متاحف في بلادي

متحف وهيب بتديني في كفرنبرخ
إعداد: جان دارك ابي ياغي
تصوير: طلال عامر

الألوان الساطعة والتراث النابض

في أعماله شاعرية الغسق الذهبي المشع في آفاق جبالنا، وفيها ظلال الرهبة في مهاوي أوديتنا العميقة، جمع عناصرها ومفرداتها بتناسق ودقة، إضافة الى حسن الإخراج، وقوة الرسم والرؤية العميقة... فأتت رسومه ومنحوتاته إثباتاً للشكل من منظور رؤية الفنان له، بالتقاط الحياة العميقة في الطبيعة والهيئات من خلال شفافية اللون، وهارمونيته المتفاعلة مع الشكل والخط والمفردة... فإذا بأعماله المتعددة تكشف عن مميزات طبيعية متأصلة بنفسية فنان عريق من جبل لبنان الأشم... إنه الفنان التشكيلي وهيب بتديني الذي زرناه في متحفه في بلدة
كفرنبرخ الشوفية.

 

وهيب بتديني اغترب ولم يتغرّب

وهيب بتديني من مواليد بلدة كفرنبرخ الشوفية، حائز ماجستير في الرسم والتصوير الجداري، من معهد سوريكوف - موسكو (العام 1966). شغل مهمة أستاذ ورئيس قسم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية من العام 1967 الى العام 1988، عضو في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، عضو في اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعضو في دار الفن والأدب.
على الرغم من دراسته (ومزاولته ردحاً من الزمن) في الخارج، بقيت ريشته أصيلة.الخارج أعطاه تقنية أكثر، تمرّساً أعمق، وانفتاحاً أوسع، لكنّ تقنيته لم تٌخرجْه من جذوره، وتمرُّسه لم يُبعده عن إرثه، وانفتاحه لم يحدْ به عن المنبع الذي منه انطلق. لكأنه شاء ان يتعمّق اكثر في كشف تراثه، فاغترب ليكتسب مهارة الكشف أكثر فأكثر، حتى إذا عاد، كشف عن الأصول اللبنانية، من قلب الجبل الى عمق التراث الى ملامح الوجوه المعمّقة الضالعة في الجذور، فاكتسبت ريشته حذاقة في الرقشة اللونية، وعرفت لوحته قاموساً جديداً في التعبير. الحذاقة لم تأخذه من الموضوع، والقاموس أغنى لغته التشكيلية ولم يُهَجِّرْه منها. إذاً، غربة وهيب بتديني طالت الشكل، ولم تطل المضمون. ويخطئ من يظن ان وهيب بتديني ابتعد عن المكان ثم عاد اليه كأنه لم يغادره فظل يرسم المنظر والمشهد والوجود كأنه لم يبتعد عنها. ابتعاده مكّنه أكثر من التعبير عن مضمون لبناني بلغه تشكيلية معاصرة، تنحو الى الإبداع الطليعي.

 

كيف ولدت فكرة المتحف؟

لم يأتِ المتحف إلا بعد تساؤلات كثيرة وحيرة كبيرة راودت صاحبه الفنان وهيب بتديني. يقول: «هذه التساؤلات رافقت فكري ومشاعري فترة طويلة في لبنان وفي أميركا بشكل خاص. هناك قمنا بالتفتيش أنا وعائلتي لإيجاد المكان والبناء المناسبين لهذا المتحف، إلا أن حبي وولعي بوطني وتراثي كانا الدافع الأقوى الى اتخاذ القرار الأصح ليكون هذا المتحف في لبنان وفي بلدتنا كفرنبرخ بالذات، وسط منطقة الشوف المتميزة بالتراث اللبناني العربي الأصيل. هذه البلدة الرابضة في حضن الطبيعة الساحرة بجبالها وقراها المنتشرة على التلال وفي المنحدرات التي تزينها أشجار الأرز والصنوبر والسنديان والزيتون والتفاح وعرائش العنب وغيرها، والتي تزينها حمرة قرميد سطوح البيوت الحجرية العتيقة والجديدة معاً. ومن الطبيعي أن يكون متحفي في قريتي، في رحاب المتحف الأكبر (منطقة الشوف)».

