في كل بيت

ما هي أسباب الإضطرابات السلوكية عند الأطفال وما هي نتائجها؟
إعداد: اعداد:ناديا متى فخري

إن الإهتمام بالصحة النفسية للأطفال والأحداث, لم يتخذ طابع الخصوصية, وظلّ مهملاً, حتى أظهر “فرويد” إهتماماً خاصاً بالحياة النفسية للطفولة التي قال فيها: “إنها ميزان العقل والسلوك”, و”عامل نافذ الأثر في الشخصية”.
وإذا كانت حياة الطفل النفسية قد أُهمل النظر فيها في الماضي, باعتبار أن الطفل لا يملك حياة نفسية خاصة به, وبسبب هذه النظرية القاصرة, توجّه الإهتمام الى تربية الأطفال والإعتناء بصحتهم وغذائهم, تمشياً مع النظرية السائدة: “العقل السليم في الجسم السليم”, من دون النظر في إمكانية إصابتهم بعلل نفسية؛ غير أن النظر في ورود هذه الإمكانية ووقوعها, أخذ يزداد في السنوات الأخيرة, نتيجة النظريات والدراسات التحليلية والتطبيقية التي أطلقها “فرويد”, وعاصره متمسكاً برأيه كل من “أدلر” (Adler) و”يونغ” Jung)) وكانت بداية لسلسلة إجتهادات تبنت دراسة الوضع النفسي للطفولة. ولأن التوصل الى تقدير صحيح للحياة النفسية يتطلب الإحاطة التامة بسلوك الفرد ومظاهر حياته الفكرية والعاطفية, حصر “سيغموند فرويد”, إهتمامه بتشخيص وتقدير العوامل المؤثرة في الكيان النفسي وما يصاحبها من ردود فعل إنعكاسية تتحدى قوى الطفل الطبيعية الجسمية والعقلية والإنفعالية, بما في ذلك نموه الإدراكي والوجداني (الذكاء والخيال, والذاكرة والأحاسيس...).

ومن المفارقات الملفتة أن التوجه نحو نفسية الطفل, لم يأت في البدء من أجل الطفل نفسه, وإنما جاء من أجل الكبار, بقصد كشف النقاب عن أسباب إنحرافهم النفسي والسلوكي, ومعرفة مدى تأثرها بحياتهم النفسية في الطفولة؛ وهذا التصوّر ساهم الى حدّ كبير في توجيه الإهتمام نحو طفولة الطفل, وحياته النفسية, وأهمية هذه الحياة في توجيه الشخصية إما باتجاه نضوجها وتكاملها, وإما باتجاه اضطرابها وتعثّرها.

من جهته, يرى “فرويد”, أن البحث في الإضطرابات النفسية عند الكبار من دون الرجوع الى طفولتهم هو بحث ناقص, لأنه من الطفولة تبدأ عملية التطبّع السلوكي, ومنها يبدأ فعل الفكر في حياة الطفل, بما يتضمنه من عوامل محفّزة (كالذكاء والإرادة... الخ).
ويقـول فرويـد: “إن طـفولة الطفل هي القـاعدة الأساس التي تنهض عليها شخصيته المستقـبلية, وإن أي إنحـراف أو اضـطراب يُحدث فجوة في مجالات النـمو تؤدي الى تعـثره وإحباطـه.. ومن هـذه النظرة شقّـت العلوم طريقـها للتعرّف الى الطـفـولة في مطـلق حالاتـها.

