نحن وأولادنا

مستقبل أولادنا بين النظري والعملي: أكاديمي أم مهني؟
إعداد: المعاون أول جيهان جبور

في عالم يتسارع إيقاعه، وتتشعّب فيه متطلبات سوق العمل، أصبح السؤال حول مستقبل أبنائنا التعليمي أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى: هل ما زال التعليم الأكاديمي الخيار الأمثل، أم أنّ التعليم المهني بات يقدم حلولًا أكثر واقعية وارتباطًا بالحاجات الفعلية للمجتمع، بعدما تحوّل من مسار ثانوي إلى طريقٍ واعد؟

لطالما ارتبط التعليم الأكاديمي في الأذهان بالنجاح الاجتماعي والمكانة المرموقة، بينما حُصر التعليم المهني في أطرٍ ضيقة واعتُبر لعقودٍ طويلة «بديلًا أقل شأنًا». لكن الواقع اليوم تغير، فالمهن التقنية والحرفية باتت مطلوبة بشدةٍ، والعديد من الدول المتقدمة تبنّت استراتيجيات تدعم التعليم المهني كأساسٍ للتنمية والتقدّم. أمام هذا التحوّل، يجد الأهل أنفسهم في حيرةٍ: أي مسار يختارونه لأولادهم؟ وهل تأتي خياراتهم استجابة لقدرات أولادهم الحقيقية واهتماماتهم الفعلية، أم خضوعًا لصورة نمطية وضغوط اجتماعية؟
في هذا الإطار، تشير المنسّقة والأستاذة في التعليم المهني والتقني لصفوف الامتياز الفني والإجازة الفنية اختصاص العلوم التربوية، السيدة بلبلة سرحان، إلى أنّ المسارين الأكاديمي والمهني متساويان من حيث الأهمية، موضحةً أنّ لكلٍ منهما مزاياه وتحدياته إلى جانب فروقاتٍ معينة يفترض بالطالب الإحاطة بها قبل تحديد خياره الأمثل.

 

التوجيه المبكر
يشكل التعليم المهني مسارًا مناسبًا للتلامذة الذين يتميزون بقدراتٍ عملية ومهارات تطبيقية، في مقابل آخرين يبرعون في الذكاء الأكاديمي النظري وفق سرحان. وكما يتوزع طلاب التعليم الأكاديمي بين اختصاصات العلوم والآداب والاقتصاد والاجتماع بحسب اهتماماتهم وقدراتهم، فإنّ طلاب التعليم المهني تُتاح أمامهم مجموعة واسعة من الاختصاصات التي تلبّي حاجات السوق وتفتح لهم أبواب العمل باكرًا. وتلفت إلى أنّه لا بد من إدراك الفروقات في المنهج الدراسي بين المسارين الأكاديمي والمهني بغية توجيه التلامذة نحو الخيار الأنسب لقدراتهم وطموحاتهم. فإذ يشترك المساران في بعض المواد العامة كاللغات والرياضيات والعلوم، لكنهما يختلفان في طبيعة المنهج والهدف منه. فالتعليم الأكاديمي يركّز على المواد النظرية والتحليلية ويعدّ الطالب لمتابعة دراسات جامعية عليا في مجالاتٍ كالعلوم، والآداب، والحقوق، والاقتصاد والطب وغيرها. أمّا التعليم المهني والتقني، فيتميّز بطابعه التطبيقي إذ يرتكز على المهارات العملية، والمشاريع، والورش التدريبية التي تهيّئ الطالب مباشرةً لسوق العمل في مجالات مثل الكهرباء، والفندقية، والمعلوماتية، والتمريض والإدارة وغيرها من الاختصاصات. لكن ما يجمع المسارين هو أنّ كليهما يحتاج إلى الإتقان والجدية والالتزام كي يتمكّن الطالب من اكتساب المعارف والمهارات التي تؤهله للتقدم في مجاله.
وتشدد سرحان على أنّ توازن الميزان التربوي لا يُبنى فقط على توفير المسارات بل بترسيخ وعي مجتمعي حقيقي لقيمتهما المتساوية، وبقدرة المؤسسات التربوية والأهل على توجيه الأبناء وفق ميولهم وقدراتهم، لا وفق صور نمطية أو طموحات مفروضة. فكل من التعليم الأكاديمي والمهني طريق نحو النجاح إذا سلكه الطالب بثقة واختار ما يتوافق مع ميوله وشغفه.

 

تغيير نظرة المجتمع
في السياق نفسه، تؤكد سرحان أنّ الطلاب الذين يتوجّهون إلى التعليم المهني ليسوا أقلّ كفاءةً عن أقرانهم في المسار الأكاديمي، بل غالبًا ما يتميزون في مجالاتهم بفضل التخصص المبكر والتركيز على المهارة. ويظهر ذلك جليًا في تجارب العديد من التقنيين وأصحاب المهن المحترفة الذين أصبحوا رواد أعمال ناجحين أو خبراء مطلوبين في سوق العمل المحلي والدولي.
من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى تغيير نظرة المجتمع تجاه التعليم المهني، وإعادة الاعتبار إليه كخيارٍ واعٍ وذكي يناسب شريحة واسعة من الطلاب. فالكثيرون ما زالوا ينظرون إلى هذا المسار على أنّه خيار ثانوي يُلجأ إليه عند غياب الفرص أو الإخفاق في التعليم الأكاديمي، وكأن الشهادة الأكاديمية هي المعيار الوحيد للنجاح والمكانة الاجتماعية. والواقع أنّ نجاح الطالب لا يقاس بعدد السنوات الجامعية، بل بمدى توافق مساره مع قدراته وفرصه الواقعية في المستقبل.
وتشير سرحان إلى أنّ الدراسات التربوية الحديثة تؤكد أنّ التعليم المهني لا يقل قيمة عن التعليم الأكاديمي، بل يوازيه من حيث الجودة والتأهيل مع فارق أساسي هو أنّه يجهّز الطالب مباشرةً لسوق العمل بفضل التدريب العملي الذي يطوّر مهاراته ويجعله فاعلًا في مجاله بسرعة.