 

الانطباعية لغة صادقة

الانطباعية هي كالعمود الفقري للفنون التشكيلية بالنسبة الى الفنان وهيب بتديني. فهو يقول في هذا الفن: «الانطباعية هي الرابط الأساسي الناظر والمنظور وهي القاسم المشترك بين الفنان والآخرين. فهي تعبّر عن الحياة الاجتماعية في الحالات والظروف شتى، إنها لغة صادقة تكتب بالخط واللون وبالشكل الحجمي، لتعكس التعبير الصادق عن الجمال بالتناسق والانسجام الذي يرضي عشاق الفن والتراث». ويتابع: «الانطباعية مزيج من مذاهب وأساليب عديدة، وعلى الرغم من تنوعها وتنوع المواد والتقنيات المختلفة المستعملة فيها، فهي متميزة بالشاعرية والشفافية والعفوية وحرية التعبير الإيجابي. فضلاً عن كل ذلك يبقى الفن هادفاً الى التغير والتنوّع والتجدد والتحديث وفق ظروف المحيطات وثقافة الشعوب والمجتمعات، وذلك يعود إلى الموهبة وتفاوتها بين فنان وآخر». وعن التجديد والتحديث في أعماله الفنية، قال: «إني أحب التجديد والتحديث. وتشهد على ذلك أعمالي الحديثة في أميركا التي كان لها الإعجاب الكبير في معارضي في نيويورك وغيرها من المدن الأميركية بأسلوب تجريدي أسميته «الانطباعية الحديثة» بعد معايشتي للحياة الأميركية بضجيجها وصخبها وحرارة ضوئها وبصراعها وصرعاتها وبغناها وفقرها، هذه التي عكست إنطباعية معبّرة عن إيحاء الى مستقبلية فنية تتلاءم وأذواق الأجيال الطالع».

 

أشلح ألواني على اللوحة...

يقول الفنان بتديني إن اللون هو لعبته الفنية، ويشرح: «أملك الدراسة العالية والقدرة على التصوّر والتنفيذ والسرعة في الانتاج. أقف أمام لوحتي البيضاء أشعر بالتحدي الكبير، عندها أقف بصلابة من دون خوف وتردد. ثم أبدأ بصلابة وسرعة في التنفيذ. وكثيراً ما أغمض عيني وأشلح ألواني يمنة ويسرة على اللوحة. ثم أبدأ بروتشتها حسب مقتضى فرضية الجمالية في التناسق والانسجام والتنوع والتقابل بين العناصر والألوان. بذلك يمكنني القول أنني أرسم كما أتكلم، وألعب لعبتي اللونية والخربشة».

 

في أرجاء المتحف - القصر

يتميّز مدخل المتحف الرئيس من الشرق بفن تراثي يحاكي حياة العصر. فالجدارية التي تعلو المدخل (طولها 5 أمتار وعرضها 150 سنتم) أرادها الفنان راسية في البحر وتمتد لتعانق جبل الباروك مهد خشب الأرز الذي اشتهر في العالم. الى جانب هذه الجدارية (التي تمثل صناعة السفن في لبنان)، ينتصب تمثال لفتاة ترتدي الزي الفولكلوري الحديث وترفع بيدها الورد عالياً وكأنها تقول للضيوف بابتسامة عريضة «أهلاً وسهلاً». أما مدخل المتحف من الجهة الغربية فتعلوه جدارية أخرى تجسّد معركة على الخيول في لفتةٍ الى الحروب التي عاشها لبنان منذ مئات السنين. والى جانبها تمثال (ارتفاعه 3 أمتار) لفتاة جميلة تستحم بماء الجرة الذي تسكبه على رأسها في حركةٍ تغييرية عمّا كانت تفعله صبايا العهد القديم إذ كنّ يحملن الجرّة على كتفهن. ننتقل الى زاوية أخرى من زوايا المتحف الخارجية حيث منحوتة للفنان تمثل قطاف التفاح اللبناني، وقد أرادها الفنان ملائكية سرها جمال ونظرة الى الأعلى. أما زينة المنحونات الخارجية للمتحف فهي منحوتة الأمومة، التي تجسدها امرأة ترفع طفلها فوق رأسها ليلتقي مع الشمس ويداها أجنحة تحلّق به في فضاء الحرية والهناء.

