متاحف في بلادي

متحف ومكتبة فؤاد شهاب
إعداد: جان دارك أبي ياغي

سيرة باني المؤسسات ونهجه في بيته ومطارحه

لم يمتلك في حياته قصرًا، ولا حتى بيتًا كبيرًا. لم يعش ترف الرئاسة ومظاهر الرفاهية التي تتسم بها حياة الملوك والرؤساء وكبار المسؤولين عــادة.
ذلك الأمير، اللواء، جلس على كرسي الرئاسة زاهدًا، متقشفًا، متواضعًا، صامتًا، مسكونًا بحلم بناء وطن القانون والمؤسسات والحداثة.
إنه فؤاد شهاب أحد رجالات وطننا الكبار، مؤسس الجيش وباني المؤسسات، إنه القدوة والمثال الذي ينبغي أن يظل حاضرًا في ذاكرة الأجيال. ومن هذا المنطلق تمّ تحويل بيته في جونيه إلى متحف ومكتبة.

 

البيت المتواضع
البيت المتواضع الذي لا تتجاوز مساحته الـ325 مترًا مربعًا، تضافرت جهود كبيرة لجعله معلمًا من معالم التاريخ والتراث والإشعاع، من خلاله تتعرّف الأجيال إلى سيرة رجل كان له بالغ الأثر في بناء الدولة اللبنانية.
منذ بضع سنوات كان المنزل معروضًا للبيع وكاد أن يتحوّل إلى مشروع استثماري. الضجة الإعلامية التي أثيرت حول الموضوع غيّرت مجرى الأمور.
في 21/11/2013 وبموجب القرار 178، أدخل المبنى في لائحة الجرد للأبنية التاريخية، وتعطلت عملية البيع، ثم تلاحقت الخطوات، وحظيت فكرة تحويل البيت إلى متحف بمتابعة من وزارة الثقافة خلال السنوات الأخيرة، وكذلك، من بلدية جونيه والرهبانية اللبنانية المارونية (التي اشترت العقار وتعهدت بتحويله إلى متحف)، ومؤسسة فؤاد شهاب وعائلته.
والواقع أن العقار الذي يقع عليه البيت هو في جوار المدرسة المركزية في جونيه. هذه المدرسة كانت في الأساس للأخوة المريميين، وقد اقترح الرئيس شهاب على الرهبانية المارونية شراءها في العام 1966. وهذا ما حصل، وما شكّل دافعًا من الدوافع التي حدت بالمدرسة إلى ردّ الجميل للجار الأمير، الذي طالما كان يتردد إليها ويصلي في كنيستها.

 

وفاء لباني الدولة والمؤسسات
رئيس المدرسة المركزية الأب وديع السقيّم التي احتفلت بافتتاح المتحف والمكتبة في 11 تموز الماضي، يقول في حديث للـ«الجيش»:
بعد وفاة الرئيس شهاب في العام 1973، ومن ثم وفاة زوجته، تحوّل بيته الذي كان محجًّا للسياسيين إلى بناء لا حياة فيه، مهدد بالانهيار. وعندما علمت الرهبانية بأنه معروض للبيع بهدف بناء مشاريع عمرانية، أبت أن يصبح منزل باني الدولة ومؤسساتها في دنيا النسيان. فكان القرار بشراء العقار وتحويله إلى متحف ومكتبة تستفيد منهما الأجيال الصاعدة.
وعن تصميم المتحف، قال الأب السقيّم: زرت متحف شارل ديغول في فرنسا واطلعت على كيفية حفظ أرشيف العظماء. وعندما عدت إلى لبنان شكّلت فريق عمل قام بأبحاث حول فؤاد شهاب في مؤسسة المحفوظات الوطنية وأرشيف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، بالتعاون مع أفراد عائلته ومع مؤسسة فؤاد شهاب. ثم قمنا بجمع كل المخطوطات والمراسيم والكتب والأغراض الشخصية العائدة له بمساعدة مركز فينيكس للدراسات اللبنانية التابع لجامعة الروح القدس – الكسليك، الذي عمل على أرشفة المعلومات وتنظيمها إلكترونيًا.
وأكّد الأب السقيّم أن المتحف سيوضع في تصرّف أهل العلم والطلّاب للاطلاع على سيرة هذا الرجل العظيم، وأن المعلومات المتوافرة ستكون بتصرّف الراغبين من دون مقابل.
في الختام، شكر الأب السقيّم وزارة الثقافة، منوّهًا بالجهود التي بذلها الوزيران غابي ليون وروني عريجي، ومعهما رئيس بلدية جونيه السابق انطوان افرام والحالي جوان حبيش، ومركز فينيكس للدراسات، ومؤسسة فؤاد شهاب، وعائلته.