النمو النفسي للطفل

يولد الطفل وهو مهيأ من طبيعته البيولوجية لعمليات الإنفعال والتفاعل مع المتغيرات في داخله ومن حوله, غير أن هذه التهيئة الطبيعية تمرّ بأدوار متعاقبة بانتظام, وأول أدوار التفاعل مع المحيط هي ردود الفعل الانعكاسية التي يتصف بها الأطفال (البكاء, الغضب... والرفض أو القبول... الخ). وبعد هذا الدور تبدأ عملية التطبّع السلوكي التي تتقرر نتائجها بتأثير العوامل النفسية والظروف البيئية المحيطة بالطفل, وهذا الدور هو الأهم في مرحلة النمو, ففيه, يتشكل السلوك, الذي هو المرآة التي تعكس بوضوح واقع الطفل النفسي.
في الواقع, ينمو الطفل على ما يكتسبه من خبرات وأحاسيس, والذي يتأصل في نفسه منها, إما أن يرفد نموّه بشكل إيجابي أو العكس تماماً. وعلى العموم, إن أي خلل ينشأ في هذه المرحلة من الصعب التعويض عنه في مراحل لاحقة من عمر الطفل. فما يقع ضمن دائرة الطفولة هو الأكثر ثباتاً في الكيان النفسي والشخصي... ومن أهم سمات هذه المرحلة, هي أنها الفترة التي يبدأ فيها الطفل بالإستيعاب والملاحظة والتفاعل مع العوامل المحيطة والتجارب الظرفية التي يتعرّض لها في حياته اليومية, وهذه الدلالات تجعلنا أكثر إقتراباً من الحقيقة الثابتة علمياً ونظرياً في أن الطفولة حقبة تأسيسية, منها يستمد الفرد معرفته وإنطباعاته, وفي حدودها يتلقى خبراته, وتتحفز أحاسيسه, وتتوسع معرفته... وفي ظلّ هذه الإضاءات يمكن القول أن الحياة النفسية للطفل التي تدور حولها غير علامة إستفهام, من الخطأ إستثناؤها من زمن الطفولة, الذي تتضح فيه خصائص النمو الجسمي والنفسي والعقلي للفرد.
وحول هذا الموضوع امتد مدار البحث ليشمل أدوار النمو بمجموعها, وقد أثمر هذا التوجه عن كشف العوامل السببية لظهور الحالات السلوكية والمرضية عند الأطفال, كما ساعد على فهم دينامية ما يحدث للطفل في مراحل نموّه, خاصة في سنوات الدراسة الأولى, وامتداد ذلك وتأثيره على شخصيته.

في المرحلة الأخيرة من النمو

هنا يغلب على الطفل طابع التمرد والرغبة في الإستقلالية, ومن هذه المرحلة يتوجّه الى العالم من حوله, وكأنه بذلك يتجاوز ذاته الفردية الى ذات إجتماعية يبدأ معها رحلة جديدة في النمو.. ويميّز هذا التحوّل علاقته مع أترابه, معاشرة رفاق من سنّه, مشاركته في نشاطات متعددة.. الخ. ومن مظاهر هذه المرحلة المحاولات التي يقوم بها الطفل لفرض نفسه على المحيط حوله, فهذا يعزز فيه الشعور بأنه ليس مقيّداً, ويجعله ينظر الى نفسه كذات مستقلة لها حق ممارسة إرادتها, وتملك أيضاً حق الإختيار وحق الرفض والقبول.
وقد أجمع علماء النفس أن المرحلة الأخيرة من النمو تظهر فيها كل بوادر النضج والنمو الأخلاقي والإجتماعي للفرد, فهي تعطي الطفل سماته المتميزة, والتي يُعرف بها من صغره.
الإضطرابات النفسية

إن البحث في الإضطرابات النفسية عند الأطفال, هو بحث معقّد بعض الشيء, لأن العوامل المؤثرة في الكيان النفسي كثيرة, ولكلّ عامل منها أن يحدث أثراً مرضياً تضطرب بسببه الحياة النفسية للطفل, ما يجعل من المتعذّر في كثير من الحالات تحديد سبب الإضطراب وتعيينه بدقّة, فقد يكون السبب مردّه الى إنفعال عاطفي, (كالشعور بالحرمان.. الوحدة, الغربة..), أو الى إضطراب في المزاج (كآبة.. قلق, تشاؤم.. ضجر..), أو قد يكون ناتجاً عن أعراض صحية ­ جسمية, وهنا تتعدد الأسباب (خلل في وظائف الأجهزة العصبية ودفاعاتها.. وجود مشكلة في الرئة, أو الكبد.. الخ), وهذا يؤكد أن أي علّة في الصحة قد تولّد أيضاً إنعكاسات على نفسية الطفل, وتعرّضه للضيق والإنفعال اللاإرادي, ولعل أكثر ما يفرض نفسه في هذا المجال هو المعنى الذي حدده “فرويد” في طبيعة الإضطراب النفسي عند الأطفال, حيث أعلن: “أن محاولة فهمنا لنفسية الصغار تواجه من العقبات أكثر مما نواجهه في فهمنا لنفسية الكبار, فالطفل لا يستطيع التعبير الكافي عن حالته النفسية بالكلام, ولكن طريقته في التصرّف هي التي تنقل إلينا حقيقة ما يتقلّب في نفسه, ويبقى إعتمادنا على سلوكه هو أقصى الطرق لتشخيص حالته النفسية”. وفي المقابل, اختصر “فرويد” العوامل المسببة للإضطراب النفسي في مجموعة رئيسية, وهي: الأسباب الوراثية, الأسباب العضوية والعصبية, التجارب الحياتية, والمؤثرات العائلية والتربوية, مشيراً إليها كمحفزات أساسية في النمو الطبيعي للطفل.
الطفولة قدرات مكتسبة