 

اللونية الساطعة

تمتد أعمال الفنان وهيب بتديني الفنية على مساحة طابقين، لكل منهما سمته الفنية. يضمّ الطابق الأول لوحات تعكس أسلوب الفن الحديث من حيث اللونية الصافية والساطعة. هذا الأسلوب لاقى إعجاباً كبيراً في أميركا، وكان مؤشراً لتصنيفه من الفنانين العالميين. في رسومه المستوحاة من جمال الطبيعة، يتجلّى الإيمان الصافي، والاحساس الرقيق، والملاحظة البريئة... من تصوير للمواضيع الروحية، والأشخاص، وتزيين القصور، وتصوير الطبيعة... فالظاهرة التي تميّزت بها أعمال الفنان التشكيلي رسماً ونحتاً، تدل على تنبه الفكر، والسير في طريق تشكّل تربية خصبة للآخرين من سالكي طريق الفن التشكيلي... إنها مدرسة وهيب بتديني التي تمتاز بالدقة في التصوير، والقوة في الملاحظة، واستلهام الطبيعة، والوجود، والمجتمع، والتقاليد، والفولكلور، والتاريخ... في البعض من لوحاته تبرز الكلاسيكية الشكلية، المدمجة بالتأثرية، ويشهد على فنه، الأعمال التي تمثل الحياة اللبنانية، في الكثير من مناحيها، ونماذج عن الحياة البيتية، وطراز البيوت، والمواطنين بألبستهم القومية...  وفي البعض الآخر عني الفنان بتسجيل اللقطات التي تُسَرُّ بها عين المشاهد، مطبقاً قوانين الفن الأصولي، من صميم الطبيعة اللبنانية بمواضيعها وألوانها وحساسيتها، بواقعية امتازت بالدقة في الرسم، والفن في اللون، والوضوح في المعالم والسمات.

 

منحوتات

الأعمال النحتية التي انجزها بتديني تعكس مظاهر الحياة بكل حدتها، وقد سعى في رؤيته الى التوفيق بين تأثره بالرشاقة، وتأثره بالنماذج، بحيث تولدت حالة من الانسجام بين ما تأثر به وبين ما يعبّر عن وجدانه وعن الذوق العام، فإذا بمنحوتاته الى جانب رسوماته تمثل الجمال في ظل حرارة الحياة، لتعكس جميعاً حلم البتديني الرافل بالرزانة والوقار وبراءة الخطوط... بقوة بناء واتساق وتأليف... وقد أراد الفنان لأعماله النحتية هذه أسلوباً جديداً لم يُعرف بعد في حقل الفنون التشكيلية، البُعد الرابع. فعندما تقف أمام تمثال من تماثيله وتتحرك، يرافقك بنظره كيفما وأينما اتجهت. وقد جسَّد هذا البُعد في تماثيل للرئيس الشهيد رفيق الحريري والمعلم الشهيد كمال جنبلاط والشيخ أبو حسن عارف حلاوي. هذا بالإضافة الى ابتكار الفنان بتديني الخطوطية العربية حيث المخطوطة لوحة تُرى وتُقرأ، وقد نال هذا النوع من الفن، الذي بدأه في أميركا، إعجاب الأميركيين.