 

في أرجاء المتحف
كان البيت مؤلفًا من غرفة نوم وصالون وسفرة ومكتب ومطبخ صغير. بعد ترميمه أعيد تقسيمه فأصبح مؤلفًا من غرفة نوم، ومكتب، ومكتبة، وقاعة عرض كبيرة. وقد تمّ افتتاحه في احتفال أقيم في باحة المدرسة المركزية في حضور ممثلين عن رئيس مجلس النوّاب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء تمام سلام إضافة إلى نوّاب حاليين وسابقين وفاعليات سياسية وعسكرية ودينية وحشد كبير من الإعلاميين والمهتمين.
وسط القاعة الكبيرة تنتصب صور كبيرة للرئيس شهاب قائدًا للجيش، ورئيسًا يؤدي القسم. وفي أرجائها واجهات زجاجية تضمّ صورًا له مع رؤساء الدول وشخصيات عالمية ومحلية، إضافة إلى نسخ عن 24 مرسومًا للمؤسسات الرسمية التي استحدثها في عهده وشكلت حجر الأساس لدولة القانون والمؤسسات. تتوسط الواجهات شاشة كبيرة تعرض أفلامًا لنشاطاته وخطاباته، وأجهزة إلكترونية تسمح لمستخدمها بمشاهدة أفلام وثائقية عنه بالصوت والصورة.
إلى اليسار مكتب الرئيس الذي أُعيدت هندسته كما كان سابقًا. في الواجهة مكتبه الخاص وعليه نظاراته وقبعته السوداء الشهيرة، وخلفه مجسّم نحته أحد آباء الرهبنة اللبنانية المارونية وهو يمثله جالسًا على الكرسي عندما كتب آخر ورقة قبل مماته وهي باللغة الفرنسية. وإلى جانب المكتب واجهة تحتوي على نياشين، ولوحة نمرة السيارة الرئاسية ذات الرقم 1، وصور تجمعه مع الباباوات الذين زاروا لبنان في عهده (البابا بولس السادس والبابا يوحنا الثالث والعشرون)، إضافة الى مقاعد أعيد تنجيدها وبار خشبي يحتوي على كؤوس الشمبانيا التي كان يحبها كثيرًا ويقدمها الى ضيوفه.
 في غرفة النوم، سرير جديد صنع مطابقًا لسريره الأصلي الذي تكسر، وإلى جانبه خزانة تحتوي على بزّاته العسكرية والمدنية، وربطات العنق. وفي إحدى زوايا الغرفة كتب للصلاة وزيت مقدس وبخور ومسبحة، أما في الزاوية الأخرى فعدّة الحلاقة وقناني العطور.
في مكتبة الرئيس شهاب الكبيرة، نرى الكتب التي كان يقرأها، وتلك التي كتبت عنه، إضافة إلى كتابين كتبهما بخطّ يده. وقد جُهّزت المكتبة بطاولة ومقاعد وأجهزة كمبيوتر وضعت بتصرّف الباحثين والمهتمين. الرفوف زينت بصور لعائلة الرئيس، وأخرى تعود إلى مراحل مختلفة من حياته، بدءًا من طفولته ووصولًا إلى تولّيه قيادة الجيش وانتخابه رئيسًا للجمهورية. وعلى الرفوف أيضًا: أوسمته، أسلحته، بطاقة هويته (الأصلية)، وتلك العائدة لزوجته، البطاقة العسكرية، دفتر المعاش التقاعدي، جواز سفره السياسي وقد حمل الرقم 1964/16، مطرقة الرئاسة، وثيقة الزواج، وصيته، مجموعة غلايينه وقداحاته، شهاداته العسكرية، مشاريع القوانين، الرسائل الرسمية، صور الكاريكاتور، الخاتم الذي قدمته له الملكة إليزابيت، وأعلام، وغيرها الكثير من مقتنيات الرئيس شهاب الشخصية.