تتصف الطفولة بآنية وتلقائية السلوك, وسلوك الطفل هو المصدر الأساسي للتعرّف على طبيعته الداخلية, وقد تضافرت إجتهادات رجال الفكر من علماء نفس وتربية وإجتماع وصحة على دراسة الأطفال والنظر في مراحل النمو المختلفة لتبيان مدى إرتباط إنفعالات الطفل بتكوين شخصيته وتحديد معالمها... ويعتقد علماء التحليل النفسي أن السنوات الأولى من حياة الطفل هي الدعامة الأساسية التي يقوم عليها بناء حياته النفسية والإجتماعية, وفي هذه الفترة تتطور قدرات الطفل وإمكانيته الذاتية (الفكر.. الخيال.. المزاج.. الخ).
وقد اعتبر علماء النفس والإجتماع أن سمات النضج هي دلالات على خبرات الأطفال وإمكاناتهم السلوكية, ومن جهته اهتم “أدلر” بدراسة النمو النفسي والمعرفي والإجتماعي والخلقي والحركة لسنّ ما قبل المدرسة, باعتبار أنه يحدد الإمكانات والقدرات التي يمكن أن تتفتح وتزدهر إذا توافرت لها الظروف المؤاتية للنمو السليم, وفي هذا المعنى قال: “سلوك مضطرب = نفس مريضة وصحة عاجزة”, وأضاف: “إن سلوك الطفل هو ثمرة خبراته المتنوعة, ومهم جداً أن نولي أولادنا عناية كاملة خصوصاً في سنّ ما قبل المدرسة, لأن أطفال هذه المرحلة من العمر تتطوّر خيالاتهم بسرعة, وتنمو لديهم بعض انفعالات الكبار التي يتلمسونها في أسرهم (كالغضب والخجل, والتمرد, والقلق, والحزن أو الفرح... الخ)؛ وهذه المكتسبات تكوّن لديم انطباعات تترسخ في عمق ذاتهم وتظلّ ثابتة في ذهنهم, وأكثرها يشكّل ضغوطاً نفسية وعصبية يُفقد الأطفال استقرارهم ويهدد توازنهم, لنجد الطفل عاجزاً عن ضبط نفسه ومتحولاً نحو سلوكيات غير مقبولة”.

دور العائلة

الطفل بطبعه فضولي ودقيق الملاحظة, وهو على استعداد دائم للتلقي, وقلّما يستطيع السيطرة على انفعالاته, خاصة إذا كان يعيش في أجواء أسرية غير مستقرة, ففي مثل هذه الظروف يهمل الآباء أولادهم في غمرة مشكلاتهم, فيتصرّف الأبناء وفقاً لضغوط الحاجة لديهم وبلا قيود ضابطة للسلوك؛ وهذا ليس مجرّد نظريات, فالموضوع حسّاس ويتعلق بأولادنا, ومهم جداً أن يتذكّر الوالدان بأن المشاهد المتكررة أمام الطفل تشجعه أن يتخذها كنموذج في حياته, وأن كل ما يتسوّقه الطفل من آراء وأحاسيس يترسّخ في ذاكرته وتكون ردّة الفعل قاسية عليه, خاصة إذا كانت المشاهد مُثـقلة بشـتى أنـواع السلـبية (خلافـات الزوجيـة.. إنعـدام الثقة بين الأبوين.. الخ).
في هذه الحال, من الطبيعي أن يحدث تصدّع في كيان الطفل النفسي, وهذا قطعاً يترك بصمات تظهر في ادائه وطباعه.

لماذا يضطرب السلوك؟

إن النـظر في سلوك الطفل مسألة لا بدّ منها لتقرير حياته النفسية, فالإضطرابات السلوكية كثيرة الوقوع عند الأطفال, ولكن لكل سلوك سبب, وكل سلوك هو رد فعل صاف لحالة نفسية أو صحية ­ جسمية معينة ساعدت في أن يستقر السلوك على الصورة التي يبدو عليها. أحياناً, يكون الإنحراف السلوكي سببه عوامل وراثية أو تربوية أو إنفعالية, تهيئ للشخصية الجنوح نحو السلبية, وأحياناً أخرى, يظهر إضطراب السلوك نتيجة تجارب وظروف حياتية مبكرة, ينشأ عنها إخفاق في معنويات الطفل ينعكس بوضوح في سلوكه. وهنالك أيضاً الكثير من الحالات السلوكية التي لا تعود بالضرورة الى دافع محدد أوجدته إحدى هذه العوامل.. فقد ينحرف الطفل سلوكياً رغم أن كل الظواهر تؤكد على أن الأجواء المحيطة به ملائمة وطبيعية وصحية؛ وهذه الملاحظة تفرض علينا وباستمرار أن نأخذ في الإعتبار الواقع الكلي للطفل, إذا شئنا أن نتوصل الى تبرير منطقي لحالته.

