- En
- Fr
- عربي
متاحف في بلادي
... بين وجع الإنسان وزرقة السماء
الفنان اللبناني العالمي موسى طيبا عبقرية تضيء وجه الوطن في المهاجر وتكتب لبنان جبيناً عالياً بكل اللغات الحيّة. ابن قانا استنبت من تراب بلدته سمعة تليق بوطن أو ببلد صغير يضيق بحجمه العالم.
جولة في متحف موسى طيبا تسلّط الأضواء على انجاز فنّي مهم يتّصف بالفرادة، وينطوي على دور ثقافي لمؤسسة متواضعة جمعت أعمال مسيرة فنان من جنوب لبنان والعالم.
مسيرة فنان
ولد موسى طيبا في لبنان عام اندلاع الحرب العالمية الثانية - 1939. عاش طفولته في قرية تربيخا، يرافق فيها والده إلى المروج والروابي المخضوضرة.
في قانا، شبّ الصبي وعرف الطبيعة عن كثب، فتأمّل أسرارها وحاورها حواراً متنوّعاً، فتداعت إليه الصور حافلة بالرؤى الغامرة. وهو يروي من ذكريات تلك المرحلة أنه كان ينظر إلى السماء ليلاً، فيشاهد النجوم مغرّدة مضيئة بإشعاع الحوار، وعذوبة الشعر، هامسة في أذنيه كلمات مشحونة بغموض ساحر، أو يلمح في صفحة السماء مسرحاً تسبح فيه العذارى بأشكال تراوح بين الواقعية والتجريد. وكم كان يسعده أن يرى في تلك الأشكال والصور خيولاً جامحة، وطيوراً محلّقة، وأناساً يسعون في مناكب الأرض، فيلتقون ويفترقون، ويحبّون ويعشقون، وقد يرى فتاة يتعشّقها فتسحره بحركات جسدها، ولمسة ثناياها.
رصيف ومرآة
بعد انتهاء دراسته الثانوية، انتسب إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في بيروت، فألمّ بتقنيات الرسم المختلفة، وعرف التيارات الفنية الكبرى، وأمضى أربع سنوات بإشراف أساتذة فرنسيين، وأستاذ ايطالي.
كان في هذه الفترة يشتغل أحياناً، ويتسكّع في شوارع المدينة أحياناً أخرى، منتقلاً من مكان إلى مكان على الأرصفة ومربّعاتها الصغيرة. وكلما كان يمشي كان ينظر إلى الموزاييك على أرصفة الأرض، فيرى في داخل كل مربع حكاية شكل معيّن من أشكال الناس التي تختلف باختلاف الأوضاع والحركات ومراحل التشكيل. كل هذا يظهر في لوحة «الرصيف اللامنتهي»، وهي مجموعات من المربعات داخل كل مربع منها شكل انساني بوضعية مختلفة.
هذه اللوحة التي فقدت إبّان الحرب في لبنان تُعدّ بمثابة الولادة الفنية الأولى لدى موسى طيبا، تحاكيها في ذلك (مع بعض الاختلاف) «المرآة الكبرى» (1962-1964) التي رسمت على مراحل. «الرصيف اللامنتهي» تمثل الجنس البشري في حياته وأعماله وضروب عيشه على سطح الأرض. بينما تنتظم في «المرآة الكبرى» أشكال التكامل الجنسي البشري، ومتعة الجسد في خلق أجيال وأجيال تتعاقب على مرّ الدهور، وفيها بُعدان: فضائي وأرضي، وفصول أربعة تحكي حكاية الزواج والأعراس الانسانية خلال الدورة السنوية المتمثلة في «المرآة الكبرى» التي هي مرآة الشمس.
بعد حصوله على الشهادات التي تمنحها الأكاديمية اللبنانية أراد أن يتعرّف إلى العالم فكانت أولى رحلاته إلى فيينا عام 1963، وهناك اكتشف بكثير من المتعة، صروح المجسّمات التاريخية وروائع الفن، وتسنّى له خلال زيارته للمتاحف أن يطّلع على مختلف الحضارات.
تجوال وتفاعل
في لندن، تعرّف موسى طيبا على حياة الفنانين، وصالات الفن، والمعارض الفنية الكبرى والحدائق الواسعة.
