- En
- Fr
- عربي
في كل بيت
الشيخوخة
عزلة المسنّ أكبر أسباب معاناته
مرحلة الشيخوخة، هي أكثر مراحل الحياة امتلاء بالتغيرات الجسمية والعصبية والنفسية والعقلية، والتي تؤدي الى درجات متفاوتة من العجز، وتتطلب بذلك الكثير من الرعاية والعناية والعلاج. يضاف الى ذلك المشكلات المعيشية الناجمة عن توقف المقدرة الإنتاجية للمسنين والذين يتحولون بالضرورة الى فئة سكانية متواكلة، والى المشكلات الإجتماعية والنفسية الناجمة عن تفاوت مراحل العمر، والتي تدفع نحو العزلة، علماً أن العزلة الإجتماعية والعائلية هي أكبر وأثقل مصدر للمعاناة في حياتهم.
تقلّص الدور الإجتماعي للمسنين
إن الإهتمام المعاصر بمشكلة المسنين لم يكن نتيجة لضرورة الفهم العلمي والطبي لما يحدث من تغيرات في هذه المرحلة من مراحل الحياة فحسب، وإنما تقرر أيضاً بسبب الزيادة المتواصلة في نسبة عدد المسنين في المجتمعات المعاصرة المتقدمة منها والنامية. وهي زيادة جاءت بفعل تحسين الظروف الصحية والحياتية الأخرى من إجتماعية وثقافية وغذائية وسكنية، وكلها عوامل إيجابية تزيد في مقاومة الفرد المسنّ للمرض وتعطيه فرصة جيدة لإكمال نصيبه من طول الحياة. كانت المجتمعات ولم تزل وإن تضاءل هذا الإعتبار، ترتكز على أكبر أفراد العائلة سناً؛ وظل المسنّ مهما طعن في العمر ومهما بدا عجزه، محور السلطة والنفوذ والتقدير في مجال العائلة، والمجتمع. غير أن هذه النظرة الإجتماعية التقليدية قد أخذت بالإضمحلال، نتيجة لطبيعة الحياة المعاصرة وضروراتها، والتي نجم عنها تجزئة العائلة وتفرّقها، وبالتالي عزلت الكبار عمّن هم دونهم سناً. ويعنى العلماء في أبحاثهم بموضوع الأسباب التي تؤدي الى الشيخوخة الطبيعية والمبكرة، والعجز المصاحب لها في النواحي المختلفة، بما في ذلك الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، والتغيرات التي تحدث مع تقدّم العمر وتشمل أيضاً الوضع الإجتماعي والمعيشي للمسنين، والتي تجعلهم يواجهون مشكلات عدة تعكّر عليهم صفو حياتهم. في ما يلي مختصر لمجالات التغيّر التي تحدث في مرحلة الكبر والشيخوخة من جسمية وعصبية ونفسية واجتماعية.
التغيرات الجسمية طبيعية واستنفار الطاقة يولّد الإجهاد
إن التغيّرات الجسمية التي تحدث مع تقدم العمر هي تغيرات طبيعية، وتشمل مظهر الجسم بشكل عام والعلاقة النسبية بين أجزائه وأعضائه، كما تشمل تركيبة وحيوية الجلد والعضلات والمفاصل والأوعية الدموية والعمليات الوظيفية لأجهزة الجسم كافة، بما في ذلك، القلب والجهاز التنفسي، الخ، والتي تهبط فعاليتها تدريجياً بمرور السنين. ومع أن الكثيرين من الناس يحتفظون بحيويتهم الى حد كبير بعد سن المراهقة والشباب، ومع أن البعض أيضاً يظهرون من الحيوية والفعالية في مجال أو آخر من مجالات النشاط الجسمي، ما يزيد أو يفوق نشاطهم قبل مرحلة الكبر والشيخوخة، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود التغيّر التنازلي في الجسم؛ وكل ما في الأمر أن الفرد يستنفر كل طاقاته الكامنة الى حدودها القصوى، وهو أمر يؤدي الى إجهاد أجهزته الجسمية، وهذا الإجهاد يأتي على حساب عمليات وظيفية أخرى مؤثرة على صحته.