 

التراث النابض

يمثل الطابق الثاني للمتحف التراث اللبناني بشخصياته وأحداثه. من هنا أن وهيب بتديني لا يرسم ليقول لوحة، بل ليحفظ تراثنا متألقاً في لوحة، فلا تغمره السنوات المتراكمة عليه، ولا تُخفِتُ نبضه مدارس فنية تدّعي العصرنة ومجاراة الموجات. هذه المدارس لا تدرك ان الابتعاد عن الجذور الى أرضٍ أخرى لا يجعل الطارئ الدخيل ابناً لتلك الأرض الأخرى ولا يبقيه في أرضه الأصيلة، فيصبح يتيماً مشرّداً في اللامكان. لوحة معركة عنجر للأمير فخر الدين ماثلة أمامنا عندما وقع في الأسر والي الشام مطوّقاً برجال الأمير الذين أرادوا تصفيته، لكنّ الأمير عفا عنه في دلالة الى أنه كان يريد مصادقة الأتراك في ذلك الوقت. أما لوحة إنفجار الحرب اللبنانية فمعبّرة بتأليفها وعناصرها حيث الأمهات والنساء يبكين أولادهن، وأب يرفع ابنه الى فوق أكتافه محاولاً إنقاذه.
لوحة تحرير الجنوب اللبناني بدأ الفنان برسمها العام 1971 وانتهت العام 1996 بعد عملية «عناقيد الغضب» للعدو الاسرائيلي. ويبدو واضحاً في اللوحة إضافة الفنان مدافع الكاتيوشيا التي استعملها «حزب الله» للتصدّي للعدو الاسرائيلي. حصة المرأة في أعمال بتديني بارزة، فقد ميّزها بنسبة 51% من أعماله. عن هذه النقطة يقول: إذا عدنا الى تاريخ الحضارات، نجد ان الرجل قد عَبدَ المرأة في العصر الحجري لما ترمز اليه من خصوبة وأمومة. ولم يرَ الفنان وحده هذا التميّز الكوني في المرأة، فقد سبقه اليه نابليون عندما قال: المرأة التي تهز السرير بيمينها، تهزّ العالم بيسارها». اخيراً، يخبرنا الفنان وهيب بتديني انه يخطط لإقامة متحف لكبار المفكرين اللبنانيين ورجالات السياسة (يُعلن عنه في حينه) معتمداً البُعد الرابع الجديد الذي يعبّر عنه الفنان بالنحت والرسم والتلوين. مع الإشارة الى ان الافتتاح الرسمي للمتحف الحالي سوف يكون في أوائل الصيف المقبل.

 

وهيب بتديني في سطور

* الدراسة:
- ماجيستير في الرسم والتصوير الجداري - معهد سوريكوف الرسمي - موسكو 1966.
- استاذ ورئيس قسم في معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية 1967 - 1988.
- عضو في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت.
-عضو في إتحاد الفنانين اللبنانيين التشكيليين العرب.
- نال جائزة المفكر اللبناني الشاعر سعيد عقل العام 1970 - والجائزة الثانية العام 2003.

 

* معارض خاصة:
- أقام 27 معرضاً خاصاً في لبنان ابتداء من سنة 1967 وحتى 2004.
- اشترك في أكثر المعارض الرسمية التي اقامتها وزارة التربية والفنون الجميلة.
- أقام 26 معرضاً في مدن أميركية.
- شارك في المعرض الفني العالمي في نيويورك في الأعوام 1992، 1993، 1994، 2001، 2002، 2003.

 

* فن النحت:
- صمم ونفذ العديد من الأنصاب والتماثيل لشخصيات بارزة بمواد مختلفة من برونز، حجر، فيبركلاس واسمنت مسلح.
- صمم وأشرف على بناء الشعلة الدائمة في قصر بيت الدين - 1985.
- أشرف على صنع تمثال الأمير فخر الدين في روما (إيطاليا) - 1974.

 

* ديكورات مسرحية:
- صمم ونفذ العديد من الديكورات لمسرحيات المخرج يعقوب الشدراوي.
- صمم ديكور وأزياء مسرحية «ميخائيل نعيمة» في الجامعة الأميركية - بيروت 1975.

 

* نشاطات أدبية:
- قدم عدداً من المحاضرات عن الفن التشكيلي.
- كتب ونشر العديد من المقالات الصحفية في النقد الفني وغير ذلك.
- مثل لبنان في مؤتمر الفنون التشكيلية في دمشق العام 1970.

* بعد تصنيفه من الفنانين العالميين استحق الإقامة الدائمة له ولعائلته أسوة بالمفكرين الذين يستحقونها من الإدارة الأميركية.