بعد عودة قصيرة إلى لبنان، توجّه إلى أوروبا، وإلى ايطاليا بالذات. فعمل ثلاث سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة مع النحّات فيتزيني، وكان يمارس إلى جانب ذلك عمل الجداريات الليّنة والحفر. وعندما أصبح محترفاً أخذ يعمل ويعرض مائيّاته التجريدية متّخذاً منها أبعاداً جديدة استوحاها من موضوعات انسانية شتّى. وفي العام 1971 قام برحلة استكشافية طويلة برفقة زوجته أسماء وقد عبرا في أثنائها على متن احدى البواخر، البحر الأبيض المتوسط من الشرق إلى الغرب.
في اسبانيا استوقفته «الكوريدا» رمز المصارعة بين الانسان والحيوان، والقوي والضعيف، وقد بدا له أن الفارس (الميتادور) لا يتّبع أسلوباً واحداً في الجريمة والقتل، كما أن الثور لم يكن بجسده وقوّته وحيرته القلقة، يقتصر على مصارعة الموت، بل كان يتعدّى ذلك إلى حشود المشاهدين والمهلّلين ليمثّل أحاسيسهم ومشاعرهم وعواطفهم الانسانية وغرائزهم الحيوانية وظلمة الموت أمام قسوة القدر. وهكذا حملت لوحته «الكوريدا» (1971) معاناة تمثّل الحياة الواقعة ما بين الولادة والموت بسرّها الدفين بين التراب والدم.
من جديد عقد الترحال فوصل إلى الساحل الافريقي في طنجة عن طريق جبل طارق، واجتاز مدينة مراكش إلى قمم جبال الأطلس، الغنية بالأشكال والألوان. وفي أثناء اقامته في الفندق أنجز مائياته المستوحاة من الطبيعة، ثم تابع رحلته. فاجتاز بلاد المغرب، والقسم الصحراوي من الجزائر حتى بلغ تونس. وبعد جولته السياحية فيها ركب الباخرة إلى نابولي في ايطاليا.
تركت هذه الجولة في ذاكرته وفي نفسه انطباعات غنية أوحت إليه في ما بعد روائعه الفنية الآتية: «لاكوريدا»، أو مصارعة الثيران، «البوابة الكبرى»، «غاديس»، «سوق الفنا» و«قسطنطية». هذه الروائع، ذات الألوان الصافية، تشبه قطعاً من البلّور، مغمورة بنور أزرق، يحاكي زرقة مياه البحر الأبيض المتوسط.
رسّام عالمي
غدا موسى طيبا رسّاماً عالمياً، واقتربت مائياته من زيتياته حتى تحلّلت فيها. وسواء تعلّق الأمر بموضوعاته، أو بحداثته، فقد جمع في أعماله التيارات الفنية المعروفة في الشرق وفي الغرب.
الأحداث التي عصفت بلبنان عام 1975، لم توفر موسى طيبا. ففي العام 1976، فقد مسكنه، ومحترفه، ولوحاته أيضاً التي كانت معروضة في «كاليريات الفن». وفقد كذلك بعض زملائه وأصدقائه الفنانين.
بعد ثلاث عشرة سنة من التدريس في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية، غادر مدينة بيروت، وحربها، باحثاً عن أفق جديد، واتجه نحو أوروبا، فعرض في روما، وميونخ، وبلفورت أعمالاً كبيرة الحجم، شبيهة بما يعرض في المتاحف، إحداها «المجرّة»، التي يزيد طولها على تسعة أمتار... إلى أن استقرّ في مدينة شارتر بفرنسا عام 1986. وفي ربيع 1996، وضعت بلدية المدينة في تصرّفه محترفاً ليتابع فيه أبحاثه وأعماله، وابتكاراته الفنية.
أمام تقلّبات الحياة وارتباطها بمشكلات الفن وتعقيداته، بدأ طيبا في محترفه الفرنسي محطة جديدة بحثاً وحواراً ورسماً، فأنتج في هذه المرحلة لوحات رؤيوية تمتزج فيها حرية التشكيل المتجدد بحركات مضيئة مبنية على نوع من الانعتاق الحرّ. وفي فترة هذا التفاعل ظهرت الأعمال بحالة متجددة.
