متاحف

متحف الإخوة عساف
إعداد: جان دارك أبي ياغي

الحجر يعانق الطبيعة وينطق فنًا

 

لطالما ارتبط اسم “الإخوة عساف” بمحترفهم الفريد الذي يحاكي الطبيعة ويجعل منها متحفًا مفتوحًا يزاوج بين الجمال والإبداع. هنا، تتحول الصخور إلى منحوتات نابضة بالحياة، حمّلها إزميل الإخوة رسالةً ثقافية وفنية في فضاء سياحي مختلف يجعل الزائر يخلع رداء التشويه الخارجي ويرتدي ثوب الجمال المنحوت في صخور الطبيعة.
هذا المتحف البيئي النموذجي، يجمع بين الطبيعة والفن والتراث، ويمثل لوحة حية لتاريخ لبنان وطبيعته الخلّابة.
تشتهر عائلة عساف في الورهانية – الشوف بنحت الحجر والبناء أبًا عن جَدّ. فقد حمل الإخوة الثلاثة عساف ومنصور وعارف شغفهم بهذه المهنة بالفطرة عن والدهم المعلّم أحمد عساف، أقدم معلّمي الحجر في المنطقة ومرجع في الفن المعماري. عُرف بدقته وإتقانه لعمله ببراعة تفوق الخيال. ومع مرور الزمن، لم يكتفِ الأبناء بحفظ إرث والدهم، بل امتهنوا النحت وأتقنوه وطوّروه، متأثّرين بأعمال الفنان الراحل عارف الريّس الذي كان عرّابًا لهم.
في المحترف – المتحف في قرية الورهانية الجبلية، يطوّع الإخوة الثلاثة الصخور لتغدو في خدمة التاريخ والثقافة. تتجلى أعمالهم النحتية في متحف بيئي وثقافي وفني، يروي الماضي ويستشرف المستقبل. همهم الوحيد «تحويل أي فكرة إلى حقيقة»، وفق ما يشير الأخ الأوسط منصور عساف.
يتألف المشروع من أعمال نحتية متنوعة، وبيوت لبنانية تقليدية، إضافةً إلى محترف للنحت الفني وحدائق وكافيتيريا. وبعد 38 عامًا من العطاء والفن، أعلن وزير الثقافة السابق القاضي محمد وسام المرتضى في العام 2023، إدراج المتحف على لائحة المتاحف الوطنية، ما يعكس أهميته الثقافية والفنية في المشهد المحلي.


حكاية نجاح وإبداع
بدأت الحكاية في العام 1997، يوم أنشأ الإخوة عساف «متحف الطبيعة» في حديقة منزلهم، وسرعان ما تحوّل إلى لوحة جمالية تواجه زحف الإسمنت وتعيد الاعتبار إلى جماليات المكان. وقد نجح الإخوة في الجمع بين التاريخ والحضارة، ومدّوا جسور ارتباط مع الأرض التي حاكت الشجر.
بعدها، شرعوا في تصميم المنزل العائلي وبنائه فانتهوا من تشييده في العام 2001، على الطراز المعماري الذي اشتهرت به البيوت اللبنانية التقليدية، حيث يلتقي التراث بالحداثة. وقد اعتمدوا في بنائه على مواد طبيعية كالحجر الصخري الكامل والخشب، وصمّموا الأبواب والنوافذ على الطراز القديم، فيما زيّنوا أقسامه الداخلية بأعمالٍ فنية من الحجر كالمدفأة والمغسلة والثريا. أمّا الأثاث، فصُنع من خشبٍ كان يُستخدم في نقل الزجاج، بينما ارتكزت الأسقف الخشبية على مزيجٍ من الطين والقش.
في الداخل، تميزت غرف البيت بحجمها الصغير، وهي عملية لا تحتاج إلى صيانة، وقد بُنيت باتجاه الجنوب لمجاراة حركة الشمس. أما سطح المنزل فمغطى بالتراب المزروع بالعشب الأخضر، ما يمنحه قدرةً طبيعية على امتصاص حرارة الشمس، فلا يحتاج إلى مكيّف في الصيف، ويتطلّب تدفئة بسيطة في الشتاء. ويسهم هذا النوع من البناء في حماية البيئة من حيث تدفّق الهواء.