 

فرص محليّة واعدة
في لبنان، يغطي التعليم المهني والتقني نحو 35 إلى 40 اختصاصًا متنوعًا تشمل ميادين الصناعة، والتجارة، والخدمات، والتكنولوجيا، والفندقية، والصحة، والتربية وغيرها. ويُمنح الطالب حرية اختيار المسار الذي يناسب قدراته وميوله وطموحه، شرط أن يكون مدعومًا بتوجيه مدروس ومبكّر. من هنا، تشجّع سرحان على مباشرة هذا التوجيه في صفَّي السابع والثامن، أي في سن الثانية عشرة تقريبًا، حين تبدأ ملامح الميول والقدرات الحقيقية بالظهور.
وتوضح أنّ التوجيه يجب ألّا يقتصر على المحاضرات النظرية، بل عليه أن يشمل أيضًا زيارات ميدانية للمؤسسات المهنية بالتنسيق مع الجهات الرسمية، ليتعرف التلامذة مباشرة إلى المهن وآفاقها، ومتطلبات كل اختصاص.
كما تؤكد أهمية الاجتماعات الدورية مع الأهالي، إلى جانب إجراء اختبارات الأداء، من أجل تقييم كفاءات التلامذة وتحديد المسار الأنسب لهم. وبهذا التعاون بين المدرسة والأهل، يصبح التوجيه أكثر فاعلية، ما يسهم في بناء مستقبل تعليمي متين للتلميذ قائمٍ على الوعي والإدراك لا على الحظ أو العشوائية.

 

ميزان بكفّتين
تشير سرحان إلى أنّ التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تحتّم على المجتمعات الساعية للنمو أن تواكب هذا التقدم، وأن تضع التعليم في صلب رؤيتها المستقبلية. فعلى الرغم من الثورة الرقمية، يبقى العنصر البشري المتمكّن الركيزة الأساسية لأي نهضة حقيقية.
وفي لبنان، حيث تشكل الطاقات الشابة موردًا وطنيًا بالغ الأهمية، لا يمكن بناء مستقبل مزدهر من دون الاستثمار فيها عبر تعليم يواكب العصر. وهنا، يبرز دور التعليم المهني والتقني كمسارٍ موازٍ للتعليم الأكاديمي، فكلاهما ضروري لحفظ توازن التقدم وتحقيق مستقبل واعدٍ للجيل الصاعد. كما أنّ الغاية الأساسية من أي مسار هي تمكين الطالب من إتقان اختصاصه ليصبح منتجًا وفاعلًا في مجتمعه. فالطالب الذي يوجَّه بشكلٍ صحيح يمكنه بناء مستقبل مستقر، والإسهام في تطوير بيئته وحتى المنافسة على المستوى العالمي. وتؤكد سرحان أنّ خريجي التعليمين الأكاديمي والمهني لا يعيشون في عوالم منفصلة، بل يلتقون ويتكاملون في الميدان العملي؛ ففي المستشفيات نجد الطبيب والممرض والتقني، وفي المدارس المدرّس والإداري والفني، وفي المصانع المهندس والمشغّل والمراقب.. الجميع يعملون معًا ويكمّل بعضهم بعضًا.

 

بناء ثقافة تربوية
إنّ الجدل القائم بين التعليم الأكاديمي والتعليم المهني ليس صراعًا بين الأفضل والأسوأ، بل هو انعكاس لتطوّر نظرة الأفراد إلى مفهوم النجاح والتعلّم. فليس هناك مسار واحد يناسب الجميع، بل لكل طالب طريقه الخاص الذي يتقاطع فيه الطموح مع الإمكانات والفرص.
التعليم الأكاديمي ليس دائمًا الخيار الأوحد، والتعليم المهني ليس خيارًا ثانويًا. وهنا يأتي دور الأهل، والمدرسة، والمؤسسات الحكومية في توجيه الجيل الجديد نحو ما يناسب ميوله ومهاراته. الأهم أن نعيد بناء ثقافة تربوية تقدّر كل نوع من التعليم، وتوفّر بيئة تحترم الاختلاف وتدعم التنوّع في القدرات والخيارات، وتوجّه أولادنا نحو ما يناسبهم فعلًا، بعيدًا عن الصورة النمطية والتفضيلات المجتمعية. فالمستقبل لا يُصنع بالشهادات وحدها، بل بالكفاءة، والشغف والاستعداد للتعلّم والعمل… وكل طريق يُسلك عن قناعة وإيمان هو طريق نحو النجاح.