الجميلة المحرّقة
أقوى أعمال موسى طيبا صلة بقسوة المعاناة الانسانية، وصراع البشر ضد الظلم والعدوان والقهر، وجرائم الحرب على ايقاع الأسلحة المدمّرة، وأنانيات الدول وأحقادها وجرائمها الرهيبة، هي لوحة «الجميلة المحرّقة» حيث كانت أحداث قانا نبعاً غزيراً من ينابيع ظلم الانسان ضد الانسان بأشدّ فنون القتل، وتكنولوجية الصناعة الهدّامة. فعلى مذبح تراب الأرض البريء كانت قرابين الانسانية حشوداً محروقة بقنابل الهواء الأصفر، مهشّمة، مقطّعة الأوصال منثورة في كل اتجاه.
ترى، أتكون المرحلة الأولى في حياة موسى طيبا الفنية قد بدأت مع «الرصيف اللامنتهي» و«المرآة الكبرى» وهما اللوحتان اللتان تمثلان الولادة الفنية لديه، وتكون المرحلة الثانية قد انطلقت من «الكوريدا» المنطوية في أعماقها على صراع قايين وهابيل، في حين أن المرحلة الثالثة تتجلّى في لوحة «الجميلة المحرّقة» التي تمثل القتل المتعمّد روحاً وجسداً، والموت غير الطبيعي وصور الظلم والظالمين والمظلومين، في زمن رديء ربما كان أسوأ الأزمنة على مرّ التاريخ»؟...
جولة في أرجاء المتحف
يحوي متحف موسى طيبا في قانا نحو 250 عملاً فنياً موزعة بين منحوتة ومجسّمة وأكواريل ومائية تم انجازها ما بين 1962و2002.
تمتد مساحة المتحف الذي افتتح في العام 2002 على ثلاثة طوابق.
في الطابق الأول خمس قاعات وثلاثة ممرات وحديقة استقبال.
القاعة الأولى تحمل اسم «قاعة الوالد» وتشمل أعمالاً ذات قيمة تعود إلى الأرض الأم، إلى الإنسان التائه، المشرّد في فلسفة كونية مبنية على حوارات وفلسفات حول الوجود والانسان.
القاعة الثانية هي «قاعة السفير»: كل من يدخل إلى هذه القاعة هو سفير. وتعتبر الأكبر في المتحف لتكون بادئ ذي بدء قاعة محاضرات ولقاءات وحوارات وجزءاً من أرشيف حياة الفنان. هذا بالإضافة إلى احتوائها العديد من المجسّمات الفنية المتنوعة والمشغولة من الحديد والرخام والخشب.
أما اللوحات المعروضة فهي زيتية ومائية، حيث ان اللوحة الزيتية الأولى التي أعطيت شرف هذه القاعة هي لوحة مجزرة قانا في العام 1996.
القاعة الثالثة هي «قاعة تربيخا» وهي ضيعة الفنان موسى طيبا.
القاعة الرابعة تحمل اسم «قاعة القباني»، وهو محافظ مدينة بيروت في عهد الأتراك وأول مؤسّس لمجلة «ثمارات الفنون» الصادرة باللغة العربية.
أما القاعدة الخامسة فهي «قاعة جبران» وتمتاز بمنحوتتين لـ«دمعة وابتسامة» ويطغى عليها اللون الأزرق.
في الطابق الثاني مجسّم لتراب الدم (مصنوع من شريط وحديد وخشب وجراح وثقوب...)، ومن ثم تطل مجموعة من 60 لوحة زيتية إلى عدد من المنحوتات تعبّر عن معاناة الانسان التائه، المشرّد، الصامد، المتفاعل في الشرق والغرب والحياة والموت...
وقد تم افتتاح هذا الطابق في العام 2003 برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد اميل لحود.
أما الطابق الثالث فقد تم افتتاحه في العام 2004 برعاية رسمية وهو يشمل أكثر من 40 عملاً من المحفورات (Gravures) وزيتيات ومجسّمات وزجاج ملوّن ومنحوتات... وفيه جناح يضم لوحات لأصدقاء الفنان وهم رسامون من فرنسا ولبنان وايطاليا واليابان وهونغ كونغ... مثل بيكاسو ودالي وبرنار بوفيه وغيرهم... وعندما تستكمل هذه المجموعة التي تكتسب أهمية كبرى سيفتتح الجناح رسمياً في العام 2006.
تصوير: المجند جوني عيد