المؤثرات المدرسية والإجتماعية

لكل طـفل فرصـتان لهما أن يرسما الطريق القويم لحياته النفسية: الفرصة الأولى هي المنزل الذي يتلقى فيه أولى دروس التنشئة والتوجيه السلوكي, والفرصة الثانية هي المدرسة, ولأن ما تقدمه الأسرة للطفل له التأثير ذاته الذي تتركه المدرسة, فالتوافق بينهما أمر ضروري لإقامة حالة من التوازن بين تأثير الفرصة الأولى والثانية, ولهذا يقتضي إقامة أكبر قدر ممكن من التعاون بين العائلة والمدرسة لتحقيق هذه الغاية, وإذا لم يتحقق ذلك, فإن الطفل يستغلّ أضعف المجالين سواء كان ذلك البيت أو المدرسة, لممارسة إنحرافه عن النهج السويّ في السلوك.
إن المـدرسة أكثر من المنزل, تعطي الفرصة للطفل أن يظهر كما هو, في مستواه العقلي والمزاجي, فلا تضغط عليه سوى في الحدود المطلوبة, بيد أنها تسعى بالطرق الملائمة الى تقـويم الإتجـاهات الخاطـئة التي تظهر على الطفل, بينما نجد بعض الأهل لا يتعاونون مع أولادهم, وأي خطأ يقومون بتصحيحه ولكن عن طريق الشدّة والعقاب, وهنا لا يعرف الطفل لماذا عوقب فيجنح الى التمرد والتكرار. وقد حسم علم النفس رأيه في هذا الشأن بالـقول أن أي إخفاق في مجال الرعايـة النفسية والـتربوية يعني ضياع أفضـل الفرص التي يُعتمد عليها في تقويم البـناء النفسي للطفل, وإذا حدث, فسيـتعذر إصـلاح ما تعـطّل في وقت لاحق.

التجارب الحياتية

إن الحـوادث التي يمـكن أن تقع في تجربة الأطفال لا حصر لها, سواء أكانت في النطاق العائلية, أو الإجتماعي, أو المدرسي بشكل عام. وفعل الحوادث في نفسية الأطفال, لا يعتمد فقط على طبيعة الحادث, وإنما أيضاً على السنّ الذي يقع فيه, والى مدى تكراره والظروف التي يقع فيها. ولعلّ أهم ما يجب إيلاؤه إهتمامنا, هو أنه لا يمكننا التقليل من أهمية أي حادث في الطفولة, كما ليس لنا أن نقرر هذه الأهمية بالنسبة لمفهومنا عن وقع الحادث وتأثيره في الكبار, كما لا يجب أن نضخّم من تأثير حادث ما في حياة الطفل أمامه, لأن ذلك يؤثر فيه ويرسّخ ذكرى الحادث في نفسه وذهنه لتبقى آثاره مرافقة له ومؤثرة فيه, فالأطفال يملكون جهازاً عصبياً مرناً يتمتع بحدود واسعة من القابلية على الرفض والقبول, ويجب أن نساعد الطفل ليتجاوز كل ذكرى سيئة, لا أن نستحضرها أمامه في كل وقـت فـيذكر الحـادث وكأنه ماثل أمامه.
لقـد كثرت الأبحاث في مجال التجارب الحياتية في مجتمع الطفولة لمعرفة أكثرها أهمية, ولكن نظراً للفروق الفردية بين الأطفال, ولأن التجارب لا تتساوى من حيث العمق والبعد والخلفية, لم تتمكن الأبحاث من تقـرير أكثـرها خطورة في حياة الأطفـال.. فالـتنوّع بين الأطفال والإختلاف في الإمكانيات بين طفل وآخر تجعل من الضرـوري أن نَزِن فعل كل تجربة أو حدث في طفولة كل طفل على حدة, وبدون ذلك, فإنـنا نقيم قياسـاً لا يمكن الركون إليه أو الإعتـماد علـيه.
وختاماً, نضيف على كلام “أفلاطون” حين قال: “النفس جوهر الإنسان”, بأن الطفولة نواة الشخصية.