نقاط على الحروف

مركب الموت: وجع الأهالي هو وجع الجيش
إعداد: ريما سليم ضوميط

باءت محاولة الإيقاع بين أهل طرابلس والجيش بالفشل، وهذا ما كان محسومًا، لأنّ الفصل بين أهل الشمال والجيش هو أشبه بعملية فصل الشرايين عن الجلد. فالجيش للطرابلسيين والشماليين عمومًا هو شريك المعاناة الطويلة، وهم بالنسبة إليه مخزن رجاله. هؤلاء الرجال الذين سالت دماؤهم لوقف الاقتتال في المدينة منذ سنوات. وهو اقتتال كانت تشعله مصالح جهات سياسية، ويسقط ضحيته العشرات من أبنائها. الجيش الذي أوقف الاقتتال وأزال المتاريس لم يكتفِ بذلك، فقد سعى إلى بلسمة الجروح ورأب الصدع بين من كانوا بالأمس في خنادق متقابلة، عبر لقاءات ونشاطات في أحياء التبانة وجبل محسن. كان ذلك في السنوات الماضية، أما في الأزمة الأخيرة فقد واصل الجيش العمل عبر ضباطه المنتشرين على الأرض لتعزيز جسور التواصل والثقة مع الطرابلسيين. منذ أشهر وبينما خرجت أصوات تُصنّف طرابلس كبؤرة للجماعات الإرهابية، زار قائد الجيش العماد جوزاف عون الفاعليات الدينية في المدينة. أصغى إلى صرخات الوجع والمعاناة. وعد بالمساعدة بقدر ما تستطيعه المؤسسة، وأكّد من هناك أنّه لن يسمح بوسم المدينة بسمة الإرهاب بسبب التضليل الذي يتعرض له بعض أبنائها الذين يعانون تداعيات الفقر وانعدام الفرص أمامهم.

 

لكل ذلك، ولأكثر منه ما كان لعاقل أن يُصدّق أنّ الجيش تسبب بفاجعة المركب الذي غرق قبالة طرابلس، فاجعة وظفتها مصالح بعض الأطراف لتحميل الجيش المسؤولية وصرف الأنظار عن المسببين الحقيقيين: الإهمال المزمن لعاصمة لبنان الثانية وتركها رهينة الفقر رغم ما تتمتع به من ميزات تؤهلها لأن تكون عاصمة المتوسط، وحماية المهربين وتجار الموت الذين كانوا يجدون من يطلق سراحهم بعد أن يكون الجيش قد أوقفهم بالجرم المشهود.

 

الحملات المغرضة التي تعرض لها الجيش عقب فاجعة المركب التي آلمته بقدر ما آلمت الأهالي، وضع العماد عون بسرعة حدًا لها، إذ طلب حضور جلسة مجلس الوزراء التي عقدت للبحث في الكارثة وهناك عرض كل الوثائق التي تبيّن حقيقة ما جرى، مؤكدًا، نحن تحت سقف القانون، لكن لن نسمح لأحد باتهامنا زورًا أو بالمسّ بمعنويات عسكريينا.

 

همّ المؤسسة

لكنّ همّ المؤسسة لم يكن فقط الحفاظ على معنويات عسكرييها وعدم السماح باتهامها زورًا، إنّما الحفاظ على ثقة اللبنانيين عمومًا والأهالي المفجوعين خصوصًا، واحتضان هؤلاء والتأكيد لهم على شفافية التعاطي مع الملف وعدم توفير أي جهد لانتشال الضحايا، فالجيش الذي يستشهد عسكريوه لسحب رفيق شهيد من أرض المعركة، لن يسمح ببقاء جثث أهله في قعر البحر. لهذه الأسباب عملت قيادة الجيش بصدق وسرعة على التواصل مع الأهالي من خلال قائد القوات البحرية ومخابرات الجيش في الشمال مقدمة لهم بكل شفافية الأجوبة عن تساؤلاتهم. كما دعتهم إلى مواكبة عمليات البحث المضنية التي لم يتوقف الجيش عن تنفيذها منذ لحظة وقوع الحادث، وذلك من خلال المشاركة في طلعات جوية وأخرى بالمراكب البحرية. كذلك فتح قائد الجيش مكتبه لهم واستقبل وفدًا منهم بينهم عدد من الناجين، في حضور مدير المخابرات ورئيس فرع مخابرات الشمال وقائد القوات البحرية. فماذا جرى خلال الاجتماع؟