 

الشرفة والصومعة
ننتقل إلى الشرفة الخارجية للمنزل- المتحف، هنا كان يجلس الرئيس شهاب معظم أوقاته، وهنا كان يستقبل زوّاره من رؤساء دول وسفراء وكبار المسؤولين المحليين. ونجد فيها: الشمعدان الذي أحرق فيه الورقة التي خطّ عليها استقالته، مزهرية منقوش عليها حملة نابليون بونابرت، الرتب والشارات العسكرية، شعارات القطع العسكرية التي خدم فيها، السيف الذي أهداه إياه أهالي جزين من صنعهم، إلى صور عديدة مع شخصيات التقاها، والكثير من المقتنيات الصغيرة والكبيرة والتي يوازي عددها الخمسمئة قطعة.
أما الحديقة التي تحيط بالمنزل والتي كانت صومعة الرئيس، فقد وضع فيها تمثال من الحجر للرئيس شهاب موقّع بإزميل النحات برنار غصوب (من كلية الفن المقدس في جامعة الروح القدس- الكسليك)، تحية وفاء من أبناء وأحفاد عائلة المرحوم نعمة الله إفرام، كما عرضت سيارته الشفروليه موديل 1962.
في هذا المنزل الصغير، تشعر أنّك حقًّا في حضرة الرئيس اللواء فؤاد شهاب، الرئيس الذي أرسى بنيان دولة المؤسسات وعاش أميرًا بكبريائه، كبيرًا بتقشفه وتواضعه.
مقتنيات المتحف والمكتبة جمعتها المدرسة المركزية من ولدي شقيقه الأميرين عبدالله وطالب فريد شهاب، ومن وزارة الدفاع، و«مؤسسة فؤاد شهاب»، و«مؤسسة المحفوظات الوطنية»، إضافة إلى العديد من الصحف ودور النشر.
بلغت كلفة المتحف نحو مليون ونصف المليون دولار. وقد وضع المهندس انطوان عطاالله تصميمه انطلاقًا من مواصفات متاحف الشخصيات العالمية، مثل شارل ديغول وجورج بومبيدو وغيرهما...

 

ملتقى ثقافي للأجيال
خلال تجوالنا في المتحف، التقينا عضو الهيئة الإدارية في مؤسسة فؤاد شهاب المحامي توفيق كفوري الذي أكّد أهمية المشروع للأجيال التي لم تعرف هذا الرجل وما أنجز في عهده. ثم أطلعنا على الخطوط العريضة التي تم التوافق عليها بين جميع الأفرقاء المعنيين، وتتلخص في أن يكون المتحف: ملتقًى ثقافيًا واجتماعيًا لأبناء الوطن، مكتبة عامة مجانية مفتوحة طوال أيام الأسبوع، مركزًا لجمع معلومات تتعلق بهذه الحقبة المشرقة من تاريخ الوطن وللقيام بدراسات متخصصة في الشؤون الإدارية.

 

الأمير اللواء والعماد الرئيس

ولد الرئيس فؤاد شهاب في 19 آذار 1902 في بلدة غزير – كسروان. انتسب إلى المدرسة الحربية في العام 1921 وعيّن قائدًا لموقع راشيا (1935) قبل أن يصبح قائدًا للجيش ( 1 آب 1945). انتُخب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية اللبنانية في العام 1958 وحاول الاستقالة بعد سنتين لكنه عدل عن قراره بعد إلحاح وإصرار النوّاب والوزراء على بقائه. وفي العام 1964 انتهت ولايته فأبى تعديل الدستور ليبقى رئيسًا للجمهورية. عرف لبنان في عهده ازدهارًا كبيرًا من خلال تطوير وبناء العديد من مؤسسات الدولة، وأهمّها مجلس الخدمة المدنية ومصرف لبنان وتعاونية موظّفي الدولة... كما شهد عهده تأهيل الكثير من الطرقات وإيصال الكهرباء والمياه للعديد من المناطق وتوسيع مرفأ بيروت... عاش الرئيس فؤاد شهاب وزوجته روز-رينيه حياة متواضعة بعد تركه رئاسة الجمهورية، وتوفي العام 1973 تاركًا وراءه إرثًا وطنيًا عظيمًا.