متاحف في بلادي

متحف تربل البيئي
إعداد: جان دارك ابي ياغي
تصوير: المجند عبد الكريم صفوان مجموعة هدى قساطلي

ذاكرة الأجداد تطمح للامتداد في حياة الأحفاد
متحف تربل البيئي شمعة على طريق الحفاظ على التراث اللبناني والبقاعي، في إطار مشروع مميز يهدف الى انقاذ نمط من الهندسة المعمارية التقليدية في طريقه الى الاندثار. فقد بادرت "المؤسسة الوطنية للتراث" الى ترميم بيت من التراب وجعلته متحفاً يشهد لنمط الحياة اللبنانية التقليدية. في هذا المتحف رسالة واضحة تقول بصريح العبارة إن أولئك الذين بنوه لم يكونوا بنائين، ولا مهندسين، بل كانوا فلاحين أقاموا ما يتوجب عليهم إقامته من مجالات لاستعمالاتهم اليومية. وضعوا في الهندسة التي اختاروها كل خبراتهم التي توارثوها عن أجيال سبقتهم.
مجلة "الجيش" زارت البيت الذي جرى ترميمه وتحويله الى متحف يضم مجموعات من العينات الاتنوغرافية الممثلة للعالم القروي، فكان هذا التحقيق الذي يعود بنا الى أيام عنوانها الفطرة والبساطة.

 

تربل وبيوت الطين
على مسافة 60 كيلومتراً من بيروت وارتفاع 900 متر عن سطح البحر، تقع بلدة تربل الزراعية الملقبة بـ"حوران القمح الثانية"، والمعروفة بسهلها الغني بأنواع متعددة من الزراعات ولا سيما الحبوب. ورغم احتوائها على آثار من العصور القديمة والرومانية ووجود أنقاض لمعبد قديم على قمة جبلها، إلا أن أصول البلدة الحالية تعود الى القرن الثامن عشر، حين أوفد إليها الأمراء اللمعيون الذين كانوا يحكمون المتن وزحلة بعد انتصارهم في معركة عين داره، عائلتي الرامي والعاصي من فالوغا لتطوير الزراعة في سهلها. المتحف بيت ترابي مبني بلبنة التراب المجففة بأشعة الشمس، والمطلية بالطين ثم الكلس. وتعود طريقة بنائه الى تقنية البيوت المبنية في سهل البقاع منذ زمن بعيد. يتشكل سقفه من "سقالة" خشبية مغطاة بالقصب والطين المرصوص الذي يُحدل بانتظام في الشتاء لإحكام منع رشح المياه منه. تبلغ مساحته الداخلية 150 متراً، وتحوطه أرض زراعية مساحتها 2000 متر مربع كانت تضم اسطبلاً للخيل، وحظيرة للماعز والخراف والأبقار، ومستودعاً للعلف، وقد أقيمت مكانها اليوم حديقة نموذجية، حيث أعادت إيزابيل كونـيغ بالتعاون مع الدكتـورة يولا غرّة مديـرة المدرسـة العليا للهندسـة الزراعـية الشرق أوسطية في البقاع، غرسها بالزراعـات التقليديـة التي كانـت تـزرع في سهل تربل بحسب فصول السنة: حبوب، أشجار مثمرة، عرائش، خضر وأعشاب، أما سياجها فمن أشجار الحور واللزاب.

 

تراب وخشب
عن ترميم البيت تحدث جان ¬ مارك بونفيس المهندس الذي أشرف على إعادة تأهيله، فقال: "استعملنا في أعمال الترميم المواد ذاتها التي استعملت في البناء من تراب وخشب وحجارة وكلس وغيرها. واستعدنا تركيبة اللبن بالطريقة القديمة عبر استخدام المواد عينها من تراب وقش، وفي ترميم الحيطان استعملنا التراب الأحمر الموجود حول البيت ومزجناه بالماء ليتحوّل طيناً تمّ تجفيفه بواسطة الشمس، وللنوافذ والأبواب استعنا بخشب الصنوبر الذي كان مستعملاً في الأبواب القديمة. كما عالجنا السطح والجدران لمنع النش. كذلك أضفنا على البيت غرفتين: واحدة لعرض الأدوات الزراعية، وأخرى من أجل إقامة حمامات".
 يتألف البيت من غرف عدة كان يتم بناؤها تباعاً كلما كبرت العائلة. لكن البيت الأساسي يتألف من قسمين أساسيين يشكلان المسرح الذي يشهد حركة الحياة اليومية من عيش وطبخ واستقبال ونوم:
 1-¬ المربع: وهو القسم المخصص للسكن والإقامة، ويعرض فيه الأثاث الذي كان يستعمله الفلاح وعائلته، كالديوان واليوك والفرش والخرستانة وصندوق العروس وسرير الطفل الهزاز والوجاق وقناديل الكاز وسراج الزيت والسجاد والحصر وغيرها الى جانب أدوات الطبخ والاستعمال اليومي، من صحون وجرار فخارية ومحمصة القهوة والجرن والجاروشة والنملية والموقدة والصواني وسلال القش وغيرها...
 2- ¬ غرفـة المونة: وقد كانـت تستعمل لحفظ الحبـوب، وتعرض فيها المحاصـيل الزراعية التي كانت تـدور حولها حياة القـروي اليوميـة، الى أوعيـة تخزينهـا، من فخاريـات ونحاسيـات، وجـرار الماء وقـدرة الدبس والمعجن والأمبريس والغربـال والمنخـل وسطيلـة اللبن والدسـت واللكـن والميـزان وغيـرهـا...
ويفصل بين القسمين مخزن سري يُسمى "تابوت" كانت توضع فيه المؤونة من قمح ومحاصيل زراعية يتم تخزينها لتقتات منها العائلة في موسم الشتاء.