 

عرض الأهالي مصابهم بفقدان ذويهم، مشيرين إلى أنّ سوء الأحوال الاقتصادية هي التي تدفعهم إلى خيار الهروب بحرًا. جدّدوا ثقتهم بالمؤسسة العسكرية وحكمتها في معالجة هذا الملف، وناشدوا الاستمرار بأعمال البحث للعثور على باقي الأشخاص المفقودين.

 

من جهته، أكّد العماد عون أن «هذه الفاجعة أصابت الجميع، والضحايا هم أبناء الوطن أي أبناء المؤسسة العسكرية»، مشددًا على أن «التحقيق سلك مساره القانوني منذ اللحظة الأولى للحادثة الأليمة، وسيستكمل بكل شفافية وحياد».

 

ولفت قائد الجيش إلى أن «العلاقة بين الجيش وأبناء طرابلس متينة، ولا يمكن لأي كان أن يشوّهها لأي أهداف»، داعيًا أهالي الضحايا إلى «عدم السماح باستغلال هذه القضية».

 

وأكّد لهم أن «الجيش مستمر بأعمال البحث، وأن القيادة تواصلت مع الدول الصديقة التي تمتلك القدرات الخاصة بانتشال المركب وأرسلت لها كل المعلومات والمستندات اللازمة، وقد أبدت اهتمامها بهذه القضية الإنسانية، على أمل أن تتجاوب سريعًا».

 

يُذكر في هذا السياق أنّ قائد الجيش كان قد تناول هذا الموضوع خلال لقائه بالضباط قبل الانتخابات بأيام، مؤكدًا جدية العمل على انتشال المركب الذي استطاع مركب الهيدروغرافيا في القوات البحرية تحديد موقعه على عمق 470 مترًا في قعر البحر، و«هذا عمق لا يمكن الوصول إليه إلا بمعدات خاصة نسعى للحصول عليها من دول صديقة». وكشف أنّ اتصالات الجيش في هذا السياق «شملت الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين... ونحن بانتظار المساعدة».

 

عمليات البحث والإنقاذ: برًا وبحرًا وجوًا

إثر الحادثة المأساة، باشرت القوات البحرية في الجيش اللبناني، تؤازرها القوات الجوية، عمليات البحث والإنقاذ والمسح الشامل برًا وبحرًا عن المفقودين الذين كانوا على متن الزورق. وقد توزع العناصر على امتداد الشاطئ اللبناني من العبدة مرورًا بطرابلس ثم شكا، ثم البترون وصولاً إلى جونية في محاولة للعثور على أي من المفقودين.

 

تعتبرُ عملياتُ البحث والإنقاذ من أولويَّات القوات البحريّة. وعليه، فقد باشرت الخافرة وزورق التدخل السريع الموجودان في بقعة العمليات البحث والإنقاذ منذ اللحظة الأولى لتعرُّض المركب للغرق. وبعد رمي سترات ودواليب الإنقاذ المتوافرة على متنهما، بذل العناصر قُصارى جهودهم لإنقاذ أكبر عددٍ ممكنٍ من الركاب وقد تمكّنوا من إنقاذ 45 شخصًا.

 

لم تكن العملية بالسهلة، نظرًا لعدد المهاجرين على متن الزورق، وقد وُضع العناصر تحت ضغوط نفسيّة هائلة نتيجة وجود عدد كبير من الأشخاص من بينهم نساء وأطفال.