 

طبيعة وثقافة وفن
في جولةٍ مع الأخ الأوسط منصور، يوضح أنّ زيارة المحترف تُتيح التعرف على النباتات والأشجار التي تميّز منطقة الشوف، والاطّلاع على تفاصيل البيت الريفي الإيكولوجي وطريقة بنائه، إضافة إلى التعمّق في الفن وتقنيات النحت بالحجر والبرونز.
ينقسم المحترف إلى قسمين: الأول متحف في الهواء الطلق ضمن حديقة المنزل، والثاني في الطابق السفلي المبني على طراز العقد الحجري، حيث تُعرض تماثيل لفنانين ومبدعين من لبنان والعالم.
تبدأ الجولة عند تمثال برونزي لشهيد الاستقلال اللبناني في 22 تشرين الثاني 1943، سعيد فخر الدين، يجسّد لحظة استشهاده. وعلى يمين المسار، تنتشر أشجار التين والمشمش والعنّاب الصيني، فيما تظلّل الجهة اليسرى أشجار الجرنك والتوت وأرز لبنان.
وباعتبار أنّ المتحف مشروع بيئي، ثقافي وفني، فهو يسعى إلى دمج النحت مع الحفاظ على النظام البيئي المحلي من خلال نباتات وأشجار محلية مزروعة بعنايةٍ في الحديقة، حيث يمكن للزوار التعرف على نحو 60 نوعًا من النباتات والأشجار، مع لوحات تعريفية تحمل أسماءها بثلاث لغات: العربية واللاتينية والإنجليزية، بالإضافة إلى رمز QR يتيح الحصول على معلومات أوسع حول كل نوع. وجاءت هذه المبادرة بالتعاون مع مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت.
نُكمل الجولة في المحترف حيث تتوزع المنحوتات والتماثيل في أرجاء المشروع لتجسد شخصيات لبنانية وعربية وعالمية، مثل: تمثال الأمير فخر الدين، شارل مالك، جبران خليل جبران، سعيد عقل، عبدالله غانم، مايكل دبغي، النائب السابق أنور الخليل، غسان تويني، سعيد فخر الدين، الدكتور إيلي سالم، حسن علاء الدين (شوشو)، نبيه أبو الحسن، فريد الأطرش، فيلمون وهبه، طليع حمدان، وجيه نحله، عارف الريس، مار شربل، النقيب الشهيد في الجيش اللبناني فراس الحكيم، شكسبير، إلى كثير من الأدباء والمفكرين والفنانين والمخترعين. كما يضم المحترف مجسّم الخريطة المستقبلية لمتحف «الإخوة عساف».

 

نعمل للبنان
يتميّز الأشقاء الثلاثة بأعمالٍ واقعية وكلاسيكية، وهم يعملون ما بين 8 و10 ساعات يوميًا في محترفهم الكائن عند الجهة الشرقية للمنزل. وفي هذا الإطار، يقول منصور: «نحن حريصون دائمًا على أن تعكس مجسّماتنا القيمة الإنسانية لأصحابها تكريمًا لأعمالهم وتضحياتهم. ونحن في عملنا هذا لا ننافس سوى أنفسنا بدافع سدّ النقص الحاصل في هذا النوع من الفنون، وهمّنا أن نعمل في لبنان وللبنان».
ما يثير الدهشة في هذا الفضاء الفني هو دقة التفاصيل التي تكاد تجعل المنحوتات تنبض بالحياة؛ فبين جبران خليل جبران المتربّع على صخرة محاذية للمنزل، وشوشو الذي يستقبلك بابتسامته المعهودة، يجد الزائر نفسه في حضرة فن يلامس الحقيقة. ومن هنا يروي منصور أنّ فكرة تمثال فريد الأطرش انطلقت من هذا التوجه، وقد استغرق إنجازه نحو سنتين، قبل أن يُهدى إلى بلدية مدينة عاليه التي أحبّت الفنّان وأحبّها.