 

"حوارة" للزينة
غرف البيت مطلية من الداخل بالكلس الأبيض لمنع التشققات وإبعاد الحشرات. ولإضفاء طابع "الفخفخة" كان عدد من العائلات الغنية يزين الجدران بنقوش ورسومات تصنع من مادة "الحوارة" البيضاء، وهذا ما فعلته "مؤسسة التراث" التي استعانت بسيدة من الريف تدعى "فضة"، يبدو أن لا منافس لها في مهارات مماثلة، قامت بأعمال "الديكور" هذه في غرف المتحـف حيث زينتها برسوم وتصاميم يدوية من رسومات ومنمنمات ودوائر، مضفية إليها مسحة جمالية ريفية مميزة.
 أما سقـف البـيت فيتألف من سقـالة خشـبية ومغطاة بالقصب والطين المرصوص الذي كان يحدل بانتظام في الشتاء، لكن تمت اليوم معالجته بطريقة جذرية لمنع النش. وتعـلـو الجدران"قمريات"تسمـح بالتهـوئة وبدخـول النور الى الغـرف، كما تزينـها "كوات" أو "طاقات" كبيرة وصغيرة متعددة الاستعمال، فمنها ما هو للزينة ولعرض أدوات تراثية، ومنها ما هو لتوضيب الأغراض، من ثياب وفرش وغيرها...
الى هـاتـين الغرفـتين خصـصت غرفة لعرض الآلات والأدوات الزراعية التي كان يستعملها الفلاح القديم الذي كان يعيش على نظام الاكتفاء الذاتي، ويستمد قوته ومعيشته مما يزرعه في أرضه ومما تنتجه المواشي التي يربيها. وكانت الأدوات الزراعيـة اليدوية التي كان يصنعـها من المـواد المحليـة من خشـب وحديد، تؤدي دوراً أساسياً في حياتـه. وكان يستعملـها في تحـضـير الأرض وفلاحتـها وزراعتهـا ثم للحصـاد وقطـاف المحصول وتحضـير المونـة وحفظها لمواسـم الشتاء. ومن الأدوات الزراعـية المعـروضة: المنـجـل والـقاشوش والشـوكة والبـلطـة والحاشـوشة والرفـش والسكة والنير والسـرج... وللاستعمال في أعمال النجارة والبناء: الشاكوش والمقدح والمنشار والمحدلة والسلم...

 

مساحة للحياة
القيمون على "متحـف تربـل البيئي" يريـدونه مكانـاً حياً وحيـوياً قادراً على استقبال معـارض موسمـية تعكـس غـنى الحياة في منطقـة البقاع وتنـوّع الزراعـات المناطقية. وقد جهزت قاعة للعرض السمعـي والبصري لبـث أفـلام قصيرة ووثـائقيـة وشرائـح ضوئية "سلايد" عن الحياة والعـادات الريفـية في سهـل البقـاع. كما خصصت صالـة لتكـون بمثابـة متجر صغـير تباع فيه كتـب وبطاقات بريدية وتذكـارية وأقـراص مدمجة CD) )عن فـن الهنـدسة والعمـارة التقليدية في لبنـان، ومنشورات عن النباتـات والزراعـات والتقاليد في المنطـقـة. كما تعرض أدوات ومصنـوعات حرفية ومنتوجـات زراعية من المنطقة، كالمربيات والحبـوب والزيـت ومـواد المونـة.
 ولاستقبال الضيـوف الراغبين باستراحة ثمة كافتيريا تقدم المرطبات والسندويشات وخبز التنور.