 

أما الصعوبة الثانية فتمثلت في النقص في المراكب ذات الحجم الكبير والسريعة، إذ إنّ معظم مراكب القوات البحرية يبلغ طولها 20 مترًا وما دون. ولا يوجد لدى القوات البحرية سوى مركب سريع واحد متوسط الحجم (طول 43 مترًا). بالإضافة إلى ذلك، كان هناك مجموعة من الصعوبات المرتبطة بحالة البحر وتأثيرها السلبي على عمليات البحث والإنقاذ، وصعوبة هذه العمليات ليلًا، بسبب عدم وجود العتاد الملائم للإضاءة الفعالة على متن الخافرات.

 

يوضح قائد القوات البحرية العقيد الركن البحري هيثم ضناوي أنّ عدد دوريات البحث والإنقاذ المنفذة من قبل القوات البحرية اعتبارًا من تاريخ ٢٣ نيسان الماضي لغاية 22 أيار بلغ 74 دورية، وما زالت الدوريات قائمة حتى الساعة، مشيرًا إلى أنّ البحث لم يتوقف إلّا لعدة أيام (١٣/١٤/١٥/١٦) بسبب الانتخابات النيابية.

 

من جهتها شاركت القوات الجوية في عمليات البحث واستخدمت لذلك طوافات من نوع بوما من السرب التاسع وطائرات من نوع سيسنا من السرب الرابع، كما شاركت طوافة من نوع Griffin من السرب الملكي البريطاني الرابع والثمانين المتمركز في قبرص صودف وجودها في لبنان لتنفيذ تمارين مشتركة مع السربين التاسع والخامس اللبنانيين.

 

قامت الطوافات بتنفيذ ١١ طلعة جوية ما مجموعه ٣٠ ساعة و٢٠ دقيقة طيران، أما طائرات السيسنا فقد نفّذت ٥ طلعات جوية ما مجموعه ١٦ ساعة و٣٥ دقيقة طيران، وذلك ما بين ليل ٢٣ و٢٩ أيار، أي لمدة خمسة أيام. كما نفّذ السرب الملكي البريطاني طلعة واحدة ولمدة ساعتين.

 

تم تحديد أماكن ٣ جثث قامت القوات البحرية بانتشالها من البحر.

 

بالنهاية، مأساة المركب الأخير يجب أن تكون درسًا لمن يدفع بمن سمحوا بوصول الأوضاع إلى هذا الدرك الرهيب، وحافزًا لعمل جميع المؤسسات المعنية وفق خطة تقضي على أسباب هرب شبابنا وعائلاتنا من الموت إلى الموت!

 

Spices 6

في الثامن من حزيران أُعلن أنّ الغواصة spices 6 ستصل إلى لبنان في غضون شهر لتعمل على انتشال المركب الغارق. وقد أتمت القوات البحرية في الجيش كل الاستعدادات وأنشأت غرفة عمليات في مركز طرابلس البحري بهدف إنجاح المهمة.

 

القوات البحرية ومكافحة الهجرة غير الشرعية

مكافحة الهجرة غير الشرعية من صلب مهمات القوات البحرية وهي تخصص لها الكثير من الجهد والقدرات، وقد سبق لها أن أوقفت الكثير من القوارب التي تنقل مهاجرين غير شرعيّين خلال الأعوام الماضية. ترتكز عمليات مكافحة الهجرة غير الشرعية على المراقبة والرّصد من جهة وعلى عمليات الاعتراض من جهة أخرى. تتم المراقبة من خلال شبكة المراقبة الساحلية لدى القوات البحرية بالإضافة إلى المراكب التي تقوم بدوريات في البحر لرصد النشاطات المشبوهة. وقد ساهمت أعمال تطوير الشبكة الراداريّة بتطوير قدرة القوات البحرية على رصد المراكب المشبوهة على مسافاتٍ بعيدة، ما يتيح لها تلقّي الإنذار المبكر والتدخل. أما عملية اعتراض قوارب الهجرة غير الشرعية فتنفّذها مراكب الاعتراض المتمركزة في القواعد أو المراكز البحريّة على طول الشاطئ، والمراكب التي تقوم بالدوريّات.