 

نقاوة وصلابة
للنحت أسراره التي يتقنها «الإخوة عساف»، له مخارزه وتكعيباته التشكيلية وفق منصور الذي يوضح أنّ شراكة الإخوة أثمرت حتى اليوم 25 جدارية و30 تمثالًا نصفيًا و8 تماثيل كاملة، تمتاز جميعها بمستوى عالٍ من الدقة والحِرفية والموضوعية.
وجدير بالذكر أنّ آل عساف يعتمدون في أعمالهم الرخام الأشهر عالميًا، المستورد من كارارا في غرب إيطاليا، لما يتمتع به من نقاء، رخام لا يخدع النحّات ولا يخونه، وفي النتيجة تخرج التماثيل «نقية» لا تشوبها شائبة. أمّا التماثيل المقرر نصبها في الساحات والحدائق العامة، فيُستخدم البرونز في إنجازها لضمان صلابة ومتانة تدوم مع الزمن.
حول آلية العمل، يشرح منصور أنّ إنجاز أي قطعة يحتاج إلى وقتٍ طويل، إذ يمر بمراحل دقيقة، بدءًا من عملية التشكيل من الطين، ثم الصب على الصلصال، وصولًا إلى نقل العمل لاحقًا إلى الرخام. ولإبراز أدق التفاصيل، يستخدم النحاتون المبارد في المراحل النهائية. وعن المدة اللازمة لإنجاز التمثال الواحد، يقول النحات إنّ العمل يتطلب قرابة العشر ساعات يوميًا، ما يعني أنّ التمثال الواحد يستغرق إنجازه مدة تراوح ما بين السنة والسنة والنصف، مؤكدًا أنّ المعيار الأساسي ليس الوقت وإنّما التميّز في إظهار التمثال وتجسيد شخصية صاحبه بأدق تفاصيلها.


دقة متناهية في التفاصيل
في إحدى ممرّات الحديقة، لاحظنا قطعًا حجرية منحوتة ومرصوفة بطريقةٍ هندسية غامضة، بدت للوهلة الأولى بلا تفسير. إلّا أنّ منصور دعانا إلى النظر من كوّةٍ مستطيلة في جدار إحدى الغرف، لنكتشف المفاجأة: من تلك الزاوية بالذات تكتمل الأجزاء المبعثرة لترسم ملامح رأس الأديب اللبناني العالمي ميخائيل نعيمه.
التمثال، الذي استغرق إنجازه عشر سنوات، يُعدّ الأبرز بين الأعمال الخارجية والأكبر حجمًا، إذ يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار، وعرضه سبعة أمتار، وعمقه مترين ونصف. وقد أُنجز بالقرب من منزل نعيمه ومدفنه في قلب صخر جبل صنين (الشخروب). ويشير منصور إلى أنّ الأعمال الكبيرة تكتسب قدرة أكبر على الصمود أمام مرور الزمن والصدمات، «فكلما كبر حجم العمل، ازدادت متانته وعمره الافتراضي».
لا تقتصر براعة الإخوة عساف على الأعمال الضخمة، بل ظهرت أيضًا في القطع الصغيرة التي تُظهر دقة متناهية في التفاصيل، رغم ما تسببه من مشقة جسدية، إذ تتطلب من النحّات انحناءات متكررة للتركيز على أدق التعابير.
عند كتف المحترف في الهواء الطلق، يبرز تمثال المفكر والزعيم اللبناني الراحل كمال جنبلاط، كأضخم الأعمال النحتية التي أنجزها الإخوة عساف. يتألف المجسّم من سبع قطع كبيرة شكّلت جدارية ضخمة، بلغ وزنها الإجمالي قبل النحت 120 طنًا، واستغرق العمل عليها أربع سنوات. ويشير منصور عساف إلى أنّ الحجر المستخدم في هذا العمل، كما في تمثال ميخائيل نعيمه، هو الحجر الجيري اللبناني الرسوبي، المعروف بصلابته وقابليته للنحت.