التغيرات العصبية والنفسية: الطفولة الثانية
تأتي هذه التغيرات على صورة نقص تدريجي في قوة الإستجابات العصبية، كما أنها تشمل العديد من العمليات العصبية التي تعتمد على حيوية الدماغ، مثل الذاكرة والتفكير، وكل ما يدخل في إطار المهارات العقلية. ومع أن الفرد يبدو أكثر نضجاً، مع تقدم العمر، إلا أن ذلك لا يعني تطوراً موازياً في الحيوية العصبية، بقدر ما يعني الإستفادة من فعل التجارب والخبرات المتجمعة لدى الفرد. أما بالنسبة للتغير الذي يحدث في الحياة النفسية للفرد، فهو تغيّر يأتي تدريجياً، حاله في ذلك حال عمليات التغيّر الجسمي والعصبي، إلا أن التغيّر النفسي يبدو سريعاً وواضحاً في مرحلتين من مراحل الحياة: مرحلة المراهقة ومرحلة الشيخوخة. وأهم ما يحدث من تغيير في المرحلة الأولى هو قلّة التوافق بين الحياة العاطفية والسلوك والفكر عند المراهق، وبانتهاء هذه المرحلة فإن الفرد يتجه بسرعة نحو تحكيم العقل والتجربة في تصريف المواقف الحياتية التي تعترضه، إذ يكتمل نضوج الحركة الدماغية بعد مرحلة المراهقة. أما التغيّرات التي تحدث في الكبر فتتسم بصفات التصلب النفسي ولا تسمح للفرد بالتكيّف الذي تبنّاه في دور سابق. ويتزامن ذلك مع هبوط في درجة الحماس وفي الطموح والإندفاع نحو تحقيق الأهداف.. كما يحدث تقليص في مجال اهتمامات الفرد لما يجري حوله، فيبدو له العالم أصغر بكثير مما كان. أما اتصالاته الشخصية فتتقلص بدورها، وتتركز على قلّة من الناس الذين ألفهم فقط، ويتركز اهتمام الفرد بشكل متزايد على ذاته أو ما يتصل به مباشرة، وهو يصبح أيضاً أقل مرونة في التعامل وفي الاستعداد لفهم وجهات نظر الآخرين، ويميل الى التمسك بما يتذكره عن زمانه الذي مضى مخلّفاً وراءه ذكريات جميلة، يشدّه الحنين إليها أكثر من اهتمامه وتقديره لعالمه الحاضر، وهو لذلك يتسم بعناد الرأي وبصعوبة الإقتناع والتقبّل لكل جديد في حياته الآنية. وفي المراحل المتقدمة من العمر تظهر بوادر فقدان الفرد لبعض مظاهر التوازن النفسي والمقدرة على التحكم بعاطفته، مما يؤدي الى حدوث انفعالات عاطفية آنية وحادة أشبه ما تكون بالثورة الإنفعالية التي يعاني منها الأطفال والأحداث، وهو الأمر الذي يبرر وصف الشيخوخة بأنها الطفولة الثانية.
التغيرات الاجتماعية
هنالك الكثير من التغيّر في المجال الإجتماعي للفرد بتقدم العمر، وبعض هذا التغيير يأتي نتيجة لعجز الفرد عن مجاراة وملاقاة ما تتطلبه الحياة من تغيير في نمط علاقاته الإجتماعية، وبعض ذلك يأتي بسبب ما يحدث من تبدّل في مقام العائلة، من تفرّق أو تشتت بعض أفرادها بسبب الوفاة أو الهجرة، أو أيضاً بسبب التغيير في ظروف العمل، أو تدني مستوى المعيشة لضيق ذات اليد، وغياب الحوافز التي توفّر الرفاهية للمسنّ. جميع هذه العوامل تحدث تغييراً في الصلات الإنسانية وفي أسلوب الحياة، وفي تصوّر الفرد المسنّ لمكانته الإجتماعية، وفي تقديره لنفسه، وفي جدوى حياته في العائلة أو المجتمع. وإذا ضاقت جميع هذه المجالات، فإن لها أن تدفع بالفرد الى الشعور بالإحباط واختيار العزلة الإجتماعية. غير أن من الواضح أن أثر هذه العوامل يتفاوت بين فرد وآخر، كما أن هذا الأثر يعتمد الى حد كبير على المكانة المعنوية التي يحظى بها المسن في المجتمع والعائلة التي ينتمي إليها، وعلى مدى مساهمته بالنشاط والفعل الإجتماعي.