 

 فكرة إنشاء المتحف
فـكرة إنشاء البيت الريفي تعود في الأصل الى ابن تربل نعمة صغبيني الذي يهوى جمع أدوات من الحياة اليومية كان يستعملها أهل الضيعة ويملك مجموعة كبيرة منها. وقد اتصل الصغبيني برئيسة "مؤسسة التراث" السيدة منى الهراوي وعرض عليها فكرة إقامة متحف تـراثي وريفي عن حياة القرية في هذا البيت، ووضع مجموعته الاتنوغرافية في تصرفها. السيدتان نايلة كتانة وهدى قساطلي (من المؤسسة) زارتا البيت الذي يقع في وسط تربل، ووجدتاه كاملاً وأصلياً وكبيراً ويتسع لإقامة متحف، فتم الاتفاق مع صاحبه جان جبور الرامي الذي يستعمله في فصل الصيف، على ترميمه واستعماله لمدة 15 سنة. وتم تأليف فريق خاص لتنفيذ المشروع، وفي أيار 2003 بدأ العمل لترميم البيت وتحويله متحفاً ريفياً نموذجياً، على يد فريق من الاختصاصيين المتطوعين.

 

 متحف في خدمة التطوّر القروي
بعيداً عن تحديده مجرد عملية حفظ شكلي للبيت التراثي، يتطلّع هذا المشروع الى عملية تنمية منطقة بأسرها. فالحيوية الثقافية التي ستحيط بالمتحف تؤدي الى حيوية اقتصادية، والنشاطات المتعددة، التي أنشئت حول هذا المشروع يجب أن تعطي دفعاً للمنطقة عبر إنشاء بعض الوظائف الثابتة أو الموسمية كما يرى القيمون عليه. من هنا تصبح المحافظة على الميراث الوطني أداة توضع في خدمة التطوّر والتنمية. أخيراً، يطمح القيمون على المشروع الى ادخاله ضمن حلقة بيئية ¬ سياحية، إذ من المفترض أن يكون هذا المتحف جزءاً من مجموعـة نقاط سياحية تضم: القصر الأموي بالقـرب من عنجر، والمعابد الرومانية في نيحا بالقرب من زحلة، والآثار الرومانية في الفـرزل وكفرزبد، ومقـام ومسجـد النـبي نوح في الكرك، محمية الطيور في عميق، وأقبية النبيذ في كفريا وكسارة ومسايا. وسوف توقـع عقود مع منظـمي الرحلات السياحية لضـم متحـف تربل الى خطـوط الزيارات في منطقة البقاع.
                

 المتحف يستقبل الزوار
اعتبـاراً من 20 آب، بدأ متحف تربل البـيئي فتـح قاعاتـه وغرفه أمام الجمهور والزائرين، ولا سيما طلاب المدارس (بين العاشرة صباحاً والسادسة مساءً، ومـن شهـر أيار وحتى تشرين الثاني)
للإطلاع على الحياة الريفية التي كان يعيشها القروي اللبناني منذ قرنين ونيف من الزمن، ولا يزال البعض يعيشها ربمـا في بعـض المناطـق النائية. كـما تألفت لجنـة "أصدقـاء متحف تربل" من أجـل المساعدة والمساهـمة في استمرار هذا المشروع وتطويره.

 

صندوق ستي وليوان جدي...
من غروب عصر المرّ طلينا                  شفنا السلف عتبان نادينا
لا تخاف معنا من العلى توكيل                نجمع تراثك ندرنا وفينا
بصندوق ستي جهازها ومنديل                بليوان جدي الحصر مدّينا
بعامود نص البيت في قنديل                  بأهلا وسهلا الضيف لاقينا
سكي وصمد ونير عملو المستحيل           خرج وعديلي ذكر خلينا
ومنجل حصاد وشبكة التحميل               وقاشوش قش غمار ضبينا
ومورج ذاكرتو حافظا مواويل               ومدراية الفيها غلال درّينا
وغربال حد المد للتكييل                     بكوارة الموني قمح عبينا
ومية الصفوي مع بوطاس ونيل             وع الموقدي دستين حطينا
ومصفاية اللي ناطرا التصويل              وجاروش تمو باقيي ملينا
وتنور حدو وقد للتشعيل                     وبيض وقاورما ضيوف طعمينا
والزحف تلج السطح عم بيشيل              وسلم ع سطح البيت خلينا
هيدي حضارة أهلنا يا جيل                  كرمالكن فيها اهتمينا
هاي ذاكرة للحفظ يا أحفاد                   بعدا عليها لمسة الأجداد
                          اهتمو فيا لو نحن فلينا