 

متحف يحاكي روح المكان
نتابع الجولة لندخل في نفقٍ يقود إلى مبانٍ حجرية تقليدية، بُنيت على شكل عقد، باستخدام الحجر اللبناني. في هذا المكان عثر الإخوة على حجرٍ في الجهة اليمنى حوّلوه إلى حوض صغير يسمح بتدفّق المياه من خلال نظام تدوير. هنا المتحف الداخلي حيث تُعرض منحوتات دقيقة ضمن بيئة مغلقة تحاكي روح المكان وتكمل التجربة الفنية للزائر.
في ردهات المتحف توزّعت تماثيل للشاعر طليع حمدان (مصنوع من الريزين والنسخة الأصلية من الرخام وموجودة في بلدته عين عنوب)، وتمثال المونسنيور طوبيا أبي عاد (مصنوع أيضًا من الريزين والنسخة الأصلية من الرخام وموجودة قرب كنيسة مار تقلا – الحازمية)، تمثال البروفسور سليم مراد (عالم نووي لبناني – ألماني، له 72 اختراعًا في مجال الفيزياء) المصنوع من الرخام الإيطالي، تمثال الفنان الكوميدي حسن علاء الدين المعروف بـ «شوشو» من الرخام الإيطالي، تمثال الفنان فريد الأطرش المصنوع من الرخام الإيطالي وقد استغرق إنجازه عامين، نموذج لتمثال ميخائيل نعيمه المؤلف من ست قطع، نموذج لمشروع مستقبلي لمتحف عساف (بناء بيوت إيكولوجية جديدة لفنانين مختلفين، متحف كبير، معرض، وأكاديمية لتعليم فن النحت)، نسخة من تمثال الأمير فخر الدين المعني (مصنوعة من الريزين)، تمثال الفنان التشكيلي والرسام والنحات عارف الريّس (مصنوع من البرونز)، ونسخة من تمثال الفنان التشكيلي والرسام والخطاط والنحات وجيه نحله ( مصنوعة من الريزين).
في هذا السياق، يقول منصور عساف: «نصل اليوم إلى إطلاق متحف محترف عساف، ونأمل أن يصبح في المستقبل متحفًا مفتوحًا يستقبل نحاتين لبنانيين وغير لبنانيين، يرغبون بالإقامة في المحترف لمدةٍ قصيرة بهدف التفاعل مع الطبيعة وتبادل الخبرات مع زملائهم الفنانين، فيضيفون إلى المنحوتات الموجودة أعمالًا جديدة لعظماء ومبدعين من زمنهم. كما نهدف بشكلٍ أساسي إلى تنفيذ مشروع أكاديمية لتعليم فن النحت وتدريب المواهب الشابة».

 

تأريخ… فنحت
وراء كل تمثال قصة طويلة من البحث والتأمّل في الشخصية، إذ ليس من السهل انتقاء الشخصيات لتجسيدها في منحوتات، بحسب ما يؤكد عساف. ويضيف: «نحن نحّاتون ومؤرّخون في الوقت ذاته؛ نخصص جزءًا من وقتنا للنحت الفني، إلّا أنّ جلّه يذهب لنحت التماثيل التاريخية والشخصيات اللبنانية». وبالنسبة إلى الإخوة النحاتين، لا تُقاس القيمة بعدد الأعمال بقدر ما تُقاس بجودتها ودقتها وحرفيتها.
في هذا الإطار، يبرز الصولجان الحجري المُنمنم، الذي صُنع لتمثال القديس مار مارون في المحترف، وقد أذهل النحاتين الإيطاليين للبراعة الفائقة في صنعه. كما تخطف الأنظار تفاصيل دقيقة في بعض التماثيل لشخصيات بارزة، في مستوى يلامس الواقعية المدهشة.
وهكذا، يقدّم الإخوة عساف من خلال تعاونهم وتضافر جهودهم هوية جديدة لفن النحت في قلب الطبيعة، هوية تجعل الفن تجربة فريدة يتوق إليها عشاق الجمال، وهو ما جعل محترفهم اليوم منارة سياحية وثقافية ومتحفًا للتاريخ في الورهانية.