاء «العيدية» للأطفال وشراء الملابس الجديدة، وهي عادات متجذّرة تُدخل البهجة إلى قلوبهم، ينطلقون بعدها إلى أماكن الترفيه واللهو في ساحات القرى والمدن.

ومن العادات التي ميّزت العيد في لبنان، عودة العائلات إلى قراها وبلداتها الأصلية، حيث تفتح البيوت القديمة لاستقبال الأهل والأقارب، ويعود المغتربون لقضاء العيد بين ذويهم، في مشهدٍ يجسّد الحنين والانتماء إلى الجذور.

 

كيف تغيّرت العادات والتقاليد؟

رغم أنّ جوهر العيد بقي ثابتًا، فإنّ كثيرًا من العادات والتقاليد تغيّرت مع مرور الزمن، لا سيما بفعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها لبنان.

في الماضي، كانت العائلات تستعدّ للعيد قبل أيام من حلوله، فتمتلئ الأسواق بالمتسوّقين لشراء الملابس الجديدة، والحلويات والهدايا. أما اليوم، فقد ألقت الأزمة الاقتصادية بظلالها على العيد، وتراجعت بعض هذه العادات، واقتصر الاحتفال على التجمعات العائلية البسيطة. كذلك، تأثرت عادة تقديم العيدية للأطفال، فلم تعد المبالغ بقيمتها السابقة، وأحيانًا يتم الاستعاضة عنها بهدايا رمزية.

في الماضي، كانت الموائد العائلية في المنازل جزءًا أساسيًا من العيد، حيث تجتمع العائلات حول الأطباق اللبنانية التقليدية. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد، إذ يفضّل كثيرون الاحتفال في المطاعم والمقاهي، بخاصةٍ في المدن الكبرى.

وقد كان العيد موعدًا ينتظره الأطفال بشغفٍ وحماسة، فهو يوم يرتدون فيه الملابس الجديدة، ويتلقّون العيديات، ويقضون أوقاتهم في الألعاب الشعبية والساحات. أما اليوم، فقد تغيّرت اهتمامات الأطفال، فأصبحت الألعاب الإلكترونية والتسلية عبر الهواتف الذكية جزءًا من يومياتهم، كما لم تعد الملابس الجديدة والعيديات بالأهمية نفسها بالنسبة إليهم كما كانت للأجيال السابقة. ومع ذلك، فإنّ بعض المناطق اللبنانية شهدت عودة مشهد الأراجيح الخشبية التقليدية، بخاصة في القرى والمناطق الشعبية، حيث وجد الأهالي في هذه الألعاب البسيطة وسيلة لإحياء فرحة العيد بكلفةٍ قليلة.

في الماضي، كان العيد فرصة لتعزيز الروابط العائلية من خلال الزيارات المباشرة، أما اليوم، فقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي دورًا بارزًا، إذ أصبح كثيرون يرسلون التهاني عبر التطبيقات الإلكترونية­ بدلًا من اللقاءات الشخصية.

 

جوهر الأعياد: التلاقي والمحبة

رغم تغيّر تقاليد الاحتفالات، إلا أنّ جوهر عيد الفطر في لبنان ما زال كما هو: فرحة، وصلة عائلية وتكافل اجتماعي. وما زال اللبنانيون يحرصون على العادات الأساسية مثل الصلاة، وزيارة العائلة وإعداد الحلويات. وإن كانت الظروف الاقتصادية والتطورات الحديثة قد أضافت بُعدًا جديدًا للعادات، بحيث أصبح الاحتفال أكثر بساطة، إلّا أنّه لا يخلو من الأمل والسعادة.

اليوم، وبينما يحاول اللبنانيون التكيّف مع المتغيرات ومواجهة الظروف الصعبة التي مرّ بها لبنان، والتي بلغت ذروتها مع تعرّض مناطق واسعة للدمار خلال العدوان الإسرائيلي في العام الماضي، يُجسد المواطنون قيَم التعاضد والتكاتف والإيمان بمبادرات تضامنية كثيرة تُدخل الفرح إلى بيوت افتقدته، وإلى نفوس تتعطش للحياة رغم كل السواد.

في النهاية وإن تغيرت التقاليد والعادات، فجوهر الأعياد يبقى واحدًا، إنّه محطة تَجدُّد وفرح لا تتحقق معانيها إلّا بالتلاقي بين الإنسان وأخيه الإنسان تحت عنوان المحبة.