الشيخوخة السليمة جسمياً وعقلياً
إن وصف البعض بأنهم يعيشون شيخوخة سليمة خالية من وجود حالات مرضية جسمية أو عقلية واضحة، لا ينفي التغيّر في عضو أو آخر من أعضاء الجسم. فهذا التغيّر هو أمر طبيعي ومنتظر في مرحلة الكبر والشيخوخة، وإن كان يتفاوت درجة بين مسنّ وآخر تبعاً لاستعدادات الفرد الطبيعية وتبعاً للمؤثرات الإيجابية أو السلبية التي رافقت مسيرته الحياتية. فهذه التغيّرات تزداد سلبية كلما أسرف الفرد في استخدام طاقاته الجسمية والنفسية، وكلما كثر تعرّضه لمصادر الشدة والإجهاد في مراحل حياته السابقة. وأهم ما يتصف به الفرد المسنّ والسالم ظاهرياً من العلل والأمراض هو ضيق أفق اهتمامه بشؤون الحياة بصورة عامة، وضعف الذاكرة خصوصاً لما هو جديد من التجارب والأحداث، مع صعوبة في تعلّم مهارات جديدة، والبطء في مزاولة مهارات سبق اكتسابها.. والنقص في الطموح والإتجاه الى الركون الى حياة الماضي والى تأمل الذات والإهتمام الزائد بالصحة لدرجة تؤدي الى قيام حالة الوسواس المرضي، والميل نحو التشكيك في آراء الناس ونواياهم، وجميع هذه المظاهر قد تبقى ضمن الحدود التي لا تمس شخصية المسنّ، فيبقى نشطاً في جسمه صافي الفكر في عقله ومتماسك الشخصية، وقد يظلّ على هذه الحال حتى السبعينات أو الثمانينات، والى أن يصل بالنهاية الى وقت يصاب فيه بعارض صحي مفاجئ تنشأ عنه علّة مرضية لا يمكن تفادي أخطارها وتبدأ معها معاناة حقيقية في شيخوخته.
الشيخوخة المريضة
العلل والأمراض الجسمية التي تصيب المسنين كثيرة، منها ما هو طارئ، أو ما قد يأتي نتيجة حتمية ونهائية لعملية تدريجية من التغيرات العضوية المرضية، كأمراض القلب والشرايين والكلى والكبد والأمراض السرطانية... ومهما كانت الحالة المرضية فإنها تؤدي الى إختلال في توازن المسنّ مع ظروف حياته، فالمرض يجلب له شعوراً بالعجز والقلق والإكتئاب، وقد يكون بداية تحوّل جذري في سلوكه وتصرفاته وانفعالاته وعلاقاته مع الغير. ولعل من أهم خصائص الأمراض الجسمية في الشيخوخة ارتباطها المباشر وغير المباشر بالعلل النفسية والعصبية والعقلية، وقد يكون هذا الإرتباط وثيقاً بحيث يصعب التفريق بين ما هو جسمي من الأعراض المرضية، وبين ما هو عارض من أعراض الشيخوخة في حد ذاتها، وما ينجم عنها من خرف الشيخوخة الناتج عن التلف والضمور في الخلايا العصبية الدماغية أو وجود آفة في الدماغ.. وهنا يكون احتمال التأثير على الحياة العقلية للفرد أكبر... أما أهم الأعراض النفسية التي تظهر على المسنّ فهي: شعوره بالقلق وعدم الإطمئنان، والوسواس المرضي، الركون الى أفكار سوداوية، النقص في الثقة بالنفس وفي تقديرها.. وكل ذلك يزيد في عزلته وفي انفعاله واكتئابه.
علاج المسنين
يتطلب علاج الحالات المرضية الطارئة أو الدائمة للمسنين من الإهتمام أضعاف ما يتطلبه علاج الحالات المرضية في أي مرحلة حياتية أخرى، وسبب ذلك يعود الى طبيعة الأمراض التي يُصاب بها المسنّ ومعظمها أمـراض متزايدة الشدة، وقد يستغرق الشفاء منها فترة طويلة، كما أنها تعقّد الحياة النفسية للمسنّ وتزيد في تعقيدات واقعه العائلي والإجتماعي. ومع أن واجب العناية بالمسنّ عادة درجنا عليها في مجتمعاتنا فهو كان دائماً من ضمن اهتماماتنا العائلية، إلا أن معظم المجتمعات المتقدمة قد تخلّت عن هذه المسؤولية وهذا النمط من تصريف أمور المسنين وتوجهت الى تأسيس مراكز خاصة للعناية بهم صحياً ورفاهياً. هذا التـحوّل في العـناية بالمسـنين فيه رفـع لأعـباء عن كاهل عـائلاتهم، وفيه فوائد صحية هامة لهم، إلا أن فيه أيضاً ما ينوّه للمسنّ بأنه بالإبتعاد عن حياته العائلية والإجتماعية، قد وصل الى المحطة الأخيرة من العمر، وقد يكون في ذلك من المعاناة النفسية ما يفوق أي معاناة أخرى تأتي بسبب العجز والمرض. وقد دفع هذا الواقع الى الإهتمام بتوفير الأجواء التي تضمن للمسنّ الشعور بالسعادة والطمأنينة والإسناد (ضمن المؤسسات الصحية التمخصصة) ، فذلك يقلل من حدة معاناة المسن وينفي شعوره بالعزلة وبأنه أصبح عالة وعبئاً على غيره، ويشعره بجدوى الحياة. ومثل هذا العلاج النفسي له يقتضي وجود معالج متخصص بقدر ما يتطلب وجود إنسان يعرف كيف يكتسب ثقة المسن ويجعله يطمئن إليه. وفي هذه المرحلة من العمر، لعل أهم ما يحتاج إليه المسنّ، الى جانب العلاج الصحي الطبي، الذي له الأولوية قطعاً، هو ألا نحرمه من الأشخاص المقربين الى نفسه، أو التواجد في الأماكن التي توفر له الراحة وهدوء البال (كالحدائق مثلاً، والاستماع الى موسيقى هادئة..) وقد أثبتت الدراسات النفسية في مجال علاج المسنّ، بأنه من الخطأ أن نحرم المسنّ مما تعوّد عليه وما يمتّعه، على ألا يكون في ذلك خطورة على صحته (كالتدخين مثلاً..) ولعلّ من أكثر الأمور خطورة على المسنين هو تغيير مكان سكنهم. فقد يكون في هذا التغيير صدمة نفسية للمسنّ تؤدي الى الإكتئاب، وتؤذن ببداية الإنهيار في مقوماته النفسية والصحية العامة، وسبب ذلك يعود الى انقطاع حبل الروابط المألوفة في حياته.. وبالـنظر لارتباط مفهوم العمل بمفهوم الحياة في التفكير الإنساني، فلا بأس من أن نتيح المجـال للمسن للقيام ببعض الأعمال التي لا تتـطلب إلا جهداً بسيـطاً لأن انجـازها يجعله يشعر بالفعالية والكفاءة وبالتـالي بالتقدير لنفسه، إذ ليس ما هو أشد وقعاً على نفس المسنّ أكثر من أن يشعر بأنه أصبح عاجزاً ولا يستطيع القيام بأي عمل، أو أن مساهماته هي عبثية وغير مجدية. مشكلات الشيخوخة، تفرض علينا واقعاً لا بد من ملاقاته بالشكل الذي يقلل من معاناة المسنّ.. فالشيخوخة تطالبنا باحترام حقوق المسنّ وإحاطته بالرعاية والعطف والمحبة التي يستحقها المسنون لأنهم عملوا في حياتهم من أجلنا ومن أجل المجتمع، كما نعمل نحن اليوم من أجل مجتمعنا ومن أجل أبنائنا.